الكتابة عن غزة بعد عام ونصف من الرماد هي نزيف مستمر لوجع لا ينتهي ، جاء رمضان فقيراً وحافياً كما يمر على هذه المنطقة الأكثر يٌتماً في العالم حين وجدت نفسها فجأة تحت سيف الذبح بلا آباء ، فقيراً من الأبناء والروح وكل ممكنات الطقوس التي صاحبت الذاكرة الحزينة لما مضى قبل انفلات الجنون الإسرائيلي الذي حرق المكان وحافياً يلسع شوك الأيام أقدامه العارية والدامية من كثر الحصى الذي نثرته آلة العدوان الهمجية وجاء بعده العيد ليفتح كل سدود الدمع في المقل على ما فقدت غزة من الأبناء .
كان رمضان حزيناً حيث عادت دولة الإحتلال في مطلعه لإستخدام الجوع كسلاح لتركيع المنطقة مرة أخرى في محاولة لإذلالها والضغط على حركة حماس لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بعد أن فشل الدمار والعنف والوحشية في فعل ذلك وبتجربة اسرائيل فقد خضعت للشروط وسلمت بصفقة بعد إدراكها بأنه لا يمكن استعادتهم بالإرهاب المسلح ثم عادت كعادتها في التهرب والتنصل من الإتفاق أو من المرحلة الثانية له بعد أن رفضت مبكراً الدخول بمفاوضاتها التي كان يجب أن تبدأ في اليوم السادس عشر من بدء المرحلة الأولى والذي كان في الثالث من فبراير الماضي ومنها كان يفهم مبكراً أن لا مرحلة ثانية وأن الطبع الإسرائيلي قد غلب على التطبع .
أن يتصادف إغلاق المعابر والتجويع الممنهج مع بداية شهر رمضان الفضيل فتلك تضاف إلى حملة التعذيب الممنهج سياسياً الذي تمارسه اسرائيل بحق المدنيين في قطاع غزة هؤلاء الذين لم يجدوا بيوتاً يقيمون بها موائدهم ولا كهرباء يتسحرون على ضوئها ولا غاز يطهون به طعامهم ولا طعام يتدبرون به صيامهم ولا أحبة يتحلقون حول المائدة بعد أن فقدت كثير من العائلات أحبة كانوا يوماً مصدر دفئها وسحر رمضان وطقوس الفرح فقد حولت اسرائيل كل شيء إلى عزاء كبير .
خلال الشهر الماضي بين مادتين تم نشرهما في المجلة حاولتا أن تتوقفا عند المأساة المستمرة التي صنعها الوحش الإسرائيلي مناصفة مع صمت العالم كانت تمر مناسبات احتفالية تذكر العالم بنصف المجتمع أو سيدة المجتمع المرأة التي تحتفي بها البشرية كانت غزة فقيرة من البيانات السنوية التي تتوقف احتراماً لمرأة فلسطينية كانت استثناء في التاريخ العالمي حيث الظروف الإستثنائية التي سار عليها المسار الفلسطيني المتفرد في تجربته حيث ألقى التاريخ على كتف المراة الفلسطينية بأحمال ثقيلة كانت تقوم خلالها بدور لا يشبه دور النساء ولم تتردد هذه المرأة أن تكون بمستوى ما فرضته وقائع التاريخ بل قامت بأدوار مدهشة كانت جديرة بالإحتفاء بها وتعليقها على صدر تاريخ هذا الشعب .
في الثامن من مارس كان عيد المرأة ورغم الجرح الذي ينزف من خاصرة غزة لم تنس مؤسسات المرأة أن تذكر بالسيدة التي عاشت كوابيس الحرب وعيد الأم الذي يصادف الحادي والعشرين من مارس فللأم الفلسطينية رواية أخرى يخلدها التاريخ وهي تهرب بأطفالها منذ النكبة وصولاً للأم التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً للأم التي أدميت أقدامها وهي تتنقل بين السجون في زيارات الأبناء الأسرى من أبطال الشعب صابرة على كل هذا العذاب وهي توزع نفسها بين الشقاء وبين الكبرياء الذي صاحب تجربتها القاسية .
