الكتابة من إسبانيا: صلاة الإنسان وسحر لغته العربية

أن تكتب في الأندلس، معناه أن تسكنك لحظة فرح مغايرة تعْبُر بها نحو عالم تتجلى فيه اللغة كفعل إنصات وتعبير عن صوت الزمن، وسوف تخترع عالمًا تعيش فيه لحظات من الحنين إلى الماضي البعيد.

من بيروت إلى إشبيلية إلى غرناطة وما بينهما قرطبة وطليطلة، المساحات الشاسعة تتسابق مع كاميرا الهاتف، فمن يفوز على الزمن في عالم يتغير بوتيرة حارقة؟ هناك تبدّت لي روح إسبانيا بسحرها الهادئ الذي يدعو إلى تذكّر حكايات وتاريخ عرفناه من على مقاعد الدراسة في بيروت.

الكتابة من إسبانيا هي فعل تحوّل إنساني، إذ تنطلق التجربة الشعرية في فضاءاتٍ واسعة، للكشف عن عمق الإنسانية، بجمالها الروحي وسحرها المخفي. وسط هذا الكم من المشاهد التي تدعو إلى التأمل، يتحوّل الشعر إلى صلاة، بل إلى إنصاتٍ روحيٍّ خالص.

في الأندلس، تمشي في الشوارع، فتشتغل حواسك. تلمس الجدران التي تنطق بالمخفي، فتتحرك الذاكرة، ويُستعاد عالم يبعث البهجة في نفسك. الكتابة هناك ليست مجرد فعل بل طقس داخلي، ملاذ للمبدع، واستعادة حضارة مرت لتأتي حضارة أخرى فيبقى الإبداع أثرًا مشتركًا بين الاثنتين .

لا يمكن لمن يزور الأندلس إلا أن يستنطق جيناته العربية، أن يستدعي الأجداد الذين تشكّلت معهم حالات  الوعي في إبداع حضارتهم فعبّروا عنها بالأدب والشعر والفن على أنواعه. في غرناطة وإشبيلية آثار تدل على جمال الحضارات، قصر الحمرا وقصر ألكازار وكاتدرائية إسبانيا وكل المعالم التي تملأ ساحاتها تشير إلى عظمة العمارة وسحر الحدائق في تلك البلاد، هناك تستدعيك تجربة من نوع آخر لحب الشعر وكتابته، حيث التطلّع نحو أفقٍ مزدوج الزمن. الشعر يرافقك إلى الأندلس أيضًا، يمنحك صوتًا وشغفًا مختلفًا. إنها طبيعتها، التي تُعلّمك الإنصات إلى هدوئها المشاغب الذي يعبث بأفكارك، فتصبح الكلمات ضوءًا يتناسل شعرًا. في قصر الحمراء، تتعامل مع أحجارٍ ناطقة، مع جدرانٍ شاهدة، ترى فيها الفن متجسدًا، بانوراما تتسلل إلى اللغة، لتنسج سطرًا بألف معنى.

تنظر إلى “الوراء”، وتخطو نحو المعنى، فتدرك أنه يتسرّب من الجمال… نحن أمام الأندلس، هي مدن الروح التي تحمل شعارات الزمن، حيث يتحوّل الأدب إلى وسيلة تفاعل بين الكائن البشري والأشياء الشاهدة على غرابة نابعة من عظمة البناء والفن وكل ما يجذبك في تلك المدن.

تفكر في نفسك وتتساءل: هل الأدب ميزان العالم؟ هل الأدب بخير لكي يكون العالم بخير؟

وفكرة أخرى تلقاك لترسم لك صورًا عن الأدب أيضًا والذي يكوّن فعل تواصل جمالي يتحوّل إلى احتجاج في عالمٍ ينحدر نحو هاوية الجمود والماديات. من ينتصر للروح في عصر سرعة السرعة حيث الآلات  تغلب هشاشة الإنسان؟ من يمارس فعل الكتابة كحلمٍ يومي عصري؟ ؟

هذا التواصل الذي يحتاج إلى لغة يجعلني أفكّر بكل من يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، حيث بإمكانه الاستعانة بهما لتكتمل عملية فهم كلمات متفرقة من اللغة الإسبانية، وهذا ما يذكّرني بإحدى لقاءاتي بالشاعر بول شاوول، حين تحدّثنا عن عظمة اللغة العربية. قال لي يومها: “هل تعلمين أن صوت الكلمة العربية ينبض بمعناها؟” وأعطاني مثالًا على ذلك كلمة “حتات” والتي تعني ما تفكك من الشيء أو تحطّم أو تكسّر.

في غرناطة، الطابع الديني والتاريخي والحضاري يتطلب إصغاءً حقيقيًا. هناك، الشعر عابر للتاريخ، تراه في كل زاوية من زوايا إسبانيا، وأوخيخاروس البلدة التي تقع على طريق سييرا نيفادا تبعد عن غرناطة بضعة كيلومترات، هي بلدة الموسيقى ولكنها تهتم للشعر أيضًا. راحت القصيدة في أوخيخاروس تختال في ساحاتها حيث تمثال المغترب الإسباني. هناك أخبرتني أليسيا شون عن هذا المغترب الذي هاجر بحثُا عن مستقبل أفضل خارج بلاده… فكرت في بلادنا العربية خصوصًا بيروت التي فقدت أدمغتها بفعل الهجرة إثر الأزمة الاقتصادية والحرب الأخيرة، فكرت في الامتزاج والتفاعل الثقافي الذي يميز بلادنا، فكرت بمستقبل شبابنا نحن العرب جميعًا: بأطفال سوريا الذين ما زالوا حتى اليوم يلملمون جراحاتهم، بأطفال غزة الذين لا يعرفون معنى كلمة “لعبة”… إلى أين أنت ذاهب أيها العالم؟

ومن الأندلس، تنبع إيقاعات الفلامنكو الحزينة، تدعو روحك إلى التصفيق حيث تكمن المفارقة: تصفيق وسط حزن الجنازات وفرح الأعراس تصاعد في درجة المشاعر التي تعانق الألم والبهجة في آن.

وبالعودة إلى الفن، ترى الإنسان يعبر عن مشاعره بوساطته،  فماذا عن الآلات التي تقلد أصواتًا إنسانية تمنحه عطلة للراحة بل تأخذ عنه دورًا لتنطق بالوجدان. كنت هناك أمام عزف الفلامينكو حيث تنبض الموسيقى بالألم بالذات الإنسانية بتركيبتها البسيطة والمعقدة في آن… كنت أمام غرابة الثنائيات.

بالفلامينكو، مع كل نغمة رقصة تنتصر للحياة، إنه عزف قصائد  للوركا، قصائد لا يفك غموضها إلا من مسته الإيقاعات حيث انكسار الروح وسموها بين أسرار الحياة. مع الفلامينكو يتقاطع الحزن والفرح وتنبض الروح الصارخة… إنه عزف لغة الحواس التي تشتغل متشابكة مع كل خطوة وضربة كعب يهتز لها الجسد فيبقى صداه في عمق الزمن. هناك تدفقت المشاعر تعانقت على صدى الإيقاعات الجميلة التي تحاكي العقل وتحرك العصب فتقشعر له الأجساد. الفلامينكو تقليد وحكاية تتناقلها الأجيال بل هو رواية انفتاح الشعر على  الأجناس الأدبية الأخرى.

إنها الأندلس، رمز الحضارة، والحكاية المستدامة التي ستبقى نابضة بالشعر واللغة.