الهوية في زمن الذكاء الاصطناعي
في ظلّ التضخّم الرقمي وهيمنة خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يواجه العالم الحديث تحديًا غير مسبوق، فهل نحن على أعتاب مرحلة يذوب فيها الـ “أنا” في بحر من البيانات، وتتحوّل فيها الذات إلى مجرّد ملف تعريف مثالي لآلة؟ فالتحوّل الجذري في العالم اليوم يمتدّ إلى صميم وجودنا: الهويّة.
كانت الهويّة في السابق تُبنى على ركائز تقليدية: الأرض، التاريخ، اللغة، والعمق الثقافي. أما اليوم، فباتت تُصاغ في فضاءات افتراضيّة، حيث تحدّد الخوارزميّات ما نقرأه، وما نشاهده، ومن نتواصل معه. فكلّ ضغطة زرّ، وكلّ تفاعل، يغذّي نظامًا معقّدًا يرسم صورة دقيقة لـ “ذاتنا الرقميّة”، وغالبًا ما تكون هذه الصورة أكثر دقة وتنبّؤاً بسلوكنا من تصوّرنا الذاتي.
أمّا اليوم، فالركائز باتت مختلفة، والتواصل الإنساني والمجتمعي صار أكثر انفلاشًا إنما أقل تفاعلًا
واندماجًا، وهذا ما أشار إليه الكاتب والروائي الفرنسي ميلان كونديرا بقوله إنّ “الهويّة قد تُفقَد أو تتغيّر عند فقدان القدرة على التفاعل المباشر أو الاندماج في مجتمع”.
هذا التغلغل الافتراضي يطرح أسئلة فلسفية عميقة. عندما تتنبّأ منصّات الذكاء الاصطناعي بقراراتنا، أو عندما تقدّم لنا محتوى يكرّر قناعاتنا فقط (فيما يعرف بـ “فقاعة الترشيح”)، فإنها تفرض شكلًا من أشكال الانسجام القسري. يصبح الفرد مدفوعًا نحو نماذج سلوكية محدّدة مسبقًا، مما يقوّض جوهر الهويّة الإنسانية القائمة على الاختيار الحرّ والتجريب والتناقض. التنوّع الفكري، الذي هو وقود الثقافة والإبداع، يواجه خطر الانحسار لصالح المحتوى “الأكثر استهلاكًا” الذي تفرضه المنصّات لضمان بقائها.
إن التحدّي الحقيقي يكمن في كيفيّة الحفاظ على “فردانيّة المقاومة”، أي أن نختار بوعي المحتوى الذي لا يشبهنا بالضرورة، وأن نسعى للمعرفة التي تخرجنا من دائرة الرّاحة الخوارزميّة، وأن نعود إلى الأدوات الثقافيّة التقليديّة كالفنّ والموسيقى والقراءة العميقة، التي لا تخضع لـ “معدّلات النقر”.
إن الذكاء الاصطناعي ليس شرًا مطلقًا، إنما هو مرآة ضخمة تكبّر وتجمّل ما نضعه أمامها. لذا، فإن تحصين الهوية في هذا العصر يبدأ بـ “اليقظة الثقافية”: أن نكون نحن قادة خوارزميّاتنا الخاصّة، نحدّد مدخلاتها لنضمن أن تكون مخرجاتها انعكاسًا لعمقنا الإنساني، لا لسطحيّة الاستهلاك الرقمي. الهويّة القويّة هي تلك التي تستخدم الأدوات، ولا تسمح للأدوات باستخدامها. لعلّنا نعود إلى مقولة أرثر شوبنهاور عن أن “الهويّة لا تكمن في الجسم الذي يتغيّر، بل في نواة الوجود الثابتة التي لا تتأثّر بالزمان، ولا تتوقف على الشعور وحده.”
