جعلت من شعرها منبرًا لثقافتها الإسلاميّة، عاشت في زمنٍ شهد الكثير من التقلّبات السياسيّة، استطاعت أن تجمع بين الحداثة والأصالة، وبصوتها الخاص تحدّثت عن مشكلات مجتمعها، وتناولت قضايا التفاوت الطبقي، لم ترتهن لما لا يشبهها، وإذ أنّها نشأت تحت كنف والدٍ محب وحريص على تزويدها بالمعرفة والثقافة، واجهت مجتمعًا كان لا يزال يرزح تحت عبء التقاليد ويعكس صورة نمطيّة مذلّة عن المرأة، كانت نسويّة لم تنصفها النسويّة فتجاهلت تأبينها، كانت محاربةً في زمن يبدو فيه الاستسلام حاجة، قالت “لا” كثيرة، أورثتها حزنًا برز في كثير من مضامين شعرها.
بروين اعتصامي (1906- 1941)
كان اسمها رخشندة اعتصامي، ولدت العام 1906في مدينة تبريز، اختارت اسم “بروين” وهو يعني الثريا في الفارسيّة، لقبًا شعريًّا اشتهرت به، عاشت في كنف عائلة محبّة للعلم والأدب، فكانت ابنة وحيدة لعائلتها، وأخت لأربعة ذكور، كان والدها “الميرزا يوسف اعتصامي” كاتبًا ومترجمًا شهيرًا، ومدير مجلة ثقافية، وأمها “أختر فتوحي” كانت ابنة شاعر بارز “ميرزا عبد الحسين مقدم العدالة” وقد توفيت ولا تزال “بروين” طفلة صغيرة. وعبّرت في قصيدتها “الطفل اليتيم” بجزالة عن مرارة الحرمان من الأمّ:
“لم أر وجه أمي أبدا
والطفل اليتيم عيونه ليست فرحة
كم جميل نور وجه الأمّهات
لكن لماذا لا أرى نورًا أمامي”.
تقول الدكتورة والباحثة في الأدبين العربيّ والفارسيّ “دلال عباس” ( في محاضرة ألقتها في مؤتمر عن الشاعرة بروين اعتصامي، في قطر العام 2007 من شهر نيسان.): “كانت طفلة حين انتقلت عائلتها إلى طهران التي كانت في حينها مركز الحياة الثقافيّة في إيران، وكان والدها السيد يوسف اعتصامي مدير مجلة “بهار” وهي أوّل مجلة فنيّة في المرحلة التي أعقبت الثورة الدستوريّة. وعلى يده تعلّمت الفارسيّة والعربيّة. وتعرفت إلى أعلام الأدبين، وقرأت القرآن”.
تلقّت تعليمها في المنزل على يد أبيها وكبار الشعراء وأساتذة اللغة الفارسيّة، وأكملت الثانوية في المدرسة الأميركيّة للفتيات ممّا أكسبها ثقافة إنكليزيّة وتخرّجت منها في العام 1924، وعملت فيها مدرّسة، وعلى الرغم من نشأتها في جوّ أسريّ منفتح وداعم، إلّا أن المجتمع الخارجيّ كان متغوّلًا وغير ناضج فكريًّا فيما خص حقوق المرأة، وقد أخذت على عاتقها تحديّ ذلك، وفي شعرها الكثير من الدعوات لتحسين وضع المرأة وانتقاد لكلّ من وما يعيق تطوّرها، ومع ذلك يُشار إلى أنّ ديوانها الأوّل طُبع بعد زواجها في العام 1935، وهي كانت على شهرة واسعة يقرأ قصائدها الناس في مجلة “بهار” التي يملكها والدها.
