اللفظ أم المعنى… مسألة قديمة حديثة

ارتأيت أن أبدأ موضوع اللفظ والمعنى- هذه القضية التي شغلت بال الكثير من العلماء والباحثين والمتخصصين – بمثال طار في كتب اللغة وعلوم القرآن للتوضيح قليلاً سلفا عن هذه القضية الشائكة؛ وفيه أن الأصمعي قال : كنت أقرأ:  (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم) وبجانبي أعرابي فقال: كلام من هذا؟ فقلت: كلام الله. قال: أعد، فأعدت، فقال: ليس هذا كلام الله، فانتبهت، فقرأت:

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فقال: أصبت، هذا كلام الله، فقلت:

أتقرأ القرآن؟ قال: لا، فقلت: من أين علمت؟

 قال الأعرابي: يا هذا عزّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.

هذا المثال باختصار يبين لنا قضية حام حولها الكثير من الآراء والمسائل والشروح. إلا وهي قضية (اللفظ والمعنى).

واللفظ لغة كما نقل ابن منظور في لسانه أَن تَرْمِي بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، والفِعلُ لَفَظ الشيءَ، يُقَالُ: لفَظْتُ الشَّيْءَ مِنْ فَمِي أَلفِظُه لَفْظًا: رَمَيْتُهُ. وهو ما ذهب اليه أيضا صاحب كتاب (التعريفات) الذي قال إن اللفظ هو ما يتلفظ به الإنسان أو مَن في حكمه مهملًا كان أو مستعملًا.

أما المعنى فيرى ابن فارس انه (القصد الذي يبرز ويظهر في الشيء إذا بحث عنه). وذهب الليث الى ان المعنى والتفسير والتأويل واحد، وإذا تدبرنا التفاصيل المذكورة عني ومعنى نجد أن المعنى هو الذي يستقر عليه القلب ويطمئن إليه عند إرادة اللفظ.

وفي تحديد التعريف أكثر يقول أبو علي الفارسي ان المعنى: هو القصد إلى ما يقصد إليه من القول.

وبهذا يتضح لنا من خلال تعريفات اللغويين للفظ والمعنى أن اللفظ هو ما تُلُفِّظ به من ألفاظ والمعنى ما قصدته تلك الألفاظ. وبذلك أصبح لدينا متلازمان لا ينفكان أبدا هما (اللفظ والمعنى)؛ وقولنا لا ينفكان كون اللفظ حروفاً مجمعةً على شكل كلمات، أما المعنى فهو ما يقصد به تلك الحروف وما تومئ اليه وتعبّر. وعليه ففي حسن الكلام وجيده لا لفظ من غير معنى ولا معنى من غير لفظ. وربما تهافت الكثير من التساؤلات والنظريات والآراء حول قضية اللفظ والمعنى بمجرد إثبات هذه اللازمة.

فلو ذهبنا للقرآن الكريم لوجدنا أنه تعامل مع موضوع اللفظ والمعنى بعناية شديدة جدا؛ بل انه حرص حرصا شديدا على إيلائها الاهتمام الكافي كونها تساهم في تكوين النتيجة الحقيقية والمآل الذي سيكون عليه كل إنسان بعد هذه الحياة.

وفي كشف حقيقة اللفظ ان القصد به المعنى ما قاله تعالى في سورة (ق) (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله ما يلفظ لم يدل على اللفظ والحروف بقدرما دلّ على المعنى لأن الله يثيب ويعاقب على القصد لا على غيره. وفي إشارة سورة المائدة ما يكفي للتدليل على ان اللفظ إنما يقصد به المعنى كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ). فلو أرادت الآية الكريمة لفظا بعينه دون معنى لما كان هناك استفهام فيها! وقد أثبتت الآية ان المقصود هو المعنى ليس اللفظ عندما صرحت بالقول (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)؛ وهي دلالة لغوية عظيمة على أن المقصود في الكلام أصلا هو معناه الداخلي المتصوّر في النفس البشرية قبل النطق به وإن ما جاء من ألفاظ هي بقصد الوصول الى المعنى لا غير.

من أجل ذلك ذهب اللغويون الى تعريف الفصاحة على أنها الإبانةُ والظُّهورُ، يُقالُ: أفصَحَ الصُّبحُ: إذا بدا ضَوءُه. وكُلُّ واضِحٍ: مُفصِحٌ.

وفي تفريقه بين الفصاحة والبلاغة قال الجوهري في الصحاح : ان الفصاحة البلاغة. على أن معظمهم يرى أن الفصاحة : صفة اللفظ، وأن البلاغة: صفة للمعنى مع اللفظ، والمعنى أن الكلام لا يكون بليغا إلا إذا كان فصيحا في الوقت نفسه.

