بعد 50 عاما.. العالم يعترف بمغربية الصحراء 

تحوّلات أسكتت روسيا والصين ومرّرت القرار التاريخي في مجلس الأمن 

محمد قواص 

يكاد المغرب يقفل ملفا بقي ساخنا طوال نصف قرن. خمسة عقود من الجهد الدبلوماسي الدؤوب قاد دول العالم، لاسيما الدول الخمس الكبرى صاحبة حقّ الفيتو في مجلس الأمن الدولي، إلى وضع اللبنات القانونية الأولى لحلّ أزمة الصحراء الغربية التي لم تسمّم علاقة المغرب والجزاءر فقط، بل كانت وراء تعطيل كثير من المشروعات الطموحة في شمال أفريقيا، من بينهم إقامة “اتحاد المغرب العربي”. وكان على المغرب انتظار كثير من التحوّلات الإقليمية والدولية التي نشهدها خلال السنوات الأخيرة، لكي تنضج داخل العواصم المعنيّة كما لدى عواصم القرار الكبرى خيارات جديدة لم تكن واردة قبل ذلك.  

فما الذي مهّد لصدور قرار أممي يعتبر أن التفاوض على الحلّ النهائي لصراع الصحراء يستند على اقتراح المغرب إقامة حكم ذاتي هناك تحت سيادة المملكة المغربية؟ 

بشائر واشنطن 

في 19 تشريتن الأول (اكتوبر) 2025، أعلن ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمهام السلام في الشرق الأوسط في مقابلة تلفزيونية أجرتها شبكة CBS News ضمن برنامج “60 Minutes”، أن الولايات المتحدة تعمل حالياً على وساطة لإبرام اتفاق سلام بين المغرب والجزائر. قال: “نحن نعمل على ملف المغرب والجزائر الآن. فريقنا يركّز عليه، وسيكون هناك اتفاق سلام في الـ60 يوماً القادمة، في رأيي”. حينها لم يفصح ويتكوف عن تفاصيل محددة حول شكل الاتفاق أو كيفية التعامل مع النزاع الرئيسي حول الصحراء الغربية، لكنه أشار إلى أن النجاح في اتفاقات أخرى (مثل وقف إطلاق النار في غزة) يشجع على “عدوى السلام”. 

قبل ذلك التصريح اللافت الذي فاجأ المراقبين لشؤون شمال أفريقيا والصراع بين المغرب والجزائر، خرج تصريح أميركي أكثر إثارة للاهتمام. ففي 17 من الشهر نفسه، أكد مسعد بولس، مستشار ترامب للشؤون الأفريقية (ووالد زوج ابنته)، في مقابلة مع قناة الشرق نيوز السعودية، أن الجزائر ترغب في “حل أساسي ونهائي” لنزاع الصحراء الغربية. أضاف، وهنا كان بيت القصيد، أنه التقى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مؤخراً، ووجده “منفتحاً على إعادة بناء جسور الثقة مع الشعب المغربي والملك والحكومة”. ثم وصف بولس خطاب الملك محمد السادس الذي ألقاه في 9 من ذلك الشهر بأنه “تاريخي”، مشيراً إلى أن الملك يسعى لحل يرضي جميع الأطراف. 

أتت تلك التصريحات وكأنها تمهيد يبشّر بأجواء اجتماع مجلس الأمن الدولي لتجديد تفويض بعثة مينورسو (القوات الأممية في الصحراء الغربية) في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 2025. وقد اقترحت الولايات المتحدة مشروع قرار يحدد موعداً نهائياً حتى 31 يناير 2026 للتوصل إلى حل مقبول من جميع الأطراف. 

المغرب-الجزائر: خلاف من عقود 

يعود خلاف المغرب والجزائر التاريخي إلى “حرب الرمال” التي نشبت على الحدود بين البلدين بعد عام على نيل الجزائر استقلالها عام 1962. ثم تفاقم خلاف البلدين في الموقف من قضية الصحراء الغربية التي انفجرت عام 1975. المغرب يعتبر الصحراء مغربية وجزءا من أراضي المملكة وسيادة البلاد، فيما تدعم الجزائر حق تقرير المصير وتؤيد مسعى جبهة البوليساريو للاستقلال. لكن الأمر تفاقم في عام 1994 حين أغلقت الحدود البرية بين البلدين بعد هجمات إرهابية في مراكش، وبات أكثر حدّة في آب (أغسطس) 2021 حين قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، متهمة الرباط بارتكاب “أعمال عدائية” (مثل دعم حركات انفصالية في الجزائر). عرض الملك محمد السادس مراراً “مدّ يد السلام”، لكن الجزائر رفضت دائما عروض المغرب متمسكة بسياسة قطيعة، شددت عليها حتى بعد التغيير الذي أدى إلى انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية عام 2019 ثم عام 2024. 

