اسئلة ما بعد البريكسيت:

بيروت- جاد الحاج

 يجوز اليوم الحديث بمقدار لا بأس به من الحياد عن الآثار والنتائج الفورية لتصويت البريطانيين بنسبة 51,9% لمصلحة الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي مقابل 48,1% إلى جانب استمرار تلك العضوية، الأمر الذي يجزم وجود انقسام سياسي واجتماعي في البلاد وربما عبر أوروبا، علما أن لوضع من هذا النوع مخاطره الكبيرة القريبة والبعيدة على حد سواء. في الوقت نفسه، يبدو ضروريا وملحا البحث في مسائل الهجرة والاستثمار والمجالات الأخرى التي تستحق إعارة انتباه خاص على ضوء هذا التطور غير المسبوق في تاريخ الاتحاد الأوروبي. يكفي في هذا المجال أن نتذكر الذهول الذي أصاب مجمل أوروبا والعالم عندما صوت الفرنسيون تأييدا لمعاهدة لشبونة بهامش ضئيل لا يكاد يتجاوز نسبة 51%. صحيح أن بعض وسائل الإعلام البريطانية تتحدث عن تجربة خروج جزيرة غرينلاند التابعة إداريا للدنمارك والمتمتعة بالحكم الذاتي من الارتباط المباشر بعضوية الاتحاد الأوروبي. إلا أن هذه التجربة المسجلة قبل 31 عاما لا يمكن قياسها من حيث التأثير والمفعول بانفصال أحد أكبر ستة اقتصادات الاتحاد الأوروبي، ولا بالبعد المالي والسياسي والأمني والثقافي لبريطانيا. فجزيرة غرينلاند المتسعة اتساعا قاريا وشبه القطبية المتجمدة يسكنها ما لا يزيد على 56 ألفا يقيم أكثر من ربعهم بقليل )16500( في العاصمة نووك، الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة مباشرة تحت نقطة الدائرة القطبية. ويتوزع باقي السكان على مستوطنات صغيرة معزولة وموزعة على طول الشاطئ لا تتصل ببعضها بواسطة طرق برية، لأن الجزيرة مغطاة بالجليد على مدار السنة. ما يجعلها ديموغرافيا أقل شأنا من أصغر المقاطعات سكانا في بريطانيا.

نوك عاصمة جرينلاند
نوك عاصمة جرينلاند

حتى زعيم حركة المطالبة بالانفصال والانسحاب في مطلع الثمانينات وحاليا رئيس البرلمان في غرينلاند، لارس إميل يوهانسِن، لا يتردد في الإيضاح أن الهدف من حملتهم المؤيدة للخروج قضى بالتخفيف من الآثار الحادة المباشرة المترتبة على خضوعهم لبيروقراطية بروكسل من جهة، ومن جهة ثانية بالعمل على تحسين قدراتهم وفرصهم لناحية الاستغلال الأمثل للمورد الأساسي للعيش في بلادهم، أي الصيد البحري. عن ذلك النشاط وحصيلته النهائية، يقول يوهانسِن: »شعرت بفخر عظيم عندما فزنا في الاستفتاء في العام 1982. كان مجموع سكان أوروبا 500 مليون، ونحن في غرينلاند لم نكن سوى 50 ألفا، لكننا قلنا »لا« مع ذلك«.

أما السياسي الناشط في حملة الخروج كاي كلايست فيتذكر معلقا: »بكيت عندما أعلن فوزنا في الاستفتاء وأذكر قول رئيس المفوضية الأوروبية جاك ديلور أننا هذه الليلة خسرنا 60% من مجمل مساحة الاتحاد الأوروبي«. ويتفق كلايست ويوهانسِن على القول إن صيادي غرينلاند شعروا، وهم قد يشعرون في حال كون صيدهم البحري ضعيفا عاجزا عن المنافسة، باستياء شديد من جراء إبلاغ بروكسل إياهم مقدار الأسماك التي يمكن لهم صيدها من مياههم الإقليمية.