من أجل ذلك ذهب الجرجاني الى إنشاء نظرية غاية في الأهمية سماها (نظرية النظم)؛ والتي ملخصها كما قال عنها هو (لكل قول موضعه، واستخدامه المناسب للتركيب والموافق للمعنى المراد تقديمه).

ومن حري القول ان قضية اللفظ والمعنى لا تقتصر على العرب ولغتهم فحسب، بل هي قضيةٌ قديمة، ويصح أن يطلق عليها انها قضية انسانية عامة، وعندما نقول عامة كون كل لغة في العالم تتكون من الألفاظ والمعاني ولذلك تنطبق عليها.

وقد نقلت لنا كتب التراث ان قضية اللفظ والمعنى كانت حاضرة في الفكر اليوناني والغربي. وخاصة ما أشارت إليه المصادر في كتب الفلسفة كآراء إفلاطون وأرسطو.

فقد رجح افلاطون كفَّة المعنى على اللفظ لأنه كان يؤمن بأسبقية الوعي على المادة في فلسفته المثالية؛ التي تقول (ان الوعي أسبق من الوجود في المادة)، غير أن أرسطو تلميذه النجيب رأى ضرورة التوفيق بين اللفظ والمعنى؛ وهذا ما تبناه لاحقا الجرجاني في نظريته كما ذكرنا سابقا.

أما عربيا فقد كانت بداية هذا الإشكال مع الجاحظ في نظريته (نظرية الكلام)؛ والتي تقدّر ان الكلام هو المظهر العملي لوجود اللغة المجردة؛ بمعنى أن الكلام ما هو إلا تجلٍّ ومظهر عملي تطبيقي للغة المجردة القائمة في نفس الإنسان. وهو بهذا يركز على المعنى لا اللفظ كونه المقصود في النهاية؛ حيث قال (المعاني مطروحة في الطريق). مبينا ان (مَنْ أرادَ معنًى كريمًا فليلتمسْ له لفظًا كريمًا، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظ الشريف). مصوّرا الألفاظ بالاجساد والمعاني بالأرواح وان هذا التصوير بذاته يكفي لمعرفة رأي الجاحظ بقضية اللفظ والمعنى من أنه لم ير أي إشارة لنصرة أحدهما على الآخر بل يؤكد على أن التلازمية بينهما بلغت حدا يؤدي الى ان انعدامها يشوّه صورة اللفظ والمعنى على حد سواء. فقد اعتقد بقضية المشاركة والمطابقة فيما بين اللفظ والمعنى. بمعنى ان اللفظ والمعنى يشتركان أو يتطابقان فيكمل أحدهما الآخر.

ومن المهم أن نذكر أن قدامة بن جعفر زاد على هذه النظرية مبدأ المساواة (وهو أن يكون اللفظ مساويًا للمعنى، حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذه هي البلاغة التي وصف بها بعض الكتاب رجلًا، فقال: كانت ألفاظه قوالبَ لمعانِيهِ؛ أي هي مساويةٌ لها لا يفضُلُ أحدُهُما على الآخر).

من أجل ذلك لا نستغرب أن نجد موضوعات المطبوع والمصنوع والوحدة والكثرة في القصيدة والصدق والكذب في الشعر والمفاضلة أو الموازنة بين شعرينِ أو شاعرين راجت في كتب البلاغة والنقد.

ومن الضروري أن نذكر ان جلَّ النقادِ تبنّوا الاتحاد والمشاكلة بين اللفظ والمعنى رغم ان البعض الآخر تعصب الى أحدهما وناصره على الآخر، لكن في الوقت نفسه كان هناك من النقاد واللغويين الذين بحثوا هذه المسألة بأريحية وعقلانية؛ كما فعل حازم القرطاجني الذي أكَّد على أهمية (التناسب) بين أركان العمل الشعري (لفظًا ومعنًى)، لإحداث (التأثير في المتلقي).

ويعني بالتناسب هنا مسألة التركيب اللُّغوي للصورة المتخيَّلة، ولا يتحقق في المنظور الواقعي إلا من خلال التناسب ما بين اللفظ والمعنى.

ومن المؤنس أيضا أن نوضح ان ابن رشيق القيرواني قد جمع في كتابه (العمدة)، أهم الآراء النقدية لهذه القضية مستشهدا بأمثلة عليها؛ فالذين آثروا اللفظ على المعنى يمكن أن يستشهدوا بقول بشار بن برد مثلا:

إذا ما غَضِبْنَا غضبةً مُضريَّةً

هَتَكْنَا حجابَ الشمسِ أَوْ قَطَرَتْ دَما

والبيت واضح فيه الشدة في التصوير في قوله (هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما). وهذا الذي جعل ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) يقول عنه انه (أفرط فيه). فيما علق عليه ابن المعتز في (الطبقات) بأنه (أفرط وأجاد) وهذا على قاعدة ان (أعذب الشعر أكذبه).