ويعتقد مراقبون أن العداء للمغرب بات من أبجديات النظام السياسي الجزائري منذ الاستقلال، وأن محاولات رأب الصدع باءت بالفشل، بما فيها تلك التي بشّر بها الرئيس الجزائري محمد بوضياف الذي كان يقيم قبل ذلك في المغرب واغتيل في الجزائر عام 1992. 

وقد تفاقم خلاف الجزائر مع المغرب في ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى حين انضم المغرب إلى الاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل عام 2020، ما اعتبرته الجزائر “مؤامرة مغربية إسرائيلية ضدها. وزاد من توتّر الجزائر اعتراف الولايات المتحدة، مقابل انضمام الغرب إلى الاتفاقات، بمغربية الصحراء وسيادة المغرب عليها. 

عامل ترامب 

تمكنّت الدبلوماسية المغربية من تحقيق اختراقات دولية من خلال موافقة دول أساسية على خطة المغرب لمنح الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية، مع الاحتفاظ بالشؤون الخارجية والدفاع. حظيت هذه الخطة بدعم دولي متزايد، بما في ذلك الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، اسبانيا، ألمانيا وعدة دول أفريقية وعربية فتح بعضها قنصليات في مدينة العيون في الصحراء. حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غيّر بوصلة فرنسا حيال الموقف من الصحراء باتجاه خيار المغرب بعيدا من الجزائر. 

وترى مصادر أميركية أن ما كشفه ويتكوف يأتي في سياق جهود الوساطة الأمريكية في نزاعات دولية أخرى، مثل الحرب في أوكرانيا والصراع في غزة، حيث وصف ويتكوف الدبلوماسية بأنها “صفقات” تشبه الأعمال التجارية، مع التركيز على بناء الثقة بين الأطراف. والتقدير أن ترامب أراد إضافة إنجاز إلى سجله الذي ردده بأنه استطاع إنهاء 7 حروب، ويعوّل على التطوّر اللافت الذي سُجل في الآونة الأخيرة في علاقات الجزائر مع الولايات المتحدة في مجالات الأمن والدفاع والاقتصاد، لا سيما في مجال المعادن النادرة التي سبق لسفير الجزائر في واشنطن أن دعا إلى تعاون البلدين في قطاعها. 

وقد كشفت تسريبات إعلامية حينها، أن واشنطن اقترحت حزمة اقتصادية مشتركة تشمل مشاريع بنى تحتية عبر الحدود وإعادة فتحها التدريجية، مقابل التزامات متبادلة بخفض التصعيد وتنسيق أمني إقليمي. 

ورغم أن الخبراء في قضايا شمال أفريقيا استبعدوا إمكانية الوصول إلى توافقات بين المغرب والجزائر خلال الـ 60 يوما التي حددها ويتكوف، خصوصا أنه لم يصدر حينها عن الرباط والجزائر أي تعليق رسمي بشأن مسعى أميركي للتوصل إلى اتفاق. لكن مصادر متخصصة رأت أن اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء وإشارة بولس في مقابلته إلى أن الصحراء “مغربية” يؤكد انحياز واشنطن إلى الرباط في مسألة الصحراء، ما يعني أن تجاوب الجزائر مع الجهود الأميركية يتطلب تخلي الجزائر عن موقفها التاريخي من هذه المسألة. 

ورأى المراقبون أن إعلان ويتكوف عن اتفاق قريب بين الجزائر والمغرب يتأسس على معطيات صلبة بناء على تواصل متعدد المستويات أجرته واشنطن مع البلدين. ويؤكد هذا الاتجاه إعلان بولس بأن الرئيس الجزائري منفتح على إعادة العلاقة مع المغرب والشعب المغربي. كما كان يعتقد أن المناقشات وصلت إلى حدود رعاية الولايات المتحدة لخطة اقتصادية تشمل البلدين. 