تنقل الكاتبة مريم ميرزاده في مقال عن الشاعرة (نشر في 21 أيلول 2021 جريدة الأخبار)؛ عن الشاعر والباحث في الأدب الفارسي الدكتور سعيد نفيسي، قوله: ” إنّ بروين كان لها وجهٌ هادئُ الملامح يزيّنه الحياءُ ونظرتها الشهيرة إلى أسفل دائماً عند الحديث، ومنطقٌ وقورٌ وفصيح، حتى أنها لم تكن لتبديَ أيّ عُجبٍ وفخرٍ بذاتها حين يمتدحونها، بل كانت لا تسعى للظهور والشهرة أبداً.”
وبترجمة ميرزاده تقول الشاعرة:
“القلبُ الطاهرُ مرآةُ وجه الله
هي مرآةٌ لا تصدأ
الجسدُ الذي امتطى حصان الهوى عمراً
لم يدرك يوماً أنه کان بلا سرج”.
الشرابُ المرّ
ولكن حياتها الهانئة انقلبت بزواج تعيس من ابن عمّ أبيها الذي كان عنصرًا للأمن في مدينة “كرمنشاه”، تزوجت وهي في الثامنة والعشرين، اختلفت الطباع وتنافرت الأنفس، فاللطافة في مقابل الجمود وصلابة الطبع، والروح الشاعرة في مقابل بلادة الحسّ، والطهارة في مقابل الرجس، فيُذكر أنه كان مدمنًا وصاحب سلوك منحرف.
كان هذا الزواج حدثًا مأساويّا قلب موازين حياتها، وأورثها كآبة في رؤيتها الشعريّة، داوتها بفلسفتها الدينيّة وإيمانها بالقضاء والقدر.
زواجا لم يدم أكثر من أربعة أشهر وترك في نفسها ندوبًا لم يلحق أن يصلحها الزمن، وبعد عام حصلت على الطلاق بعد أن تنازلت عن حقوقها. كانت العائلة المقربة داعمة لها في كلّ قراراتها ولكن المجتمع الخارجي كان لا يزال متمسّكًا بالعادات والتقاليد التي تذم المرأة وتنتقص من مقدراتها، مما جعل الشاعرة في عزلة وابتعاد لم تذكر تفاصيلها في أشعارها، ولكن لم يسلم بيت من وخز الألم وأنين الحزن وهو يشم صدرها بألوان المتاعب.
“ما شرّبوه لي كان مرًّا
يجب أن نشرب خمرة القدر..”
“أيتها الياقوتة مع كلّ صفاء قلبك المنير
ماذا رأيت سوى هذا المشتري السافل..”
وتقول:
“لا تذكر نور التجلّي في حضرة الشمعة
فليس كل من يملك عصًا هو موسى بن عمران..”
شاعرة الوعي والرسالة
لم تعلق اعتصامي في دائرة أحزانها الداخليّة، كانت واعية لثورة عصرها مدركة لأبعاد الخطابات، فهي الرافضة للجهل القاجاري في الحقبة السياسية القاجاريّة (دولة إيرانية حكمتها السلالة القجارية المنحدرة من قبيلة قاجار من أتراك الأوغوز واستمرت قائمة من سنة 1789 حتى 1925) رفضت العبودية البهلويّة للغرب ( دولة أسست إثر قيام رضا بهلوي بالانقلاب ضد الشاه أحمد مرزا القاجاري حكمت حتى صعود الثورة الإسلاميّة 1979)، ولم تهادن طلب الشاه “رضا بهلوي” تعليم زوجته الملكة، وكذلك رفضت قبول جائزة منه وسام الرتبة العلميّة الثالثة. واعتبرته إهانة بحقّها. واستجلب عليها ذلك رفض الحكومة إقامة مراسم عزاء حين وفاتها وتم دفنها في مقام السيّدة المعصومة في مدينة قم.
