المفاوضات وإدارة الصراع الدولي اداتان تقترن بهما التفاعلات السياسية الدولية منذ ان وجد النظام الدولي جراء معاهدة وستفاليا عام 1648 م. ولعل المفاوضات الامريكية- الإيرانية ” غير المباشرة ” المستمرة منذ جولتها الأولى في 12 نيسان 2025 بقيادة المبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف، ووزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في عُمان أحدث مثال على تكرار الاخذ بها.
وبهذه المفاوضات لا يراد مجرد السيطرة على الصراع بين طرفي هذه المفاوضات، كما يفيد الادراك الخاطئ لمفهوم إدارة الصراع ، وإنما يراد بها أن تكون سبيلا لفضه على وفق دالة مفهوم اللعبة غير الصفرية(Non-Zero-Sum-Game ), أي تبادل الأرباح، هذا في حالة نجاح هذه المفاوضات. اما في حالة الفشل، فنتيجتها قد تكون على وفق دالة اللعبة الصفرية، أي أن أحد الطرفين المتفاوضين سيكون رابحا والآخر خاسرا.
ولتعميق المعرفة العلمية بكل من المفهومين، سننصرف في مقال هذا الشهر الى تناول المفاوضات, كأداة من أدوات ادارة الصراع الدولي, على نحو شامل وحسب ما يسمح به المجال .أما في مقال الشهر القادم فسنبحث في إدارة الصراع الدولي وأيضا بشمولية.
فأما عن المفاوضات ، فهي إحدى الأدوات التي اعتادت الدول، ومنذ معاهدة وستفاليا عام 1648م على توظيفها سبيلا لتحقيق ثمة هدف منشود. وقد افضت مخرجات عملية تغيير العالم بعد دخوله الموجة الحضارية الثالثة، أي ما بعد الصناعية، إلى أن تقترن بخصائص مختلفة عن تلك التي اقترنت بها قديما. فقبل ان يضحى العالم صغيرا ومتغيرا بسرعة مثلا تميزت المفاوضات بسريتها واقتصار ادارتها على دور الدبلوماسيين المعتمدين رسميا، الذين كانوا يتمتعون، جراء صعوبة الاتصال بينهم وحكومات دولهم، بحرية كادت تكون شبه تامة. أما اليوم فقد صارت الدبلوماسية تجمع مثلا بين السرية والعلنية، فضلا عن مشاركة صناع القرار، بمستوياتهم المتعددة، بجانب الدبلوماسيين المعتمدين في ادارتها.
وقد أدت مجمل الخصائص المعاصرة للدبلوماسية إلى مخرجات من نوعيين مهمين: الأول ويكمن في الارتباط الوثيق بين المفاوضة الدبلوماسية والسياسة الخارجية للدول وعلى النحو الذي جعلهما وجهان لعملة واحدة، الامر الذي رفد أهمية المفاوضة كأداة للاتصال المباشر بين حكومات هذه الدول بعنصر مؤثر مضاف، فضلا عن تطوير علاقات التعاون فيما بينها. ومن هنا نستطيع إدراك الغاية الكامنة وراء كثافة حجم الدبلوماسيين والاداريين العاملين في السفارات والقنصليات.
أما النوع الثاني فهو يتجسد في بروز أنواع أخرى من الدبلوماسية تكمل صيغة الاتصال التقليدي بين الدول عبر المبعوثين الدبلوماسيين ولاسيما السفراء، ومثالها الدبلوماسية المكوكية.
وقد تبع تطور خصائص الدبلوماسية تطور مماثل في وظيفة الدبلوماسي . فبالإضافة إلى وظائفه التقليدية، صار مثلا يشارك، بشكل غير مباشر، في المراحل الأولية لعملية صنع القرار في بلاده قدر تعلق الامر بعلاقاتها مع الدولة المعتمد لديها هذا الدبلوماسي، السفير خصوصا. كذلك اضحى الدبلوماسي يؤدي دورا مهما في بناء ذلك المناخ السياسي الداعم لقيام علاقات إيجابية بين دولته والدولة المعتمد لديها. فضلا عما تقدم صار يقوم اما بصورة مباشرة بالركن الأساس للوظيفة الدبلوماسية، أي المفاوضة، أو بصورة غير مباشرة، بجانب صانع القرار من بلاده.