ولفت المختصون إلى حقيقة أن هذا الاختراق يقوم على تطوّر لافت في علاقة الجزائر مع إدارة ترامب الحالية لاسيما في مجالات الأمن والدفاع والاقتصاد، علما أن الجزائر كانت محسوبة على الاتحاد السوفييتي سابقا وتملك علاقات متقدمة مع روسيا حاليا. وكان التقدير أن ترامب يسعى لتبريد خلاف الجزائر والمغرب من ضمن مساعيه لوقف حرب غزّة وأوكرانيا وتأكيده على النجاح في وقف 7 حروب. 

وبالنظر إلى أن العاهل المغربي كان سبق أن كرر دعوة الجزائر إلى طيّ الصفحة والتوجه إلى السلام وإنهاء الخلاف، فقد توفّرت قناعات بأن تقدما حصل في وجهة نظر الجزائر تتيح إعلان واشنطن عن اتفاق قريب. ويعتقد أن البلدين، لا سيما الجزائر، يقومان بالتموضع وفق التحوّلات الإقليمية والدولية التي تدفع باتجاه تجميد النزاعات والالتحاق بالخرائط الجيوسياسية والاقتصادية في العالم. 

التحوّلات بين الأمس واليوم 

انتهى اجتماع مجلس الأمن في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2025 معلنا قرارا يعترف بوجهة نظر المغرب ويشرّع التفاوض وفق اقتراحها إقامة حكم ذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية الكاملة. خرج العاهل المغربي الملك محمد السادس بعد ساعات بخطاب توجّه به إلى المغاربة. اختصرت كلمات الخطاب اللحظة التي اختلطت داخلها مواجع التاريخ، وعوامل السياسة والعلاقات الدولية، ومصير قضية باتت خلال 50 عاما قضية المغاربة الأولة مهما تعررت مشاربهم تيارات وتوجهاتهم السياسية. بات باستطاعة ملك البلاد محمد السادس أن يخرج ليعلن أن “ما بعد 31 تشرين الأول لن يكون كما قبله”. لكن أيضا ليبشّر المغاربة أنه “حان وقت المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة الذي لن يتطاول أحد على حقوقه وحدوده التاريخية”.. لكن كيف حدث ذلك؟ 

زحف المغاربة عام 1975 في “المسيرة الخضراء” خلف ملكهم الراحل الحسن الثاني لانتزاع الصحراء من اسبانيا. وحين تخلى المستعمر عن فريسته ظهرت الطباع المعقّدة لقصة كادت تكون جميلة. وجد الصراع القديم بين المغرب والجزائر في “القضية” مادة نكد ما زالت من أبرز ملفات الخلاف بين بلدين. 

بالمقابل استندت الجزائر على استراتيجية اللعب خلف الكواليس. وقفت، باسم تراث البلاد الثوري في “دعم حق الشعوب في تقرير مصائرها”، لتدعم جبهة البوليساريو ذات المطالب الاستقلالية. وبدا أن العالم انقسم في موقفه من مسألة الصحراء وفق مصالحه مع هذه الدولة أو تلك، ووفق اصطفافات تطوّرت وتحوّلت منذ اندثار الحرب الباردة، انتهاء بتلك الني أنتجت ذلك المشهد السريالي لجلسة مجلس الأمن يوم 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. 

في بداية ذلك الصراع كانت التيارات اليسارية المناوئة لحكم الملك الحسن الثاني حائرة تنتهج جدلا دقيقا حساسا متضامنا مع حقوق الشعوب، بما فيها الصحراوية، ومتحيّزا للهوية المغربية للصحراء. وحين فتح الملك الراحل صفحة جديدة مع المعارضة وعيّن أبرز قادتها عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أول في البلاد عام 1998، تبدّدت تلك الحيرة الطارئة، وصار سهلا لأي مراقب استنتاج أن الصحراء قضية وطنية يحملها كل مواطن في داخل المملكة وخارجها وتكاد تكون القضية الوحيدة التي تحظى باجماع كامل لا لبس فيه. 

بدا أن الأمم المتحدة ومبعوثيها تناوبوا على فتح بازارات لاحتمالات الحل. تراوحت السيناريوهات وتناقضت ما بين احتمال الاستقلال وسيناريوهاته العزيز على قلب الجزائر والبوليساريو من جهة، وتمسّك المغرب من جعة أخرى بالسيادة الكاملة على كامل الصحراء. وحين قدمت الرباط أول مرة عام 2007 خطة مرنة لإقامة حكم ذاتي في الصحراء، ارتبكت حسابات واختلطت، وناورت عواصم وتذبذبت مواقفها. انتهى كل ذلك وبدت العواصم في آخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي “مستسلمة” لخيار المغرب خطة وحيدة يقوم التفاوض بشأنها لطيّ الملف وإقفال الجدل بشأنه. 

