تحديات هيكلية غير مسبوقة تواجه اقتصادها وتحدّد مستقبله
*تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي في اليابان إلى 250%
* سندات اليابان تحت الضغط: هل تصمد طوكيو أمام “رعب” ارتفاع الفائدة؟
* رسالة صندوق النقد لليابان: خارطة طريق نحو الاستقرار الاقتصادي
*
*
*اليابان تواجه تحديات ديموغرافية كبيرة متمثلة في شيخوخة المجتمع
تتجه الأنظار نحو اليابان مع اقتراب الانتخابات الصيفية المرتقبة، والتي تأتي في ظل مشهد اقتصادي معقد يحفل بتحديات هيكلية تضغط على صانعي القرار وتؤرق الشارع الياباني. فبينما تسعى الحكومة الحالية إلى استعراض إنجازاتها الاقتصادية في سبيل كسب ثقة الناخبين، تلوح في الأفق قضايا ملحة تضع استقرار الاقتصاد الوطني على المحك. من عبء الديون الحكومية الهائل، مروراً بتقلبات سوق السندات، وصولاً إلى التحديات الديموغرافية المتفاقمة المتمثلة في شيخوخة المجتمع وتقلص القوى العاملة، يجد الاقتصاد الياباني نفسه في مفترق طرق. فهل ستتمكن

الحكومة المقبلة من صياغة استراتيجيات فعالة لمعالجة هذه المعضلات، أم أن الرياح الاقتصادية المعاكسة ستعصف بطموحات التعافي المستدام؟ تساؤلات تفرض نفسها بقوة على أجندة المرشحين، وتشكل المحور الأساسي الذي سيحدد مسار اليابان الاقتصادي في السنوات القادمة.
لطالما عُرف الاقتصاد الياباني بصلابته وقدرته على التعافي، لكنه يواجه حالياً تحديات هيكلية عميقة تهدد استقراره على المدى الطويل، أبرزها تراكم الديون الحكومية والاضطرابات في سوق السندات. فبينما تسعى طوكيو جاهدة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو المستدام في ظل تحديات ديموغرافية واقتصادية فريدة، تظل مخاوف الديون وسوق السندات في صدارة اهتمامات المحللين وصناع القرار.
تُعتبر اليابان حالةً خاصة في أسواق السندات. فدينها، نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي، أعلى بكثير من أي اقتصاد رئيسي آخر، حيث يتجاوز ما نسبته 250 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وسنوات من جهود مصرفها المركزي (بنك اليابان) لطباعة النقود لمواجهة الانكماش وتحفيز النمو تعني أن حوالي نصف سوق سنداتها الضخمة، البالغة 8 تريليونات دولار، مملوكة لبنك اليابان وغير قابلة للتداول. وهذا يعني أنه عندما ترتفع عائدات سنداتها بشكل حاد، فإنها قد تصبح مصدر قلق للدول الأخرى أيضاً.
وكانت أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، التي حافظ عليها بنك اليابان لعقود، قد سمحت للحكومة اليابانية بتمويل ديونها الهائلة بتكلفة منخفضة نسبياً. ومع ذلك، بدأ هذا المشهد يتغير مع اتجاه بنك اليابان نحو تطبيع السياسة النقدية وإنهاء سنوات من أسعار الفائدة السلبية وبرامج التحكم في منحنى العائد.
الإنفاق المدفوع بالديون
اليوم، تجد اليابان صعوبة في الإنفاق كما كانت تفعل سابقاً، وذلك بعدما كان الإنفاق العام المدفوع بالديون، وسيلةً

لمعالجة مشاكل البلاد، لاسيما أثناء فترة جائحة كورونا. فمع ابتعاد بنك اليابان عن أسعار الفائدة السلبية، أصبحت القيود المفروضة على الإنفاق أكثر صرامة.