وللعلاقة الطردية بين مفهومي المفاوضة والدبلوماسية، نتساءل ما المقصود بالمفاوضة؟
ابتداءً، لقد تم إدراك مفهوم الدبلوماسية عبر الزمان بمعان متنوعة ومختلفة للدلالة مثلا اما على ” الأداة التي تقوم بإنجاز عملية المفاوضة “, وأما للدلالة على ” أدارة العلاقات الدولية، تنظيما وتسوية، عن طريق المفاوضة… أي أنها مهمة الدبلوماسي.” وعلى الرغم من أن تعددية الرؤية بشأن هذا المفهوم لا تلغي اتفاقها على أن المفاوضة تعكس جوهر العملية الدبلوماسية، ألا أن الجدير بالذكر هو أن المفاوضات لا تتم ، في العموم، إلا ضمن تلك الأجواء السياسية التي تتميز بتباين المصالح المنشودة من قبل ثمة دول، ومن ثم بصراعها، فضلا عن بروز حاجتها للتفاوض من اجل ادارة للصراع تفضي إلى الحد منه أو تسويته بصيغة اللعبة غير الصفرية.
لذا عندما ينتفي تباين المصالح بين دولتين، أو مجموعتين من الدول، جراء اقتراب أو تماثل مصالحها، من ثم تميز علاقاتها بالتعاون، تنتفي الحاجة للتفاوض أصلا إلا لأغراض أخرى داعمة لتطوير هذا النوع من العلاقات.
ولان المفاوضة هي أداة يراد بها تحقيق ثمة اهداف منشودة من قبل الدول المتصارعة وكذلك المتعاونة، نتساءل ما هي هذه الأهداف المنشودة؟
وقبل تناول أبرز هذه الاهداف، تجدر الإشارة إلى أن البدء بالمفاوضة يتطلب الاتفاق أولا على تجاوز ثمة اشكاليات إجرائية، ومن بين أهم هذه هو مكان عقد هذه المفاوضات. وعموما ًتعد الدولة المحايدة هي المكان المفضل. والدول عندما تبدأ المفاوضة مع بعض، فإنها تتفاوض من أجل تحقيق أهداف محددة يكمن أبرزها في الاتي:
أولا، التفاوض من أجل عقد اتفاق رسمي مدون يفضي إلى تسوية للصراع، أو النزاع، أوالآزمة، اوما شابه ذلك عبر تقديم تنازلات متبادلة وبما يؤمن للأطراف المتفاوضة مصالحها المنشودة. وهكذا تم حسم العديد من الازمات وأو المشاكل الدولية الخطيرة عبر الزمان. ولنتذكر مثلا كيفية فض أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962, وكذلك كيفية عقد اتفاق الحد من التسلح الاستراتيجي ( سالت 1) في عام 1974.
ثانيا، التفاوض حول ثمة قضايا لا تبرر عقد اتفاق رسمي ومدون بشأنها. ومثالها النزوع إلى فض مشكلة ثانوية، أو توظيف التفاوض لأغراض التمويه عن أنماط سلوكية راهنة أو لاحقة لاحد الأطراف المتفاوضة، أو للتأثير في خيارات طرف ثالث خارج إطار المفاوضات، أو لمجرد الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة بين الدول المعنية…الخ . وتقترن بهذا النزوع الآخير اغلب الزيارات الرسمية لرؤساء الدول إلى سواهم، او غيرهم من صناع القرار والمفاوضات التي تجري خلالها.
ومن أجل تحقيق أهدافها المنشودة، تعمد الدول المتفاوضة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة خلال زمان التفاوض، الى إيقاع التأثير في بعضها الآخر، وذلك عبر توظيف أدوات تعكس نوعية قدراتها على الفعل الدولي المؤثر. ولعل أبرزها هي أما الترغيب أو الترهيب أو الاثنين معا في أن. وتجدر الإشارة إلى أن حصيلة مخرجات توظيف هذه الادوات تتأثر بعدد من المتغيرات التي قد تضفي أما سمة الفاعلية على هذه الأدوات أو تسحبها عنها. وتكمن أبرز هذه المتغيرات في نوعية قدرة الدولة على الفعل الدولي المؤثر والهادف، فضلا عن مدى الالمعية التفاوضية لمبعوثيها الدبلوماسيين. ولا يتسع المجال لتناول تفاصيل هذه المتغيرات.