دبلوماسية المغرب البراغماتية 

يعرف المغاربة أن مسار السنين بين 1975-2025 كان صعبا معقّدا شائكا، وكاد يكون مستحيلا. يعرفون أن الرباط طرقت أبواب العالم، باباً باباً، لجذب العواصم إلى دعم قضية المغرب في الدفاع عن السيادة على أقاليمه الجنوبية. ولئن انقسم العالم في زمن الحرب الباردة انقساما منطقيا مفهوما متّسقا مع انقسام إيديولوجيات نظام الجمهورية في الجزائرية ونظام الملكيه في المغرب، فإن الإنقسام الدولي بات ما بعد اندثار ذلك الزمن، أكثر وحشيا تشظيا وعبثية، بحيث غابت خطوط الخنادق ولعبت المصالح وأحجية الأسواق ومزاج الاصطفافات أدوارا لانتاج تيارات أكثرها رمادي ملتبس خبيث. وطالما أن المسألة تغذي خلافا بين الجزائر المغرب، فإن الانتهازية تكثفت لإنتاج مواقف تتيح الأكل على موائد البلدين. 

وجب الاعتراف بنجاح دبلوماسية رشيقة براغماتية مكثفة دؤوبة اعتمدتها الرباط للدفاع عن الصحراء. ووجب الإقرار أيضا أن تلك الدبلوماسية طوّرت موقفا أميركيا انتهى إلى اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2020 بمغربية الصحراء. شكّل ذلك الإعلان تحوّلا مفصليا كبيرا في المزاج الدولي العام. أحدث موقف واشنطن ارتدادات أصابت عواصم أوروبية تأخرت، لكنها التحقت بالقطار، لتعلن انتهاء الرمادية والانحياز الكامل لخطّة المغرب. كانت الجزائر تراقب بقلق ذلك الانقلاب المتدحرج في مواقف حتى دول مثل روسيا والصين تقليدية في عراقة علاقاتها مع الجزائر. 

انتظر المغاربة جلسة مجلس الأمن آخر الشهر الماضي باهتمام. لكن مصادقة المجلس على مشروع القرار الذي يجدد لبعثة الأمم المتحدة (مينورسو) على أساس التفاوض على خطّة المغرب “الوحيدة” لم تكن مفاجئة. بدا أن تحوّلات دولية بعضها معلن وبعضها غير ظاهر للعيان استشرف ذلك التطوّر. ظهر أن دبلوماسية الرباط صوب روسيا والصين حيّدت تصويت البلدين ورفع الحواجز من أمام تحوّل ترعاه واشنطن وحاملي الفيتو الغربيين في مجلس الأمن. صوت مجلس الأمن بغالبية 11 صوتاً مع القرار، مع امتناع روسيا والصين وباكستان عن التصويت، وعدم مشاركة الجزائر في هذا التصويت، وهنا بيت القصيد، ذلك أن تحوّلا كبيرا طرأ على علاقة الجزائر والولايات المتحدة. 

الجزائر بين موسكو وواشنطن 

رصد المراقبون ظواهر تحوّل تاريخي في علاقات الجزائر مع الولايات المتحدة وسط سعيّ ضبابي في المحافظة على العلاقات التقليدية القديمة للجزائر مع روسيا. ورغم عدم وجود رأي حاسم يجزم في هذا الملف، لاحظ الباحثون تراكم خطوات قد يُفهم منها توجه الجزائر إلى تحوّل استراتيجي داخل مشهد دولي في تحوّل. ففي 14 أيلول (سبتمبر) 2025، أعلن بيان صادر عن وزارة الدفاع الجزائرية عن رسو المفرزة التابعة للأسطولين الروسيين للبحر الأسود والبلطيق، المكونة من الغواصة “نوفوروسييسك” والقاطرة البحرية للإنقاذ “ياكوف غريبيلسكي”،  بميناء الجزائر. لكن في 14 من نفس الشهر، أعلنت السفارة الأميركية بالجزائر، أن اللواء كلود ك. تيودور الابن، قائد العمليات الخاصة الأميركية في أفريقيا، يقوم بزيارة إلى الجزائر للقاء الفريق مصطفى سماعلي، قائد القوات البرية الجزائرية. 