هذه الحرب خلال العام ونصف الماضية لا تشبه سابقاتها في الرحلة الطويلة للمرأة التي تعرضت للإبادة فخلال تلك الرحلة خلال العقود الماضية منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية الحديثة منتصف ستينات القرن الماضي كانت تٌعَرّف المرأة الفلسطينية بإعتبارها عنصر مساند للعمل الوطني وليس عنصراً رئيسياً مثل أم الشهيد وأم الاسير بالإضافة لأدوار ليست رئيسية في القتال والعمل المسلح لكن في هذه الحرب كان الأمر مختلفاً فما تعرضت له المرأة من سحق وموت وملاحقة لم يكن يقل عما تعرض له الرجل بل تشير البيانات إلى أن عدد مَن قتلتهن اسرائيل في هذه الحرب أكثر من عدد الرجال على الأقل في البيانات المعلنة لأنه لا زال هناك ما يفوق عن العشرة آلاف شهيد وشهيدة تحت الأنقاض يصعب الوصول إليهم وإليهن لأن اسرائيل دمرت معدات الإنقاذ ورفع الركام وممكنات الدفاع المدني الفلسطيني وتمنع إدخال معدات جديدة حتى بعد اتفاق وقف اطلاق النار وصفقة الهدنة التي نصت بشكل واضح على إدخال تلك المعدات .
قبل ثلاثة أسابيع نشر مكتب الإعلام الحكومي بغزة مذكراً المجتمع الدولي الذي كان يحتفي باليوم العالمي للمرأة مجموعة بيانات مؤلمة عما ارتكبته اسرائيل من مجازر كانت خسارة المرأة فيها شديدة الفداحة فقد كان عدد النساء اللواتي قتلتهن اسرائيل 12316 إمرأة وقد تسببت الحرب بترك 13901 إمرأة أرملة فقدت زوجها ومعيل اسراتها كما تركت الحرب ندوباً قاسية على 17000 إمرأة ثكلت بفقدان أبنائها أو إبن واحد على الأقل أما عن الإصابات فقد تركت الحرب 2000 إمرأة ستلازمهن الإعاقة جراء بتر أطرافهن أما الإصابات العادية اليومية فهي بعشرات الآلاف ناهيك عن إصابة 162000 إمرأة بأمراض معدية .
أما حالات الولادة فقد وضعت 50 ألف إمراة مواليدهن في ظروف غير إنسانية حيث انهيار المنظومة الصحية اضطر الأطباء القيام بعمليات توليد بعضها قيصري بلا مواد تخذير وترافقت تلك الولادات مع ضعف في الوضع الصحي للمرأة نتاج عملية التجويع التي مارسها الإسرائيلي ونقص الإحتياجات الغذائية للمرأة الحامل بالإضافة للنساء اللواتي تعرضن للإعتقال والإهانة والإذلال بعضهن تمكنت وسائل الإعلام من تصويرهن وتحدثن عن التجربة التي لم تخلو من التعرض للشرف وتجريدهن من الملابس أمام الجنود في مشهد لا يمكن أن ينسى عدا عن نساء أشرن لنوع معين من التحرش ورفضن نشر تلك المقابلات كما قال أحد الصحافيين من غزة الذي أجرى لقاءات مع بعض من تعرضت للحدث خوفاً على سمعتهن وفقاً للتقاليد العربية وكثير منهن آثرن الصمت .
لم تكن المرأة في الحرب حدثاً على هامش الأحداث كما يحدث في كل الحروب حيث تتم بين قوات مسلحة مع تجنب المدنيين كالنساء والأطفال لكن في هذه الحرب كانت المرأة هدفاً للموت والقتل وعدا عن ذلك كسلوك وحشي تجاوز كل أخلاقيات الحرب ومعايير الصراعات بين المتحاربين لكن المرأة في هذه الحرب كانت تحمل على أكتافها أكبر مما تحتمل قدرتها وطاقتها وأنوثتها التي نسيتها إذ وجدت نفسها نازحة في خيمة بعيداً عن منزلها الذي تهدم ووجدت نفسها بلا امكانيات وجدت نفسها فجأة تتحمل المسؤولية كاملة في هذه الحرب بمسؤوليتها المعتادة كأم ولكنها أيضاً حملت مسؤولية الأب والعائلة الكبيرة مسؤولية يومية تتمثل في البحث عن مكان آمن تنصب فيه خيمتها لإيواء نفسها وأبنائها ومسؤولية جمع الحطب حيث لا غاز للطهي مع عودة غزة للعصور القديمة ومسؤولية البحث عن طعام وسط جريمة التجويع التي يمارسها جيش الإحتلال من المؤسسات التي تمكنت من إدخال بعض المواد الغذائية وتوزيعها تجد المرأة في أحيان كثيرة نفسها تصطف في الطوابير لتأمين بعض المعلبات للأبناء ثم تكتمل رحلة الشقاء بإيقاد النار بعد جمع الحطب وصناعة وجبة مقبولة من تلك المعلبات يتمكن الإبناء من التغلب على الجوع الذي تسبب بوجع دائم قبل أن تعود اسرائيل تغلق المعابر مرة أخرى بعد انتهاء المرحلة الأولى لتتكرر رحلة الوجع من جديد .