من ناحيته، يعلن رئيس مجلس إدارة بولار سيفود، وهي أكبر شركة خاصة للصيد البحري في غرينلاند، هنريك لِث، أن هذه الصناعة عرفت تغييرا ملحوظا بعد خروج الجزيرة من الاتحاد الأوروبي. ويستطرد شارحا: »بنينا قدراتنا بحيث أصبحنا اليوم نتمتع بصناعة قوية ومؤثرة«. وهو يلفت إلى أن أكبر شركتين للصيد البحري في الدنمارك هما »غرينلاندك وبولار سي فود« المعتبرة واحدة من أكبر عشر شركات صيد بحري في أوروبا. ولا ينسى أن يتناول ببعض التفصيل الاتفاق المعقود مع الاتحاد الأوروبي والذي يقضي في مقابل مواصلة غرينلاند السماح بولوج السفن الأوروبية المتواصل إلى مياهها تمتع الجزيرة بإتاحة الفرصة كي ترتاد بمنتجاتها البحرية سوق المجموعة )الاتحاد حاليا( مع إعفائها من التعرفات الجمركية. كذلك حصلت على تمويل من بروكسل علاوة على المال الذي تلقته ولا تزال تتلقاه من الدنمارك. والشيق في الأمر تفكير هنريك في ما إذا أضحى الوقت مناسبا حتى تعيد نووك التفكير في قرارها وتتأمل في الدخول مجددا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي الكاملة، لأن ذلك يمنح هذا المجتمع الصغير فرصة ارتياد أسواق كبيرة وغنية أكثر من الاتحاد الأوروبي كاليابان والصين.وهو في هذا السياق يوضح أن »لا تأثير لنا كقوة سكانية واستهلاكية في العلاقات والمبادلات التجارية الدولية«. كما يستطرد قائلا »لِغرينلاند الصغيرة كدولة مستقلة )أو شبه مستقلة( القليل من التأثير والنفوذ تجاه الصين. ما الذي يجدر أن نقدمه؟ أقصد أن في وسعنا إبلاغ الصين بأننا لن نشتري المنتجات الصينية. غير أن أيا من تجمعات المكاتب في أحد شوارع شنغهاي تضم أناسا أكثر بكثير من مجموع سكان بلادنا. هكذا لا يمكن لنا أن نمارس مقدار الضغط والتأثير ونوعهما نفسه تماما كما يمكن فعله من قبل الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى الكبيرة«. إلا أنه يقر بأن طلب الدخول مجددا إلى الاتحاد الأوروبي خطوة تنطوي على الكثير من المحاذير والمخاطر. مع ذلك، يستدرك وقع هذا الطرح عندما يعقب مستطردا بالقول: »لا بد من تحليل الأمر الذي يفترض أن يشكل دواء مراً ينبغي تجرعه، لكن من جهة ثانية أصبحنا نمتلك صناعتنا الخاصة بالصيد البحري ولن يكون في مقدورهم انتزاعها منا والعودة بنا إلى ما كان عليه الوضع قبل العام 1985، وهو عام خروجنا بالكامل من عضوية الاتحاد الأوروبي«.

من الواجب التنبه إلى حقيقة أساسية تكمن في أن اهتمام المراكز الفكرية والبحثية ينصب على العلاقة بين بريطانيا وباقي دول أوروبا، والاتحاد بخاصة، ولكن ما يحتمل أن يعني المصالح الاقتصادية والتجارية البريطانية في تعاملها مع الدول والشعوب غير الأوروبية قد ينسحب على التعامل مع البلدان العربية، علما أن لندن قد تتطلع إلى مد نفوذها وبسطه في الدول العربية التي لم تكن يوما تحت نير استعمارها أو انتدابها .في أي حال، لفت المراقبين على مدى الأشهر ال20 الماضية )وتحديدا حتى مطلع تموز )يوليو( الفائت( اهتمام وزارة المال بكل دوائرها تحت قيادة جورج أوزبورن باجتذاب الاستثمارات الصينية إلى بريطانيا انطلاقا من إيمان المعنيين بأن بيجين تنتهج سياسة استثمار محددة. في المقابل، لا نرى واضحا ولو في جزء ضئيل من هذا الاهتمام بالتوظيفات العربية. المرجح أن ذلك يرجع إلى أمرين: الصين حاليا هي ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم. من جهة أخرى، لا يبدو أن لأي من الدول العربية سياسة استثمار واضحة في ظل الضبابية التي تكتنف الفكر أو حتى المشهد الاقتصادي السياسي العام في العالم. مع ذلك، من الجائز للحكومات، أو حتى للمؤسسات والمجموعات الاقتصادية الكبيرة والأفراد المقتدرين في العالم العربي، اعتماد تدابير وسياسات استثمارية مستقبلية. وفي ما يلي سلسلة أسئلة وا ستفسارات أو استيضاحات المفترض الحصول على إجابات صريحة محددة بشأنها.

ما هي التبعات الفورية التي ترتبت على نتيجة الاستفتاء المفاجئة؟ وما الحظوظ أمام امتناع السلطات المختصة عن التقيد بنتيجة الاستفتاء المعتبر مؤشرا للمشورة والتوجيه وليس واقعا تقريريا؟

وما حقيقة استمرار لندن في التعامل بالجنيه الاسترليني وإمكان الحفاظ على قيمته المميزة باعتباره إحدى أقوى العملات الدولية الاحتياطية؟

وعدا النفط والغاز ماذا في الجعبة العربية امام الواقع الاقتصادي الجديد لبريطانيا؟