أتت الزيارة الأميركية في سياق استمرار الزخم الذي عرفته العلاقات العسكرية بين البلدين منذ توقيع الاتفاق الأول من نوعه في 22 كانون الثاني (يناير) 2025 بين رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري، الفريق أول سعيد شنقريحة، والقائد السابق لأفريكوم الجنرال مايكل لانغلي. وأتت الزيارة بعد تلك، في 27 يوليو 2025، التي قام بها مسعد بولس، مبعوث الرئيس ترامب، المكلف بالشؤون الإفريقية والشرق أوسطية. 

اعتبرت تقارير أمنيه  الاتفاق العسكري بين الجزائر وواشنطن شكّل تحولاً استراتيجياً في ميزان العلاقات بالمنطقة ومن أسباب إنهاء مهمة الشراكة العسكرية الروسية الخاصة في مالي. وأضافت أن الرسو البحري الروسي وزيارة القائد العسكري الأميركي يعبّران عن نجاح الجزائر في انتهاج سياسة خارجية متوازنة بين الشرق والغرب. 

بالمقابل أشارت مصادر أميركية إلى أن الأمر يعبّر عن تطوّر في توجهات الإدارة الأميركية منذ بدء ولاية الرئيس دونالد ترامب الحالية باعتماد سياسة أخرى مع بلد يفترض، ومنذ عهد مرحلة الحرب الباردة، أن اصطفافاته قريبة من موسكو. وتلفت جهات بحث أن الجزائر سعت إلى تطوير علاقاتها مع الصين والانخراط في مجموعة “بريكس”، غير أن المجموعة لم تدرج الجزائر في قائمة الدول التي قبلت عضويتها مثل الإمارات ومصر والسعودية وأثيوبيا وغيرها. وقد حمّلت الجزائر روسيا مسؤولية هذا الإخفاق. 

ووفقاً لتقارير متعددة، بدأت الجزائر في تلقي مقاتلات سوخوي Su-35 من روسيا في مارس 2025، حيث تم رصد طائرة واحدة على الأقل في قاعدة عين البيضاء/أم البواقي الجوية عبر صور الأقمار الصناعية.ىوقال مراقبون إن الجزائر وموسكو اعتمدتا غموضا بشأن صفقة المقاتلات ما يتيح لتسريبات أن تعتقد بأن هناك أزمة ما في تنفيذها على الرغم من تحسّن علاقات البلدين بعد برودة وتوتر. 

وقد ظهر هذا التوتّر بسبب تعارض مصالح الجزائر الأمنية في منطقة “الساحل” الأفريقي وليبيا مع توسّع النفوذ الروسي وتواجد مؤسسات روسيا الأمنية (الفيلق الأفريقي-فاغنر) في تلك المنطقة. واعتبر باحثون أن الجزائر تحتل مكانة جيوسياسية ولا يمكن تمرير أي مقاربة أميركية أمنية أو عسكرية أو سياسية في كل من ليبيا أو الصحراء الغربية أو دول الساحل الأفريقي دون التنسيق مع الجزائر 

وترفض مصادر دبلوماسية المزاعم التي تقول إن الجزائر تصحّح سياسة قديمة وتذهب لتطوير العلاقات مع واشنطن، وترى أن الولايات المتحدة هي التي صححت سياساتها وأن الجزائر لاقتها في هذا التحوّل. أضافت المصادر أن الجزائر مدركة لحاجة الأميركيين للتعاون مع الجزائر لتطوير سياستهم في أفريقيا ومنطقة الساحل، وأن واشنطن تدرك مدى تجربة الجزائر في المنطقة لا سيما في مكافحة الإرهاب. 

نحو واشنطن.. تحولات جزائرية 

رغم استقرار علاقات الجزائر وروسيا، فإن المراقبين يقرون بأن أزمة ثقة بين البلدين تقف وراء تطوّر علاقات الجزائر والولايات المتحدة التي قد تصبح استراتيجية، مقابل تراجع محسوب في أولوية العلاقة التقليدية مع روسيا. ويلاحظ مراقبون أن منابر جزائرية تعمل على التقليل من أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة، على الرغم من تصريح للسفير الجزائري في واشنطن صبري بوقادوم، في آذار (مارس) 2025، قال فيه إن شراكة البلدين العسكرية والاقتصادية ستكون فيها “السماء هي الحد”. وتعتبر تلك المنابر أن أسبابا عقائدية على علاقة بموقف الجزائر من المواقف الأميركية في شؤون الشرق الأوسط تمنع توسّع علاقات البلدين. ويقول خبراء في شؤون شمال أفريقيا إن الجزائر هي التي تسعى لتطوير العلاقات مع واشنطن، وتذكّر بأن الجزائر التي غضبت جراء انضمام المغرب إلى الاتفاقات الإبراهيمية برعاية ترامب في ولايته الأولى واعتبرت الأمر “مؤامرة على الجزائر” وغضبت من اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، هي التي تسعى لتطوير العلاقة مع ترامب في ولايته الحالية. 