وتُفيد الدكتورة عبّاس: ” بروين اعتصامي شاعرةٌ إيرانيّة استطاعت على مدى عمرها القصير، أن تغرز اسمها في مجلّد الشعر الفارسيّ، في زمن كانت المرأة لا تزال تحت ثقل العادات والتقاليد، وكان الجوّ السياسيّ مضطربًا، ركنت إلى ينبوع العلم والتثقّف، ونهلت من معين أبويها الحكمة والمعرفة وحبّ الأدب”.
كانت أفكارها -بحسب ما تذكره- الدكتورة عباس تتحرك في مسارين، تناولت كل جوانب الحياة الإنسانية، فلسفة الوجود وسرّ الخليقة وتعقيدات حياة البشر وارتباطها بما بعد الطبيعة، ولم تغفل حياة الإنسان العادية ومصيره وواجباته في الدنيا.
” يا بروين الأغنياء لا يشعرون بهمّ المساكين
لا تدقّي عبثًا، فهذا الحديد بارد”

احتفى النقاد بشعرها فتنقل الدكتورة عباس عن أحد النقاد، نصر الله تقوي، قوله: “سلكت في قصائدها طريقة ناصر خسرو وأسلوبه، بانسجام خاص، كما أن أراءها في القضايا الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية منسّقة ومنظّمة.” وعنها قيل: “أكبر شاعرة متصوفة وقد تعمّقت في عالم العرفان والمعرفة إلى حدّ فائق. وتأثيرها في عالم الأدب الإيراني باقٍ وخالد…”
وذكرت عن أن تأثير كبار شعراء إيران مثل سعدي وحافظ كان جليًا في كثير من أبياتها. وتذكر أنها كانت من الشعراء المحافظين في تصنيف النقاد، حافظت على الأوزان التقليدية، وجدّدت في مضامين الشعر، وتطرقت إلى الموضوعات الاجتماعية، واستطاعت التوفيق بين أسلوب القدماء وأفكار المجددين.
وتضيف: “في ديوانها الذي يضم 6500 بيت من الشعر تجد القصائد والمثنويات والمقطوعات والشعر القصصي، حيث يمتزج أسلوب المتقدّمين في الجوانب الأخلاقيّة والعرفانيّة وأسلوب المناظرة.” لقّبها البعض بـ “لافونتين عصرها” لاعتمادها أسلوب المناظرة القصصيّة في كثير من شعرها، ومن ألقابها “سيدة الشعر الإيراني المعاصر” .
ثقافتها الدينية ارتسمت في معاني فكرها وتناولت أحوال المجتمع والناس وفي قصيدة نظمتها وطلبت أن تكتب على شاهد، يتجلى وعيّها الوجوديّ وإيمانها، وكذلك ضعف الإنسان ومرارة العيش، تقول:
“هذه التي تتوسد التراب الأسود
هي بروين كوكب أفلاك الأدب
مع أنها لم تر من الأيام سوى المرارة
فإنّ كلامها العذب يختصر الكلام كله..
صاحبة هذه الأقوال كلها
تستجدي الفاتحة وياسين
ما أحسن أن يتذكرها الأصدقاء
فالقلب بلا صديق قلبٌ حزين
التراب الذي ملأ العيون لا يطاق
والحجر فوق الصدر ما أثقله
فلير هذا الفراش ويعتبر
كلّ من له عينٌ تبصر الحقائق.”
وفي مقطع تختم بالقول:
“لا حلّ سوى التسليم ولا أدب غير الطاعة..”
عليكِ أن تحملي أثقال القدر
على الرّغم من أنّ تربيتها الدينيّة الإسلاميّة تظهر جليّة في شعرها، إلّا أنها سعت إلى نقل صورة الإسلام المنفتح على الآخر، والذي يشجّع على المساواة بين المرأة والرجل، والذي يدعو إلى تكريم المرأة وصونها، في وجه الأعراف والتقاليد التي تحدّ من خياراتها.
“النار لا تصبح بردًا وسلامًا إلّا للخليل
الدين يأمرك بالعمل، والعمل بالصدق
فهذه الآلام لا يداويها الكلام..”