فأما عن الترغيب، الذي يتجسد في الوعد بتقديم المكافئة للدولة الثانية في المفاوضات التي قد تكون سياسية او سوأها كرفع العقوبات المفروضة سابقا على هذه الدولة ، فأنه ينزع إلى دفعها الى الموافقة على عقد الاتفاق المرغوب فيه من قبل الدولة الاولى. وعادة يتم تقديم هذه المكافئة بعد عقد الاتفاق المنشود، ألا ان تقديمها يكون، في أحيان، قبل عقد الاتفاق، هذا خصوصا عندما تكون ثقة إحدى الدول بالدولة المانحة يشوبها الشك بمصداقية وعودها. ويؤكد، أستاذ السياسة الدولية الأمريكي كي. جي.هولستي
إن كلتا هاتين الحالتين، أي تقديم المكافئة قبل أو بعد عقد الاتفاق، تنطويان على نوع من الرشوة المنتشرة بين الدول.
وكذلك يكون الوعد بالمكافئة صريحا أو ضمنيا. فهو يكون صريحا عندما يتم الإعلان عنه رسميا ووضوح من قبل الدولة المانحة. وعلى الرغم من أن مثل هذا الوعد يعد الأكثر توظيفا في المفاوضات بين الدول، بيد أن نوعية تأثيره الفعلي في سلوك الدولة الثانية يتوقف على نوعية إدراك هذه الدولة لمدى مصداقية وعود الدولة الأولى. فهذه المصداقية عندما تكون في موضع شك، فإنها قد تدفع بالدولة الثانية إلى المطالبة بالمكافئة مسبقا كما تم ذكره أعلاه.
والوعد بالمكافئة قد يقدم ايضا ضمنا، أي من دون الإعلان الرسمي عنه. ومثل هذه الصيغة تتيح للدولة المانحة التراجع عنه عندما تجد ذلك مفيدا لإيقاع المزيد من الضغط على الدولة الثانية سبيلا لدفعها إلى تبني السلوك المنشود من قبل الدولة المانحة.
وسواء كان الوعد بالمكافئة صريحا او ضمنا، ألا أن فاعلية تأثيره تتحدد في ضوء مدخلين أساسيين وكالاتي: فأما عن الأول، فمفاده توافر الإرادة لدى الدولة المانحة على ترجمة التزامها بتقديم المكافئة إلى واقع ملموس، متفاعلا مع نوعية إدراك الدولة الثانية لمصداقية وعود الدولة الأولى وما يترتب عن ذلك كما جاء في أعلاه.
وأما عن المدخل الثاني، فهو يقترن بحصيلة إدراك الدولة الثانية لمخرجات استجابتها أو العكس لمطلب، او مطالب، الدولة الأولى. فالإدراك، الذي مفاده ان الأرباح الناجمة عن هذه الاستجابة تعلو على الخسائر أو ان الخسائر تعلو على الأرباح، يفضي إلى مخرجات مختلفة. فبينما يضفي مضمون الادراك الاول المزيد من التأثير على الوعد بالمكافئة، قد يدفع مضمون الادراك الثاني إلى عدم تحقيق الهدف المنشود جراء هذا الوعد ، الامر الذي قد يدفع بالدولة المانحة إلى توظيف أداة اخرى ذات مضمون اكراهي، هي التهديد بالعقاب، سبيلا لدفع الدولة الثانية إلى تبني السلوك المرغوب فيه من قبل الدولة الآولى.
على العكس من الوعد بتقديم المكافئة، يشير التهديد بالعقاب إلى نمط أخرمن السلوك، الذي تأخذ به إحدى الدول المتفاوضة حيال سواها من أجل دفع هذه إلى القيام بفعل معين تعود مخرجاته على الأولى بالفائدة، وذلك عبر اما التهديد باستخدام أحد الافعال الاكراهية السلمية أو العسكرية التي تكون عادة دون مستوى الحرب، أو اللجوء إلى الاستخدام المباشر للقوة العسكرية، بمعنى الحرب.
فأما عن الأفعال الاكراهية السلمية فهي تلك التي تتحدد بالعقاب غير العسكري بشقه الاقتصادي، كالتهديد بسحب المساعدة المالية، او فرض العقوبات الاقتصادية أو تشديدها، وكذلك بشقه الدبلوماسي، كالتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية، أو التهديد بالانسحاب من المفاوضات، او تصعيد شروط الاتفاق.
