الشاعر والمهنة… وقفة وتأمل

عَرَّفَ الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه الفريد (كتاب العين) المهنةَ على أنها (المهارة والحذق في العمل ونحوه). وقد ورد قديما (أن مهنة الشخص عمله).كما اتفقت كلمة معاجم العربية على أن مِهْنَةُ ومَهْنَةُ ومَهَنَةُ ومَهِنَة هي الحِذْقُ بالخِدْمَةِ والعَمَلِ. وقد تأتي بمعنى الخدمة كقولهم مَهَنَهُ مَهْناً ومَهْنَةً ومِهْنَة أي خَدَمَهُ. ومَهَنَ الإِبِلَ حَلَبَها عند الصَّدْرِ، ومَهَنَ الثَّوْبَ جَذَبَهُ. وتُجمع على مِهْنات ومِهَن. ويقال امتهن أي اتخذ مهنة؛ ومنه وصف (مِهَنيّ). إلا ان الأصل في الحِرَفي أنه امتهن مهنة فمارسها حتى أبدع فيها وأصبح خبيرا بها؛ على ان الحرفة في اللغة هي الفعل المتكرر بنوع العمل فيقال (حِرْفَتُه أَن يفعل كذا): دَاْبُه ودَيْدَنُه. وعلى هذا فالحرفة أخص من المهنة.

على ان القرآن في معرض حديثه عن المهن استعمل لفظ (الصنعة) كما في قوله تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)؛ وهي تدل على الكمال والاتقان، كما في قوله تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).

ومن هنا فان المهنة أساسها العمل؛ فمن دأب في عمل فهو (مهنيّ) وإذا تخصص فيه أصبح حرفياً. أما إذا اتقنه فهو صانع.

وقد زخرت كتب التاريخ والتراث بأخبار الكثير من الشعراء المهنيين. مثل أبي الحسين الجزار الذي كان يعمل بالجزارة كأبيه. وابن أبي الربيع الخياط. ويكاد يكون أشهر الشعراء الحرفيين السراج الوراق؛ الذي كان شاعر مصر في زمانه. قال أبياتاً يصف فيها حرفته:

خجلتي وصحائفي سُوداً غَدَت

وصحائفُ الأبرار في إشراقِ

وموبّخ لي في القيامة قائللٌ

أكذا تكون صحائفُ الورّاقِ

ومنهم أيضا عين بصل إبراهيم بن علي بن خليل الحرّاني.  كان حائكاً. وكذلك محمد بن دانيال بن يوسف الموصلي الحكيم وله أبيات مشهورة في صنعته قال فيها:

يا سائلي عن حرفتي في الورى

وضيعتي فيهم وإفلاسي

ما حال من درهم إنفاقه

يأخذه من أعين الناس

ومن الطبيعي أن يتأثر الشعراء بمهنهم كما أن المهنة قد تؤثر فيهم. فنلحظ عند قراءتنا لقصائدهم وأشعارهم ألفاظا أو تراكيب أو صورا تؤكد ذلك.من ذلك ما قاله الشاعر النجار:

ولا بد لي من نجركم بعد كسركم

فقد تلفت روحي ودبَّت من الفزعْ

وأقطع فيكم ثم أنشرُ ذكرَكُمْ

فبابكمو في الحب عندي قد انخلعْ

ولذا فهناك من تأثر بالمهنة وهناك أيضا من أثرت المهنة فيه؛ لكن السؤال الذي يطرح عادة هو مشروعية اتخاذ الشعر مهنة يتكسب منها!؟

نعم قرأنا ونقرأ في كتب التاريخ الكثير من الشعراء على مرِّ العصور قد امتهنوا الشعر للتكسب؛ ليس هذا فقط بل أصبح مطية لدى البعض لبلوغ المآرب سواء المادية أو السياسية أو الاجتماعية أو غيرها. إلّا أنَّ توظيف الشعر – هذه الأداة الفنية المذهلة التي تستعمل المشاعر والأحاسيس فتثيرها صورا غاية في الجمال – في هذه الغايات إنما يقوّض المبادئ الأساسية التي قام عليها الشعر.