وعكست سوق السندات الحكومية اليابانية في الآونة الأخيرة قلقاً بشأن الوضع المالي للبلاد. فقد ارتفعت عائدات السندات طويلة الأجل – وهي مؤشر على ثقة المستثمرين في قدرة الحكومة على سداد ديونها – إلى مستويات قياسية.
أما أسباب ارتفاع عائدات السندات فيمكن تلخيصها بالعوامل التالية:
- تحول السياسة النقدية لبنك اليابان.
- ارتفاع عائدات السندات العالمية.
- ارتفاع الدين العام الياباني.
- ضعف الطلب في المزادات وسط ارتفاع حالة عدم اليقين حول مسار السياسة النقدية.
- تفكك صفقات “تجارة الفائدة” أو ما يعرف بالـ”الكاري تريد” (carry trade) والتي تعني أن المستثمرين يقترضون بالين الياباني ذي الفائدة المنخفضة ويستثمرون في المقبال في أصول ذات عائد أعلى في الخارج (مثل سندات الخزانة الأميركية). وكانت أسعار الفائدة اليابانية المنخفضة للغاية حافزاً لهذا النوع من الصفقات، ولكن ومع ارتفاع عائدات السندات اليابانية وانخفاض فارق العائد مع الأسواق الأخرى، باتت هذه الصفقات أقل جاذبية، وهو ما ما يدفع المستثمرين إلى إغلاقها وإعادة الأموال إلى اليابان، الأمر الذي يمكن أن يزيد من التقلبات في الين والأسواق العالمية.
- التحديات الديموغرافية في ظل تفاقم شيخوخة السكان في اليابان والذي يؤدي إلى ارتفاع الإنفاق على الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، مما يزيد من الحاجة إلى إصدار المزيد من السندات لتمويل هذه النفقات، في حين تتقلص القوى العاملة التي تدفع الضرائب، مما يزيد من الضغط على المالية العامة.
وفي ظل هذا المشهد، يتفاقم قلق حاملي السندات بشأن قدرة الحكومة على سداد التزاماتها، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة لاضطرار الحكومة إلى تقديم عائدات أكثر جاذبية لبيع سنداتها، وهذا بدوره يعيق قدرة الدولة على الاقتراض. في وقت نبّه محافظ بنك اليابان كازو أويدا من أن التقلبات الكبيرة في عائدات السندات الحكومية طويلة الأجل قد تؤثر على عائدات السندات قصيرة الأجل.
أما رئيس الوزراء الياباني، شيغيرو إيشيبا، فحذر في اجتماع حكومي عُقد مؤخراً، من “رعب” ارتفاع أسعار الفائدة، بل قارن وضع موازنة اليابان بوضع اليونان التي انزلقت في أزمة ديون عام 2009.
وكان صندوق النقد الدولي أشار إلى أن استقرار سوق السندات اليابانية مهم ليس فقط لليابان ولكن أيضاً للأسواق العالمية، نظراً لكون اليابان من أكبر الدول الدائنة في العالم (على الرغم من فقدانها مؤخراً لمركزها كأكبر دائن عالمي للمرة الأولى منذ 34 عاماً لصالح الولايات المتحدة) ولتأثيرها على ما يعرف بـ “تجارة الفائدة” حيث يقترض المستثمرون بالين الياباني ذي الفائدة المنخفضة للاستثمار في أصول ذات عائد أعلى في الخارج. أي اضطراب كبير في سوق السندات اليابانية يمكن أن يؤدي إلى “فك” هذه الصفقات، مما يخلق تقلبات في الأسواق المالية العالمية.