ورغم استمرار ضبابية موقع شمال أفريقيا في الأولويات الاستراتيجية الأميركية، ترى مصادر أميركية أن واشنطن تتحرك لإيجاد مجالها الاستراتيجي، وسط حديث عن احتمال إقامة عسكرية أميركية في المغرب مقابل تقارير عن محاولة روسيا إقامة قاعدة بحرية لها في ليبيا أو الجزائر. 

ويخلص الخبراء إلى تقدير أن الجزائر تحاول المحافظة على توازن علاقاتها مع الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى وسط ظواهر تطوّر في إيقاع العلاقات الجديدة مع واشنطن. وأنها مستمرة في الاعتماد في ترسانتها العسكرية على صناعة السلاح الروسي، وتحتاج إلى الوقت والقرار لتنويع مصادر أسلحتها من الولايات المتحدة وإن كانت الاتفاق العسكري بين البلدين يحضّر لذلك. 

ويسجل المراقبون اهتماما جزائريا بتطوير العلاقات مع واشنطن لتشمل شؤون الدفاع والأمن والاقتصاد في مجال المعادن النادرة. ويذكّر الخبراء أن علاقات الجزائر القديمة مع موسكو لم تمنع من ظهور توتّر بينهما بسبب تناقض مصالحهما في ليبيا والساحل الأفريقي وبسبب ما اعتبرته الجزائر تقاعسا روسيا في ملف انضمامها إلى مجموعة “بريكس”. 

وتروّج مصادر الجزائر أسبابا مبدئية عقائدية ما زالت تحول دون تطوير العلاقات مع واشنطن رغم تصريح سفير الجزائر عن علاقات “تحدها السماء”. ويرجّح خبراء أن الجزائر هي التي تسعى إلى تطوير العلاقات مع ترامب رغم غضبها من اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ورعايته لاتفاق المغرب وإسرائيل تحت رعايته. 

والتقدير أن الجزائر تلتقي مع حاجة واشنطن لتنسيق مع الجزائر في أطار سياسة أميركية جديدة في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل وليبيا. فيما ترى ترى مصادر أميركية أن واشنطن تسعى لمنافسة روسيا في العلاقة مع الجزائر كما المنافسة في النفوذ في المنطقة وسط أنباء عن خطط لإقامة قاعدة أميركية في المغرب مقابل احتمالات انشاء قاعدة روسية في ليبيا أو الجزائر. 

ذلك التقارب بين واشطن والجزئر مهد الطريق لتمرير قرار في مجلس الأمن لم تشارك الجزائر في التصويت عليه. وكان مثيرا للانتباه عدم نفي الجزائر رسميا معطيات ويتكوف ومسعد. لكنها أرسلت عبر جبهة البوليساريو التي لا تنطق إلا وفق هوى الجزائر ما يفيد بذلك. ففي 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، أي قبل أسبوع من تصويت مجلس الأمن، اكتشف قيادي الجبهة، محمد يسلم بيسط، عن استعداد لقبول الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، كما تقترحه الرباط، مشترطا أن يأتي نتيجة استفتاء يختاره الصحراويون بأنفسهم، بدلا من مطلب الاستقلال الذي تتمسك به الجبهة.  

وبدا هنا أن الجزائر تُظهر مرونة خجولة لكنها قابلة للتطوّر ربما لتلاقي تحوّلات هذا العالم ودعوة العاهل المغربي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من جديد إلى “حوار أخوي صادق” لطي صفحة ماض كاد لا ينتهي. وبدا أيضا أن العالم لم يعد يريد الاستفادة من الصراع الجزائري المغربي بشأن الصحراء الغربية، فذهب إلى التسليم بها “مغربية” بسبب أن الأولويات تبدّلت والصراع الدولي بات يحتاج إلى إطفاء صراع من أجل تسهيل تموضعات تحتاجها صراعات دولية مستجدة.