نعم (أعذب الشعر أكذبه) كما يقال؛ لكن ذلك إنما يكون في تكوين الصورة الشعرية وخلق التراكيب البلاغية والفنية وليس من باب الكذب في المشاعر والأحاسيس. فالشعر في حقيقته أعظم الفنون الإنسانية التي تتعامل مع الروح والمشاعر ولا ينبغي تعريضه لعوامل المادة الخارجية لكي يبقى سامياً كما بدأ.

ومن يقرأ الفترة التاريخية التي اتخذ فيها البعضُ الشعرَ وسيلةً للتكسب وقد سمي آنذاك بشعر الكدية أو الاستجداء ستجده على الدوام في خانة التقريع والنقد اللاذع. لذلك لا بد من صون الشعر من هكذا أمور والارتفاع به لسمو الملائكية أو (الجنيّة) التي عُرف بها منذ تم ابتكاره.

ومن المهم تبيينه أن هناك من عارض التكسب في الشعر ورأى فيه منقصة للشاعر لا للشعر. ووصف الشعر المتكسب فيه بالنفاق.

ومن الصور على نقد التكسب في الشعر بل ومحاولة صده والوقوف بوجهه. ما روي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حينما أفضت إليه الخلافة؛ إذ وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان مِنه بمكانة؛ فتعرض له جرير وقال :

يا أَيُّها الرَجُلُ المُرخي عِمامَتَهُ

هَذا زَمانُكَ إِنّي قَد مَضى زَمَني

أَبلِغ خَليفَتَنا إِن كُنتَ لاقِيَهُ

أَنّي لَدى البابِ كَالمَصفودِ في قَرَنِ

لا تَنسَ حاجَتَنا لاقَيتَ مَغفِرَةً

قَد طالَ مُكثِيَ عَن أَهلي وَعَن وَطَني

فقال نعم يا أبا عبد الله. فلما دخل على عمر بن عبد العزيز قال : يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وألسنتهم مسمومة وسهامهم صائبة،

فقال عمر: مالي وللشعراء ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله مُدح فأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم. قال: صدقت ، فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي؛ قال : لا قرّب الله قرابته ولا حيا وجهه. أليس هو القائل :

فَيا لَيتَ أَنّي حَيثُ تَدنو مَنيَّتي

شَمَمتُ الَّذي ما بَينَ عَينَيكِ وَالفَمِ

وَلَيتَ طَهوري كانَ ريقَكِ كُلَّهُ

وَلَيتَ حَنوطي مِن مُشاشِكِ وَالدَمِ

وَلَيتَ سُلَيمى في المَماتِ ضَجيعَتي

هُنالِكَ أَم في جَنَّةٍ أَم جَهَنَّمِ

فليته عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ثم يعمل عملا صالحا. والله لا يدخل عليَّ أبدا.  فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال: جميل بن معمر العذري. قال: أليس هو القائل :

أَلا لَيتَنا نَحيا جَميعاً وَإِن نَمُت

يُجاوِرُ في المَوتى ضَريحي ضَريحُها

فَما أَنا في طولِ الحَياةِ بِراغِبٍ

إِذا قيلَ قَد سوّي عَلَيها صَفيحُها

أَظَلُّ نَهاري مُستَهاماً وَيَلتَقي

مَعَ اللَيلِ روحي في المَنامِ وَروحُها

 والله لا يدخل علي أبدا. فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال كثير عزة: قال أليس هو القائل :

رُهبانُ مَدينَ والذين عهِدتُهُم

يبكون من حذر العِقابِ قُعودا

لو يسمعون كما سمعتُ كلامَها

خَرُّوا لعزةَ رُكَّعاً وسجودا

أبعده الله فوالله لا يدخل علي أبدا .

الى ان وصل الأمر الى جرير. قال أليس هو القائل :

طَرَقَتْكَ صَائِدَة ُ الفُؤادِ وَلَيس ذا

وَقْتَ الزّيَارَة ِفارْجِعي بسَلامِ

فإن كان ولا بد فهذا فأذن له .