كما أن هذا النمط من الأفعال الاكراهية يشمل التهديد باستخدام القوة العسكرية، الذي قد يكون أما صريحا أو غامضا. وتفيد الحالات الدولية ذات العلاقة بهذا النمط من التهديد أنه على قدر عال من التأثير خصوصا عندما يكون ميزان القوى بين الدول المتفاوضة مختلا لصالح الدولة القائمة بفعل التهديد. ومع أهميته، إلا أنه قد يضع الدولة القائمة به، ولاسيما في حالة عدم الاستجابة له من قبل الدولة المعنية الثانية، امام خيارات صعبة. ومن بين هذه الخيارات أما ترجمة هذا التهديد إلى واقع ملموس وتحمل المخرجات الناجمة عنه، وأما التراجع عن التنفيذ وبمخرجات تفضي إلى اضعاف الموقف التفاوضي للدولة القائمة بالتهديد وكذلك اكتسابها سمة الدولة المخادعة.
أما عن الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية، فهو يعد بمثابة الأداة الاساسية للإكراه المادي والحد الفاصل بين الأفعال الاكراهية السلمية وتلك القسرية. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن التوظيف المباشر للأداة العسكرية لأغراض السياسة تعد إحدى الخصائص البارزة والممتدة التي اقترنت بها السياسة الدولية عبر الزمان. وبغض النظر عن التكرار المستمر للحروب خلال زمان ما قبل القرن العشرين ، شهد الزمان الممتد مثلا بين أعوام (1992-1945) اندلاع (75) حربا وبعدد من القتلى تجاوز مجموعه حصيلة حروب أربعة قرون بأكملها، كما يؤكد راي متخصص.
وكما يشير البروتوكول الاضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977, والخاص بحماية ضحايا الصراعات المسلحة، لم تعد الحروب تقتصر، خلال زمان ما بعد الحرب العالمية الثانية، على تلك التي تندلع بين الدول فقط، وإنما أضحت تشمل سواها أيضا، ولا سيما حروب التحرر من الاستعمار والاحتلال، والحروب الداخلية بأنواعها، وكذلك حروب العصابات وغيرها.
وبالإضافة إلى التوظيف المباشر للأداة العسكرية، هناك التوظيف غير المباشر لها، والذي يتجسد في تلك الأفعال العدائية التي لا ترتقي إلى مستوى الاشتباكات المباشرة بين الجيوش الرسمية للدول، ومثالها أفعال زعزعة الاستقرار الداخلي، والتدخل، والنشاط الهدام (Subversion) الذي يشمل التجسس، والتخريب، والاغتيال.
وتستوي الحروب وحصيلة اللعبة الصفرية Zero-Sum-Game)) التي تفيد أن الربح الذي يحققه أحد الأطراف لذاته يساوي الخسارة الصافية للطرف الآخر في الحرب، خصوصا وأن الحروب لا تنتهي، في العموم، الا أما بالانتصاروالربح لطرف وأما بالهزيمة والخسارة لسواه. وقد كانت حروب زمان الحرب الباردة مثلا من نمط هذه اللعبة. بيد أن الهزيمة في الحرب لا تتحول الى واقع رسمي الا إذا صاحبها الاعتراف الرسمي بها من قبل الطرف الخاسر. وعادة يتم هذا الاعتراف عبر اتفاقية دولية ويكون مشروطا. ومثالها الاستسلام الألماني في نهاية الحرب العالمية الثانية وبتاريخ (1945.7.5).
واضافة إلى أن الهزيمة قد تكون نتيجة لاستسلام أحد الأطراف المتحاربة بعد اندلاع واقعة الحرب، إلا إنها قد تكون أيضا سابقة على هذا الواقعة. وهذه الاحتمالية قد تكون حصيلة لتأثير مدخلات داخلية مهمة. ومنها مثلا إدراك أحد الأطراف المتصارعة أن مخرجات الخلل الحاصل في معادلة التوازن العسكري بينه والطرف الثاني ستفضي، في حالة اندلاع الحرب، إلى خسارته إياها، ومن ثم تحمله خسائر باهضه.