دفعت المرأة الفلسطينية في غزة فاتورة الحرب مضاعفة كان أسوأها الإحتياجات الخاصة للمرأة والألم النفسي الناتج عن خصوصيتها البيولوجية مثل ضرورات دورة المياه التي انعدمت خصوصيتها لمن يسكنون في الخيام لكن المرارة كانت في التفاصيل الصغيرة كإنعدام الفوط الصحية عندما تباغتها الدورة الشهرية وتغرق في نفسها ومع انعدام البدائل كان وضع المرأة كارثياً ومع استحالة الإستحمام اليومي والروائح كانت تتحطم النساء بعضهن تمنين الموت على لحظات كانت أنوثتهن تشكل عبئاً عليهن وكان الخوف والبكاء والشعور بفداحة الخسارة وحجم المسؤولية والفشل في القيام بها لإنعدام ممكنات الحياة كان الوضع كارثياً تسبب بالكثير من الأذى النفسي كان من نتائجه زيادة المشاكل الأسرية وشعور بفتور علاقاتها الإنسانية مع الزوج والأهل .
عادت المرأة للشقاء حيث قيامها بدورها المنزلي بشكل يدوي لإنعدام الكهرباء وغياب الأجهزة الحديثة مثل غسالة الملابس لتضطر بالقيام بذلك يدوياً في ظل انعدام المياه التي اضطرت كثير من النساء اللواتي فقدن أزواجهن للسير لمسافات طويلة لنقل هذه المياه ويقاس عليها الكثير من المهمات التي تحولت إلى عمل شاق خلال فترة الحرب كل هذا كان يصاحبه الأرق اللحظي الذي لم يفارق المرأة في غزة نتاج الخوف على الأبناء والزوج وما خلفه ذلك من آلام نفسية كانت أكبر لدى من فقدن واحداً من أفراد الأسرة .
مملكة المرأة بيتها كما يقال وحين انتقلت المرأة للخيام فقدت خصوصيتها حيث الحياة في خيمة بلا أبواب ولا حواجز تعزل عن الخيام الملاصقة ونتاج العادات والتقاليد العربية تحولت المراة إلى عبء نفسي على الاهل كانت تشعر بتلك المأساة بسبب ذلك مصحوباً بالحاجة والفقر اضطر الكثير من الأهالي بدفع بناتهم للزواج بلا مهر ولا طقوس للزواج على سبيل التخلص منهن وتلك كانت إهانة كبيرة وقد أطاحت الحرب بأحلام النساء الكثيرة التي كانت ببيت وسعادة وزواج وطقوس للفرح .
ومع كل الوحشية ومحاولات اسرائيل بتدمير المجتمع وأعمدته الرئيسية إلا أن المجتمع في غزة قدم قدرة مدهشة على البقاء وهو يخرج من بين الحطام ، خرجت المرأة مع كل المعاناة التي تركت ندوباً على روحها نتاج الحرب لكنها لم تستلم لليأس عادت لبيتها المهدم تجمع الحجارة ترمم ما تبقى تنظف الركام والغبار تعيد إنشاء مملكتها وبيتها ومطبخها وأشيائها في محاولة لتحدي اليأس الذي أراده الإحتلال من كل جريمته ودفع الناس للرحيل لكن عماد البيت وهو المراة يلعب دوراً مركزياً في التصدي والعمل بشكل أكثر تصميماً مسلحة بإرادة البقاء فالمراة هي عماد البيت كما يقولون في السلم ولكنها في الحرب أثبتت ذلك بشكل مدهش وبعد الحرب أيضاً فالبقاء هو كلمة سر الفلسطيني على هذه الأرض كانت المراة الفلسطينية تكتب صفحاته المجيدة بدمها وبمعاناتها وبأحلامها وذكرياتها وبكل ما امتلكت من إصرار كان أشبه بمعجزة استدعتها من مخزون إرادة لم تنضب بل أن التجربة تقول أن لديها ما يكفي لصناعة مستقبل سيظل مزاحما للإسرائيلي على هذه الأرض ولن يطأ اليأس عتبة جباه المرأة التي ظلت شامخة في أسوأ الظروف .