قال عدي بن أرطأة: فخرجت فقلت: أدخل يا جرير، فدخل وهو يقول :

إِنَّ الَّذي بَعَثَ النَبِيَّ مُحَمَّداً

جَعَلَ الخِلافَةَ في الإِمامِ العادِلِ

وَلَقَد نَفَعتَ بِما مَنَعتَ تَحَرُّجاً

مَكسَ العُشورِ عَلى جُسورِ الساحِلِ

قَد نالَ عَدلُكَ مَن أَقامَ بِأَرضِنا

فَإِلَيكَ حاجَةُ كُلِّ وَفدٍ راحِلِ

إِنّي لَآمُلُ مِنكَ خَيراً عاجِلاً

وَالنَفسُ مولَعَةٌ بِحُبِّ العاجِلِ

وَاللَهُ أَنزَلَ في الكِتابِ فَريضَةً

لِاِبنِ السَبيلِ وَلِلفَقيرِ العائِلِ

فلما مثل بين يديه قال: يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقا، فأنشأ يقول :

كم باليمامةِ من شعثاءَ أرملةٍ

ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والنظرِ

ممن بعدلِكَ يكفي فَقْدَ والدِهِ

كالفرخ في العِشِّ لم يدرج ولم يَطِرِ

أأذكرُ الجهدَ والبلوى التي نزلَت

أم قد كفاني ما بلَّغْتَ من خبري

إنّا لنرجو إذا ما الغيثُ أخلفَنَا

من الخليفةِ ما نرجوا من المطرِ

إن الخلافة جاءته على قدرٍ

كما أتى ربَّه موسى على قدرِ

فدفع اليه عشرة دنانير. فقال: والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته. ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك يا جرير. فقال : ورائي ما يسوءكم؛ خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ، وإنني عنه لراضٍ.

من أجل ذلك أقول ان المهنة شيء والشعر شيء آخر؛ ولا يمكن الخلط بينهما. لكن للأسف أصبح ديدن معظم الشعراء الخلط بين الأمرين وأصبح همهم الوحيد الوصول الى مبتغاهم المادي لا الفني أو الإبداعي.

ومن الصور التي تبيّن تأثير المهنة على الشاعر وتأثره بها، ما جاء عن ابن الجزار الذي ورث الصنعةَ عن أبيه في قوله:

حسبى حرّافا بحرفتي حسبي

أصبحت منها معذّب القلب

موسَّخ الثوبِ والصحيفة مِن

مطولِ اكتسابي ذنباً بلا كسب

أعمل في اللحم للعشاء ولا

أنال منه العشاء فما ذنبي

بل انه في نادرة قل نظيرها يعارض معلقة امرئ القيس بكثير من الطرافة والظرف حين يشكو ضيق أحواله وكفافه فيقول:

قِفا تبكِ من ذكرى قميصي وسِروَال

ودَرَّاعة لي قد جفا غُصنُها البَالي

ولا سيما والبردُ وافى بَريدُهُ

وحالي على ما اعتدت في حالة حَالي

تُرى هل يَراني النَّاسُ في فَرَّجية

أجرُّبها تيهاً على الناسِ أذيالي

ويُمسي عذولي غيرَ خالٍ من الأسى

إذا باتَ من أمثالها بيته خالي

ولو أنني أسعى لتفصيلٍ جُبَّة

كفاني ولم أطلُب قليلٌ من المالِ

ولكنني أسعى إلى نحو جبَّةً

وقد يبلُغُ المَجدَ المؤَثل أمثالي

وكم ليلةٍ استغفر اللَه بتُّها

بخدٍّ وريقٍ بين وردٍ وجريالِ

تبطنت فيها بدر تم مشنَّف

ولم أتبطن كاعباً ذاتَ خلخالِ

وما أنا ممن يبكي لأسماء إن نأت

ولكنَّني أبكي على فقد أسمالي

ولو أنَّ امرأ القيس بين حَجرٍ رأى ما

أكابده من فرطِ هَمٍّ وبَلبَالِ

لما مآل نحو الخِدرِ خِدرِ عُنيزةٍ

ولا باتَ عن حُسنِها سالي

ومن أبدع شعراء المطبخ والطبخ موسى بن عبد الله الدهمراوي الذي أفرغ مصوغاته الثمينة ومكنونات خزائنه الدفينة من الألفاظ والتراكيب والمعاني في وصفات الطعام؛ من ذلك قوله في وصفة طعام:

وباكر إلى لحم سمين وجرة 

إلى أن يصير اللحم والدهن كالسِلا

وخذ ورقَ النعناع واترك عروقَه

 واخلط عليها الآن إن شئتَ فلفلا

واجعل على هذه الحوائج قرفةً

 بها زرّوردٌ يا أخي وقرنفلا

وخذ زنجبيلا واسحق الكل خلطةً

واخلط على اللحم السمين معوِّلا

وخذ من رقاق البيت واحشو بلحمه

 وسَوِّيهِ بالدخان إن رمتَ تأكلا

جدير بالذكر أن العرب قبل الاسلام لم تكن تسمي الحرف المتعارف عليها اليوم بأسمائها هذه. فلقد ورد عنهم انهم  لم يسموا النجار نجارا بل (قينا) قال زهير با أبي سلمى:

 خَرَجْنَ مِنَ السُّوبَانِ ثُمَّ جَزَعْنَهُ

على كلِّ قَيْنِيٍّ قَشِيبٍ ومُفْأَمِ

بل قد يسمونه (الاسكاف) والنهامي. وقد يطلق الأخير على الحداد وعلى الراهب أيضاَ.

ومن نادر ولطيف الشعر ما نقل عن ابراهيم طوقان يرد على أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي يمدح فيها المعلم قائلا:

قف للمعلم وفِّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

فرد طوقان قائلا:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي

قم للمعلم وفّه التبجيلا

اقعد فديتك هل يكون مبجلاً

من كان للنشء الصغار خليلا

ويكاد يقلقني الأّمير بقوله

كاد المعلم أن يكون رسولا

لو جرّب التعليم شوقي ساعة

لقضى الحياة شقاوة وخمولا

حسب المعلم غمَّة وكآبة

مرآى الدفاتر بكرة وأصيلا

الى ان يقول:

يا من يريد الانتحار وجدته

إنَّ المعلم لا يعيش طويلا

ومهما يكن فان الحرفة وأن كان لها تأثيرها المباشر على الشاعر من حيث الغرض والموضوع والمضمون إلا ان موضوعها في الشعر يبقى في إطاره المحدود لا يتعداه. فيما تبقى الموضوعات الشعرية الأساسية هي السائدة. فموضوعات الغزل والمدح والفخر والهجاء وغيرها التي يشتمل عليها الشعر العربي ما زالت هي المتصدرة.

ومن المهم أن نذكر ان التكسب من وراء الفنون الأدبية كالشعر والرواية والخطابة والكتابة وغيرها أصبح من الأشياء المألوفة التي لا يعاب عليها الأديب والشاعر. وعلى الرغم من استقامة هذا الأمر في المجتمع وعدم النظر اليه نظرة موضوعية. إلا انه في الحقيقة ينبئ عن فساد القواعد المجتمعية والعلمية والمعرفية والأصولية التي كانت تراعي كل الفنون وفق قواعدها وأصولها وتحترمها كلها بضوابطها وأطرها.

والحقيقة التي يجب أن نعترف بها هي ان المجتمع الذي انبثقت فيه أعظم الفنون والآداب مثل الشعر والنثر والخطابة منذ القديم هو غير المجتمع الذي نعيشه الآن؛ وبالتالي تتغير القاعدة العرفية والمجتمعية من عصر الى عصر وفق متطلبات كل عصر. وبالتالي فما هو منبوذ في عصر قد يصبح ممدوحا في عصر آخر والعكس صحيح. وهذه من السنن التاريخية التي عرفتها البشرية.