هل من انهيار مالي؟
لا يمكن الجزم بحدوث “انهيار مالي” وشيك وكامل في اليابان بالمعنى التقليدي للأزمة التي تشل النظام المالي بأكمله، ولكن المؤشرات الحالية والتحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد تثير قلقاً متزايداً لدى المحللين والمنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
أما الأسباب التي دفعت المحللين إلى عدم توقع انهيار مالي بالمعنى التقليدي للكلمة، فترتبط بالملكية المحلية للدين، كون الجزء الأكبر منه مملوك محلياً، بما في ذلك بنك اليابان والمؤسسات المالية اليابانية. وهو ما يقلل من مخاطر هروب رأس المال الأجنبي المفاجئ الذي يمكن أن يؤدي إلى أزمة عملة وانهيار مالي. كما تتمتع اليابان باحتياطيات

ضخمة من العملات الأجنبية، مما يوفر وسادة ضد الصدمات الخارجية، في وقت لا يزال بنك اليابان قادراً على التدخل في سوق السندات لدعم الاستقرار – علماً أنه قام بذلك تاريخياً. وبالاضافة إلى ذلك، لا يزال الاقتصاد الياباني يتمتع بقوة صناعية وتكنولوجية كبيرة، وقدرة على التكيف، وإن كانت بوتيرة بطيئة.
هل من إجراءات احترازية؟
مؤخراً، طرح صندوق النقد الدولي عدة اجراءات يمكن وصفها بالتوصيات لإعادة الاقتصاد الياباني إىل مساره الصحيح. فهو أوصى بنك اليابان بمواصلة التوجه نحو تطبيع السياسة النقدية بشكل تدريجي ومرن، مدفوعاً بالبيانات الاقتصادية وذلك بهدف تثبيت توقعات التضخم عند مستوى 2 في المائة بشكل مستدام. كما دعا إلى إنهاء سياسة التحكم في منحنى العائد وتقليص مشتريات السندات، واستمرار مراقبة سوق السندات الحكومية عن كثب لضمان استقراره وتجنب الاضطرابات الحادة.
كما حث الصندوق الحكومة اليابانية على تبني استراتيجية مالية شاملة ومتسقة تهدف إلى تحقيق فائض أولي في الموازنة على المدى المتوسط، وذلك لضمان استدامة الدين العام المرتفع، مشدداً على الحاجة إلى إدارة فعالة لعبء الدين العام الضخم، بما في ذلك النظر في سبل لزيادة الإيرادات أو ترشيد الإنفاق. ودعا إلى معالجة الضغوط المتزايدة على المالية العامة الناتجة عن شيخوخة السكان (مثل ارتفاع نفقات الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية) من خلال إصلاحات مستدامة.
ومن بين التوصيات، الحاجة الملحة للإصلاحات الهيكلية لتحسين كفاءة وإنتاجية الاقتصاد الياباني في سياق شيخوخة السكان، وتشجيع وزيادة مشاركة كبار السن والنساء في سوق العمل من خلال توفير الدعم اللازم، وتعزيز مرونة سوق العمل ومعالجة الازدواجية بين أنواع الوظائف، وتسهيل التنقل في سوق العمل والاستفادة من العمالة الأجنبية لسد النقص، وتشجيع الاستثمار في التحول الأخضر، والاستفادة من التطورات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي لزيادة الإنتاجية وتعزيز النمو.
في القطاع المالي، دعا صندوق النقد الدولي إلى تعزيز المرونة من التأكد من أن القطاع المالي الياباني يظل مرناً وقادراً على تحمل الصدمات المحتملة، خاصة في ظل التغيرات في بيئة أسعار الفائدة، ومتابعة المخاطر المحتملة الناجمة عن التغيرات في أسواق السندات العالمية والتحولات في تدفقات رؤوس الأموال.
في النهاية، ستُمثل انتخابات مجلس الشيوخ الياباني في يوليو (تموز) اختباراً حقيقياً للحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة رئيس الوزراء الياباني، شيغيرو إيشيبا، الذي حافظ على سيطرته شبه الكاملة على السلطة في اليابان على مدى العقود السبعة الماضية. ويرى بعض المحللين أن قبضة الحزب في السنوات الأخيرة تُعزى جزئياً إلى قدرته على استخدام الإنفاق لقمع بعض المعارضة الشعبوية التي تُرى في الديمقراطيات المتقدمة الأخرى.