تشير الدكتورة عباس إلى عصر بروين قائلة: ” إنّ المجتمع بعامة في عصرها كان ينظر إلى المرأة نظرة دونيّة، حتى رجال الدين المتنوّرين الذين شاركوا في الثورة الدستوريّة، لم يتطرّقوا… إلى سوء الأوضاع التي تعاني منها المرأة الإيرانيّة، والذين طالبوا بتحرير المرأة تأثروا بالأفكار الغربيّة، …لأن التقاليد كانت أقوى من أوامر الدين ونواهيه…”
فتقول الشاعرة:
“كيف تكون مرشدًا وقد ضللت الطريق
كيف تكون مشرّعًا وأنت جاهلٌ بالأحكام
لماذا حُرمت النساء من حقوقهنّ
لماذا أُسقطت أسماؤهن من كلّ دفتر..”
وهي المثقّفة التي لم يعمِها التعصُب، ولم تركُن إلى ضيق الفكر، وهي المتنوّرة ثارت على ظُلمات الجهل، وقالت ما عجز الكثيرين عن قوله:
” لم يسطر القضاء في أي دفتر أو كتاب
أنّ الكمال للرجال وأنّ النقصان للنساء..”
وفي شعرها القصصيّ، اتّخذت من آيات القرآن الكريم ميزانًا لمعاني شعرها، ولا يحتاج الأمر لبحث وتدقيق لتلمّس ذلك، فهي تقول:
“واجعلي الحرص والهوى تحت سيطرتك”
وتقول:
“لا تغتم بالحزن، ولا تفرح بالفرح\ فلا الفرح يدوم في هذه الدنيا، ولا الأحزان..”
وتقول:
“ماذا أعطيت سوى درهم وتريد عوضًا
الجنة ونعيم الأرض والسماء..” ولها قصيدة طويلة بعنوان “موسى” تستلهم من حكاية النبيّ الكثير من معاني التفكّر في الوجود.
آمنت بالقضاء والقدر محاولة ترويض الألم، فهي عاشت في ظل دكتاتورية الحكم، الفقر المدقع والغنى الفاحش، والظلم اللاحق بالمرأة، دونية المرأة في المجتمع العام وفشل الزواج:
“عليكِ أن تحملي أثقال القدر لا أحد يمكنه التخلص من هذا الحمل”..
وتقول:
” نحن لا نخاف من القدر والحظّ
فنحن نعلم عمق هذه الدوّامة الصعبة..”
وفي كثير من شعرها الذي ظاهره التسليم، تظهر الصعوبة والمعاناة في المواجهة، فمهما بلغت رغبتها بالتحرّر إلّا أن المعوقات كثيرة، وقد يظهر ضعفًا في المواجهة عند الشاعرة، وذلك قد يعود إلى طبيعتها الثائرة في خجل، ربّما، والمؤمنة بأن هذه الدنيا زائلة، وأنّ المحاربة تحتاج طاقة صمود وتحدّ تفوق احتمالها. وخاصة أنّها توفيت في عمر صغير، قد لم تتمكن فيه بعد من تقبل خباثة هذا العالم.
“حمامة صغيرة مشتاقة إلى التحليق
تجرّأت يومًا وطارت
لا فكرها استطاع أن يدرك الفضاء
ولا كانت لديها القدرة على العودة من هذا الطريق..”
سُمي يوم الخامس عشر من شهر آذار من كلّ عام، اليوم الوطني لـ “بروين اعتصامي” في إيران، لتكريمها وتقدير جهودها العظيمة في مجال الشعر الإيراني المعاصر وأسلوب المناظرة الشعرية. وقد سُجّل اسمها في قائمة اليونسكو لمشاهير العالم. ولها تمثال من البرونز بالقرب من منزلها في تبريز، مما يخبر عن عظمة تأثير هذه الشاعرة في مجتمعها وجلالة قدرها.