والذين آثروا المعنى على اللفظ ربما استشهدوا بابن الرومي الذي قيل عنه انه كان (يطلب المعنى ولا يبالي باللفظ حتى ولو تم له المعنى بلفظة نبطية).

لذلك نجد النقاد يعيبون على من وضع لفظاً في غير موضع معناه رغم أنَّ معناه جيد كقول كثير عزّة:

فقلت لها يا عَز كلُّ مصيبةٍ

إذا وَطنت يوماً لها النفسُ ذَلَّتِ

فقالوا: لو قال هذا في الزهد كان من أشعر القول.

وكانوا في كل ذلك يدعون ويحضّون على ان يكون معنى كل بيت ولفظه متساويين حتى يتم المعنى بتمام اللفظ، كقول أحدهم:

يا أيها المتحلّي غير شيمته

إن التخلّق يأتي دونه الخلقُ

ولا يواتيك فيما نابَ من حدثٍ

إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثقُ

فهذا بيت قد تم معناه بتمام لفظه من غير حشو، وكذلك قول آخر:

وَقَفَ الهَوى بي حَيثُ أَنتِ فَليسَ لي

مُتأخَّرٌ عَنهُ وَلا مُتَقدَّمُ

وأَهَنتِني فأَهِنتُ نَفسي جاهِداً

ما مَن يَهونُ عَليكِ مِمَّن يُكرَمُ

أَشبَهتِ أَعدائي فَصِرتُ أُحِبُّهُم

إِذ كانَ حَظّي مِنكِ حظّي مِنهُمُ

أَجِدُ المَلامةَ في هَواكِ لَذيذَةً

حُبّاً لِذكرِكِ فَليَلُمني اللُوَّمُ

فقد تم المعنى في البيت الأخير وما عداه فيما بعد يعدّ حشوا عاب عليه النقاد وقالوا أن لا فائدة فيه؛ وجُعل بمستوى قول أحدهم

وقد أروح إلى الحانوت يتبعني

شاوٍ مشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شَوِلُ

ولذا قال أبو هلال العسكري عن بيت القطامي:

يمشينَ رهواً فلا الأعجازُ خاذلةً

ولا الصدور على الأعجاز تتكلُ

(قالت العلماء: لو كان البيت الأول في صفة النساء لكان أحسن وذلك لما رأوا من تمام حسنه وظريف لفظه).

وكمثال على ملاءمة الألفاظ لمعانيها فيما عرف بـ(التناسب)، قوله تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)؛ فالركون إلى الظالم دون مشاركته في الظلم، يعاقب عليه بالمس بالنار فقط، دون الإحراق. وكذلك قوله (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) فقد جاء بلفظ الاكتساب الذي يُشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها. ومنه قوله (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ). فالفعل (كبكبوا) أبلغ من الفعل (كبّوا) في التصوير بهذه الآية حسب ما يقتضيه الموضع والسياق وهو يدل على العنف.فكب في اللغة إلقاء الشيء على أعلاه أو وجهه؛ أما (الكبكبة) فهي تساقط الشيء في هوة بتدهور؛ وقد عقب الزمخشري على هذه اللفظة (الكبكبة) بقوله: توالي الكب؛ فهو يُكَبُّ؛ ثم يُكَبُّ أخرى؛ ويتوالى الكَبُّ؛ وهكذا؛ حتى يصل إلى القاع.

ومن أشهر الاختلافات في قضية اللفظ والمعنى عند المفسرين وأصحاب الرأي ما عرف بقضية الترادف في القرآن؛ فهناك من ذهب للاعتقاد بها وهناك من رفضها. وكان ضمن من أيديها سيبويه والأصمعي وأبو الحسن الرماني وابن خالويه وغيرهم، معللين ذلك بقولهم (لو كان لكل لفظة معنى غير معنى الأخرى، لما أمكن أن نعبّر عن شيء بغير عبارته). وهناك من دحض الترادف كثعلب وابن درستويه وابن فارس وأبو علي الفارسي وأبو هلال العسكري وغيرهم؛ وعللوا ذلك بقولهم انه  أنه لا يجوز أن يختلف اللفظ والمعنى واحد؛ لأن في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى.

اقول ان الألفاظ مطية المعاني؛ فكل من أراد أن يبلغ معنى معينا مقصودا بذاته فعليه أن يختار لفظا يناسبه ويؤالفه ويشاركه أو يطابقه. وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدلُّ على عظم لغتنا العربية وتنوعها وإرثها وإرث معانيها. وحينذاك لا نستغرب أن الله كرَّمها أن جعلها (لغة القرآن الكريم).