وتجدر الإشارة إلى أن استخدامات القوة العسكرية صارت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية صعودا تتسم بخصائص مغايرة في العموم لتلك التي كانت تتسم بها في فترة ما قبل هذه الحرب. ومثالها الاتي:
فمن ناحية، صارت الدول تتحارب مع بعضها البعض دون أن تكون حروبها معلنة رسميا، ولا تنبع هذه الخاصية من الآهمية التقليدية المعطاة للمفاجأة والمباغتة في الحروب فحسب، وإنما أيضا من مسألة قانونية دولية مفادها أن القانون الدولي لا يعترف بحالة الحرب إلا بناء على واقعة إعلانها رسميا. ومن هنا ينطوي غياب هذه الواقعة، نظريا في الأقل، على عدم تحمل الدولة القائمة بفعل الحرب لتبعاته القانونية والسياسية والمالية (التعويضات).
وأما من الناحية الثانية، فعلى الرغم من أن تجارب الحروب الدولية توكد أن حصيلتها النهائية تحددها المواجهات العسكرية المباشرة إلا أن هذا الواقع لم يحل دون توجه الدول المتصارعة، وحسب امكانياتها، إلى مخاطبة الراي العام في كل منها لزعزعة دعمه لصمود بلاده. وقد صارت الحرب النفسية تؤدي هذه الوظيفة سواء قبل الحروب وكذلك خلالها.
واما من الناحية الثالثة، صارت الحروب المعاصرة تتسم بضخامة خسائرها البشرية . ويرد ذلك إلى القدرة التدميرية العالية لأجيال الأسلحة التقليدية المعاصرة. وتحدد دراسة متخصصة الخسائر البشرية لحروب الفترة الممتدة بين (1985- 1960) فقط بأحد عشر مليون شخص. وبمقارنة هذا العدد مع عدد خسائر حروب الفترة )1914-1790) البالغة نحو أربعة ملايين ونصف قتيل، لا مبالغة في القول: أن حروب العصور الحديثة والمعاصرة تستوي والحمامات الدموية الدولية.
بيد أن حجم الخسارة البشرية والدمار المادي الناجم عن استخدام الأسلحة التقليدية المعاصرة يتراجع امام مثله الناجم عن توظيف الأسلحة فوق التقليدية وخصوصا النووية منها. فنوعية الخسائر غير المسبوقة الناجمة عن الاستخدام الفعلي لهذه الاسلحة، لم تؤد إلى جعل الحرب غير ممكنة الاندلاع عمليا بين الدول النووية فحسب، وإنما أدت أيضا إلى دعم قول الجنرال والمنظر البروسي (الألماني) كارل فون كلاوزفيتز, الذي مفاده: ” إن الحرب تعد امتدادا للسياسة، ولكن بوسائل أخرى.” فنوعية هذه الخسائر هي التي جعلت من الردع النووي المتبادل بمثابة المحور الأساس لاستراتيجيات الدول النووية بعضها حيال البعض الآخر، ومن ثم دعمت توظيف هذه الدول للسياسة سبيلا لإدارة صراعاتها وفضها.
وعلى الرغم من ان توظيف أدوات الترغيب و/أو الترهيب هو السبيل الشائع لتحقيق المنشود جراء عملية المفاوضة، إلا أن هذا السبيل ليس بمعزل عن تأثير نوعية العلاقة السائدة بين الطرفين المتفاوضين. ولنتذكر ان المفاوضات بين الدول الصديقة هي غيرها بين الدول غير الصديقة، فالأولى تكون أكثر استعدادا لإيجاد الحلول المناسبة لخلافاتها الطارئة. أما الثانية، فإنها وبسبب تناقض مصالحها قد لا تكون في احيان على استعداد لفض حتى الإشكاليات الثانوية. لذا قيل، وبقدر من المبالغة، ان المفاوضة هي أداة الدول الصديقة فقط. ونرى ان تاريخ السياسة الدولية يؤكد ان الدول المتصارعة لا تتوان في العموم عن التفاوض خصوصا عندما تدرك أن ضمان مصالحها يستدعي منها ذلك. ولنتذكر مثلا المفاوضات الأمريكية- السوفيتية خلال مرحلة الحرب الباردة، وكذلك الأمريكية- الصينية خلال زمان الصعود الصيني السريع إلى قمة الهرم الدولي.
- أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات