الموسيقى الجسر الخفي بين الإنسان والكون 

إلى أي مدى يمكن اعتبار الموسيقى مجرّد ترف فني؟ وكيف يمكن للحن صغير أن يحاكي فكرنا أو أن يحرك مشاعرنا؟ وماذا عن الإنسان وتفاعله مع الموسيقى عبر الزمان؟  

أسئلة كثيرة قد تخطر في أذهاننا لتقودنا إلى ما هو أعمق، قد نفكر هنا في ماهية الموسيقى، اللغة التي تعطي من ذاتها والتي تتقن الولوج إلى عمق الوجود الإنساني. لعل الموسيقى رحلة غريبة تمارس أسرارها في لتجمّل الجوهر، فتحافظ على روح العالم. 

لا يخفى ما للموسيقى من أهمية في محاكاة القدرات الذهنية والعاطفية، وما تحدثه من أثر عميق في النفس البشرية. لقد رأى أفلاطون أنّ “الإيقاع والتناغم يجدان طريقهما إلى أعماق الروح”، فالموسيقى في نظره انسجام بين الجسد والروح، واتزان كونيّ يحفظ توازن الإنسان الداخلي. 

ومنذ فجر التاريخ، عرف الإنسان الموسيقى في رحم الطبيعة الأم، التي وهبته رنينها من صوت البحر والمطر إلى هسيس الرياح وحفيف الأشجار. في تلك الأصوات الأولى وُلد الحسّ الموسيقي، فتعَلّق بها الإنسان وعدّها جزءًا من كيانه، باتت الموسيقى ترافق الإنسان في أفراحه وأتراحه، وتواسيه في وحدته، حتى أصبحت علاجًا لكل ما يعانيه من حزن وكآبة. 

ومع تطوّر الفكر الإنساني، ارتبطت الموسيقى بأسئلة الحداثة، فكانت جسرًا أنقذ الإنسان من السقوط في هاوية اللامعنى. رأى الفلاسفة فيها جوهر الوجود، واتخذت الفنون عمومًا، والموسيقى خصوصًا، دورًا في ترقية الإنسان الذي أنهكته الصراعات، فجمّلت رؤيته للعالم ولذاته، وربطت بينه وبين الكون في انسجام عميق. 

كذلك تمثل الموسيقى مرآة لتاريخ الشعوب وثقافتها وتحولاتها السياسية والاجتماعية ومنذ عصر التنوير، ازداد دور الفنّ، بل صار أساسيًّا في ترسيخ خطاب التسامح، إذ وجدت البشرية في الموسيقى أداة للتحرر من سطوة الألم، وصارت لغة للتعبير عن الذات وعن الآخر في آنٍ واحد. فالموسيقى تُعيد إلى الإنسان توازنه الداخلي، وتعلّمه الإصغاء إلى نبض الحياة من حوله، وتحثّه على التعايش والسلام. 

وللموسيقى تأثير إيجابي في السلوك الإنساني؛ فهي تحاكي الفكر، وتساعد على الاسترخاء وضبط النفس في أوقات الغضب، وتدفع إلى التصرف بحكمة لتجاوز العقبات. كما أن لها أثرًا تربويًا واضحًا، إذ تساهم في تنشيط الدماغ وتنظيم التفكير وتناسق الأفكار، فتُنمّي الخيال، وتُقوّي الذاكرة، وتوسّع القدرة على الاستيعاب. إنها رياضة عقلية وروحية في آن واحد. 

وبعد ممارسة التأمل أو تمارين الاسترخاء، تتحوّل الموسيقى إلى علاج ممتع يبثّ الذبذبات الإيجابية، فيُغيّر الحالة النفسية تغيّرًا جذريًا، فيتابع الإنسان حياته بعيدًا عن النظرة السوداوية، وتغمره روح التفاؤل والطمأنينة. 

بالإضافة إلى ذلك، الموسيقى هي اللحن الذي لا يحتاج إلى من يعلن عنه، فهي صوت الطبيعة الأول الذي تناغم مع حزن الإنسان وفرحه، ومع كل ما يختلج في داخله من مشاعر. إنها اللغة التي اخترعتها الطبيعة لتخاطب بها قلوبنا قبل عقولنا. 

ولعلّها أداة السلام التي يحتاج إليها الإنسان لتتم مصالحته مع نفسه قبل أن يصالح الآخر. فالموسيقى، بما تحمله من سموّ، تعزّز القيم النبيلة، وتفتح أمام الروح أبواب التسامح والمحبة. 

ناهيك عن ذلك، تعدّ الموسيقى لغة الشعوب وقد أسهمت في التبادل الحضاري وحوار الثقافات، عبر نغماتها وتوزيعها حتى من دون فهم الكلمات… كذلك استطاعت الموسيقى الوطنية أن تحرك ثورات وأن ترافق الانقلابات إلى حد أنها  اتّخذت بعض الأغاني هوية خاصة وذاكرة تاريخية جماعيّة خلّدت محطّات انتقالية… 

وفي بعدها الروحي، كانت الموسيقى لغة الأنبياء في تطلعهم نحو السماء، فهي الانسجام بين الإنسان وخالقه، وبين الروح والكون. حمل النبي داود القيثارة، وهتف لإلهه بالصنوج وبالمزامير ودعا الشعوب إلى التمثل به، وفي ذلك دلالة على أن الموسيقى عبادة للقلب قبل أن تكون عزفًا بالأوتار. 

الموسيقى، كما قال فرنتز ليست، “لغة عالمية لفهم العواطف”، وقد رأى كورت فونيجت: “الفن هو الطريقة الوحيدة التي تجعل روحك تنمو وتزدهر”. وذهب جبران خليل جبران إلى وصفها بأنها “جسم من الهشاشة له روح من النفس وعقل من القلب”. إنها في جوهرها تعبير عن الحب، والروح التي تتجلى في رقص الأوتار وانسجامها، حيث يضرب كل وتر الآخر حبًا به، فتولد من هذا العناق ألحان الكون. 

والموسيقى، بقدرتها على تهذيب النفس، تزرع في القلب الصفاء، وتبعده عن الضغينة والكره والحقد. وليس هذا تزيينًا للعالم بالكلمات، بل تجربة حقيقية يشعر بها كل من استسلم لوقع الموسيقى في لحظات الغضب أو الاضطراب؛ فهي قادرة على تحويل العاصفة إلى سكون. 

وقد كانت الموسيقى منذ القدم موضع تأمل الفلاسفة؛ ففيثاغورس ربطها بإيقاع الكون في نظريته عن “موسيقى الأفلاك”، ورأى أن للأجرام السماوية تناغمًا يشبه الألحان. أما روسو فقد اعتبرها محاكاة للطبيعة ومذهبًا جماليًا يعكس صفاءها، فيما تعامل بيتهوفن معها على أنها الوسيلة التي تُوصل الإنسان إلى عالمٍ أرفع، عالمٍ ينتصر فيه الصوت على المادة وتتحرر فيه الروح من حدود الجسد. 

هناك عناصر عدة تظهر ارتباط الأدب بالموسيقى، فقد كان الشعر عند العرب مصحوبًا بالآلات الموسيقية وكانت مجالس الغناء كثيرة عندهم. وفي الموسيقى وحي الشعراء حيث أنها تؤدي تأثيرها في النفس البشرية فتخلد القصيدة في نفوس مستمعيها.  

وهكذا تبقى الموسيقى صدى الكون وهديته للإنسان الحالم بحياة يسودها السلام. إنها لغة تتجاوز الكلمات، وتغوص في أعماق الكيان الإنساني، فتكشف خباياه، وتوحّد بين الفكر والعاطفة، بين الإنسان والطبيعة، وبين الروح والسماء.