لا يخلو التاريخ الفرنسي من مفكرين عمدوا، في القرون السابقة على القرن العشرين، إلى استشراف المستقبل عبر كتابات تماهت مضامينها أما مع مضامين روايات الخيال العلمي، أو عدت حصيلة لمقاربات علمية. وتكفي الإشارة، مثلا، إلى الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو
(Jean Jacques Rousseau, 1712-1778). فكتابه: العقد الاجتماعي، الصادر في عام 1762، يُعبر عن رؤيته الخيالية لمجتمع يتخذ مما يُسمى اليوم بالديمقراطية التشاركية، سبيلا لإدارة معطيات واقعه.
وكذلك الاشارة إلى المفكر الفرنسي، توكفيل (Alexis de Ticqueville,1805-1859)، وكتابه، الديمقراطية في أمريكا، والصادر في عام 1835. فهذا الكتاب تضمن رؤية مستقبلية للدور العالمي لكل من الولايات المتحدة الامريكية، وروسيا القيصرية في وقته (الاتحاد السوفيتي لاحقا) افادت “…أن كلا منهما قد خط القدر له أن يسيطر على مصائر نصف العالم”. وقد أكد واقع عالم الحرب الباردة، بعد عام 1947، دقة هذه الرؤية.
إن توافر عدد من المفكرين الفرنسيين القدامى على رؤى مستقبلية لا يلغي أن التطبيقات العملية الفرنسية للتفكير العلمي في المستقبل تعد، كسواها الامريكية، حديثة النشأة تاريخيا. بيد أن هذا التماثل لا يلغي أن المنطلقات الاولية لكل من الاستشراف الامريكي وكذلك الفرنسي للمستقبل كانت مختلفة. فبينما ذهب الاستشراف الامريكي، في بداية انطلاقته، إلى جعل ضمان الامن القومي الامريكي غايته الإساس، كانت بالمقابل اهتمامات الاستشراف الفرنسي إنسانية- مجتمعية- تنموية نجمت عن الاخذ بفكرة التخطيط لإعادة إعمار فرنسا بعد دمار الحرب العالمية الثانية، فضلا عن التأثر بمنطلقات الفلسفة الوجودية.
فإما عن التخطيط، فقد أريد به إعادة بناء وإعمار فرنسا في مرحلة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد أنيطت مسؤولية إنجازه بمفوضية تخطيط الدولة، التي قامت عام 1962 بتشكيل مجموعة التفكير لعام 1985 برئاسة بيير ماسيPierre Masse) ). وقد تحددت غاية هذه اللجنة في دراسة الحقائق الاساسية التي تسهل معرفة ما الذي سيكون مفيدا لإعادة بناء فرنسا في عام 1985. لذا كان من مهام هذه المجموعة…استخلاص بعض أوجه المستقبل المقبولة للعقل ومفيدة للحركة ضمن مجال الممكن “ويؤكد، هوغ دو جوفنيل، أن الدولة الفرنسية”…كان لها دورا فاعلا جدا…وتطور فيها بقوة التفكير طويل الامد…”.
وإما عن تأثير الفلسفة الوجودية لسارتر، فقد أدت مخرجاته إلى أن تتميز اهتمامات الاستشراف الفرنسي بطابع إنساني- مجتمعي. فهذه الفلسفة أكدت أن الإنسان يتمتع بكامل حريته، وإنه هو الذي يخترع مستقبله ويتحمل المسؤولية الكاملة عنه. ولإصالتها، يؤكد المستقبلي الامريكي إدوارد كورنيش أن: “… الاستجابة الواسعة اللاحقة لفكرة اختراع المستقبل أفضت إلى أن تضحى مفردة أساسية في قاموس اللغة الخاصة التي يستخدمها المستقبليون”.
إن تائر الاستشراف الفرنسي للمستقبل بفكرة اختراع المستقبل لم تؤد إلى تحوله إلى جهد منهجي منظم وهادف إلا منذ نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي. ويكاد الرأي يتفق على أهمية الجهد الذي بذله كل من المستقبليين الفرنسيين الرواد: غاستون برغيه Gaston Berger))، وكذلك برتران دي جو فينيل (Bertrand de Jouvenel)، فضلا عن ميشال غوديه (Michael Godet) في تأسيس ركائز الاستشراف الفرنسي للمستقبل، والتي تطورت لاحقا جراء دور سواهم. وفي أدناه، سيتم تناول رؤية كل من هؤلاء الرواد بالتتابع.
في عام 1957 ذهب، غاستون برغيه، إلى تأسيس المركز الدولي للمستقبل المنظور
(Central International de La Prospective)، فضلا عن إصداره دورية تحمل تسمية
(La Prospective). إن هذا المركز ودوريته يُعبران عن رؤية ومفهوم محددان للمستقبل، وكما يلي:
فإما عن الرؤية، فهي تؤكد أن … الزمن، إذا أخذ ككل، ليس نوعا من المادة السائلة المستمرة التي تتقدم في انسياق متناسق وعلى امتدادها تنتظم الاحداث. فالماضي والمستقبل متغيران بالنسبة للإنسان، وهما ليسا لحظتين في السلسلة نفسها، وليس لهما معنى مادي حقيقي أو معنى إنساني إلا حين نبين صلتهما بأعمالنا. فالماضي هو ما تم فعله، والمستقبل هو ما سيفعل، (وإن) …الالتفات نحو المستقبل بدل النظر إلى الماضي (هو) ليس ببساطة تغيير المشهد، بل الانتقال من المشاهدة إلى… الإعداد للفعل.”
وإما عن المفهوم، فهو يختزل هذه الرؤية في ركيزتين اساسيتين: فإما عن الاولى، فمفادها انفتاح المستقبل على العديد من المشاهد المحتملة، ومن ثم تقف هذه الركيزة بالضد من فكرة أن المستقبل محدد سلفا. وإما عن الركيزة الثانية، فهي تؤكد أن الخيارات التي يتبناها الإنسان والافعال التي يقوم بها في الحاضر هي التي تصنع المستقبل وليس، مثلا، الاتجاهات الخيطية (الممتدة) لكيفية تطور الواقع تاريخيا. ويعبر مفهوم المستقبل المنظور، الذي ابتكره برغيه، عن هاتين الركيزتين.
ويفيد حاضر جل دراسات المستقبلات أن تأثرها بركائز مفهوم المستقبل المنظور يُعد عميقا. ولعل أحد التجليات الاساسية لهذا التأثير يكمن، مثلا، في اتجاه هذه الدراسات، إلى تفضيل استخدام كلمة المستقبلات، بدالة الجمع، بديلا عن الاستخدام السابق لكلمة المستقبل، بدالة المفرد. ولأهميته، فإنه يتمتع بتقويم إيجابي من قبل العديد من المستقبليين. فمثلا، ترى، ماسيني، أنه “مفهوم بالغ الاهمية (لأنه يؤكد على دور…) الارادة، والاختيار، والتغيير في صناعة المستقبل.”
ونتفق مع رؤية ماسيني هذه. فالإرادة، أي إرادة الإنسان الواعي والحر، هي التي تدفعه إلى الاخذ برؤية محددة للعلاقة بين أبعاد الزمان لا تجعل من حقائق الماضي ومعطيات الحاضر عبئا على صناعة المستقبل، وإنما تدفع بهذا الإنسان إلى اختيار أحد البدائل المتاحة في الحاضر بين مجموعة منها، ولاسيما ذاك الذي يؤمن الارتقاء بالحاضر إلى المستوى الذي يمهد للتغيير ومن ثم للمستقبل المنشود والافضل. وعندما يصبح المستقبل المنشود حقيقة موضوعية، عندها يكون هذا الانسان قد حقق ما يصبو إليه.
ولتأكيده على دور الارادة والاختيار والتغيير، يجد مفهوم المستقبل المنظور استجابة واسعة داخل فرنس. اذ تم توظيفه لأغراض التخطيط. كما أنه يجد انتشارا في دول عالم الجنوب، ولاسيما في تلك التي استمرت نخبها تدعو إلى التغيير في واقعها الراهن، كثمة دول امريكية لاتينية، وافريقية ولاسيما الناطقة باللغة الفرنسية، هذا فضلا عن تبني مستقبليون عرب لهذا المفهوم. ومن بينهم مثلا المهدي المنجرة. )((( تاكد))))
وبالإضافة إلى غوستاف برغيه، يُعد برتران دي جوفينيل
(Bertrand de Jouvenel, 1903-1987) من بين ابرز رواد الاستشراف الفرنسي للمستقبل شهرة وتأثيرا, هذا جراء دوره في نشر التفكير العلمي في المستقبل داخل فرنسا، فضلا عن تعميم رؤية الاستشراف الفرنسي للمستقبل خارجها.
إن الدور الذي أداه، جوفينيل لم يكن بمعزل عن دور المؤسسة التي قام بتأسيسها في عام 1967، وكان أول رئيس لها ايضا. وقد تم ابتداء” تسميتها: مستقبلات محتملة (Futuribles). بيد أنها صارت تسمى في عام 1973 بالفيدرالية العالمية لدراسات المستقبلات المحتملة
International Futuribles) Association). وتتطلع هذه الفيدرالية، التي تُعد المنافس الاهم لجمعية مستقبل العالم الامريكية، إلى تأمين ديمومة التواصل بين المستقبليين الفرنسيين وسواهم على صعيد العالم سبيلا للارتقاء بدراسات المستقبلات إلى افاق أرحب. وقد تم ذلك، وبالتعاون مع منظمة اليونسكو، عبر عقد المؤتمرات في العديد من دول العالم ابتداء من مؤتمرها الاول في باريس عام 1975 صعودا، هذا فضلا عن ذهابها إلى تامين لقاءات إقليمية بين المستقبليين، واستحداث دورات تعليمية تعريفية بدراسات المستقبلات، هنا وهناك، ناهيك عن الاستمرار في إصدار مجلتها، التي اخذت، ومنذ بداية عام 2017 تسمية (Human Futures)
لقد تأسست هذه الفيدرالية على مفهوم المستقبلات المحتملة (Futuribles) الذي ابتكره جو فينيل، وبدالة ” … أن المستقبل له صفة الجمع حيث إن احتمالاته متعددة (وإنه يمكن من خلال التدخل الانساني) تغييره قبل حدوثه. “وفضلا عن ذلك، يؤكد هذا المفهوم على أن “…المستقبل ليس قدرا، بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه الافضل…”.
إن الشهرة التي اكتسبها جوفينيل لا تنبع من دور الفيدرالية التي قام بتأسيسها فحسب، وإنما أيضا من كتابه الصادر في باريس عام 1963، والمترجم إلى اللغة الإنكليزية عام 1967، بعنوان: فن الرجم بالغيب (The Art of Conjecture)، والذي تؤكد عدة اراء أنه من بين أهم المؤلفات الرائدة التي تناولت بعمق دراسات المستقبلات ومقارباتها المنهجية. ففي مؤلفه هذا يقول إن استشراف المستقبل: “… يتطلب معرفة الاتجاهات السائدة، ومدى سرعتها، والعلاقة بين الظواهر مهما بدت غير مترابطة، إضافة إلى تأثير ظواهر فرعية في بلورة اتجاه قد يعاكس ذلك الذي تفيد به ظاهرة (أو ظواهر) أساسية، (وهو فضلا عن ذلك دعا إلى)، عدم التركيز على حقائق الماضي والحاضر فحسب، وإنما ايضا على النيات الإنسانية، مهما كانت طبيعتها، والافعال الناجمة عنها.”
ويرى، إدوارد كورنيش، أن جوفينيل لم يفهم دراسات المستقبلات كعلم وإنما كفن، ويستشهد على ذلك بعنوان كتابه أعلاه. بيد أننا نرى أن جوفينيل جمع في كتابه بين الموضوعية والاستهدافية، أي بين العلم والفن في الوقت ذاته.
وإما عن ميشال غوديه (Michel Godet)، فهو الاخر يُعد من بين أشهر رواد الاستشراف الفرنسي . علما أن شهرته لا تنبع من دوره في تعزيز مفاهيم ومقاربات وأدوات هذا الاستشراف في المؤسسات التي عمل فيها داخل فرنسا وكذلك خارجها فحسب، وإنما أيضا من مؤلفه الموسوم: الاستشراف الاستراتيجي للمؤسسات والاقاليم. ففي هذا المؤلف الرائد يطرح، ميشال غوديه، مجموعة افكار يتماهى بعضها مع رؤى غيره من المستقبليين الفرنسيين، ويختلف بعضها الاخر عنها. فهو مثلا، يذهب متماهيا مع سواه، إلى رفض مقاربة التنبؤ بالمستقبل. لذا يقول: “إن كل شكل من أشكال التنبؤ هو بهتان. فالمستقبل ليس مكتوبا، ولكن علينا إنجازه. والمستقبل متعدد، وغير محدد، وهو مفتوح على تنوع كبير من المستقبلات الممكنة…”
ومن هنا راح، غوديه، مثل سواه من المستقبليين الفرنسيين، إلى تبني مقاربة الاستشراف. ولأنه أدرك أن الاستشراف يفضي إلى تحرير “…الإنسان من القدرية ويحث على الفعل…” رأى أنه “…يمثل استباقا (Anticipation) يستعد للفعل (Pre-active) ويستحدث الفعل (Proactive)، وينير العمل الحاضر على ضوء المستقبلات الممكنة والمأمولة. (وإننا عندما) نتهيأ للتغيرات المتوقعة (فإن ذلك) …لا يمنع من أن نعمل على إحداث التغييرات المأمولة. كما أن الاستعداد للتغيرات المتوقعة، لا يمنع من الفعل لإحداث التغيير المرغوب، ذلك أن الاستباق لا يمكن أن يتحول إلى فعل إلا عند تبنيه من قبل الفاعليين المعنيين.”
وانطلاقا من أن تبني الاستباق من قبل أحد الفاعلين هو الذي يفضي إلى أن يتحول إلى فعل، أكد، ميشال غوديه، أن بين مفهومي الاستشراف والإستراتيجية تقوم علاقة وطيدة. ولا يلغي هذه العلاقة أن كل من هذين المفهومين ينطلق من سؤال خاص به. فبينما يتساءل مفهوم الاستشراف عن: ماذا يمكن، أو يحتمل، أن يحدث؟، وبالتالي يرتبط بفترة الاستباق، التي تنصرف إلى استشراف التغيرات الممكنة والمأمولة، يتساءل مفهوم الاستراتيجية عن: ما الذي يمكن أن أفعل؟ وبالتالي فأنه يرتبط بفترة الإعداد للعمل، وبضمنه بلورة وتقيم الخيارات الاستراتيجية الممكنة من اجل الاستعداد للتغيرات المرتقبة وإحداث التغيرات المرغوب فيها.”
ومع ذلك يرى، غوديه، ضرورة التفرقة بين الاستشراف والاستراتيجية .بيد أن التباين بين هذين المفهومين يتقلص ويتراجع على نحوٍ ملموس عندما يضحى المشهد الناجم عن حصيلة عملية الاستشراف بمثابة الركيزة التي تستهدي بها الاستراتيجية في سعيها إلى نقل المشهد من إطاره النظري إلى إطاره العملي، ومن ثم تحوله إلى حقيقة موضوعية.
وقياسا على علاقة الترابط بين المفهومين: الاستشراف والاستراتيجية، ابتكر، ميشال غوديه، مفهوم الاستشراف الاستراتيجي Strategic Foresight))، الذي يجد ومنذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي انتشارا واسعا ولاسيما بين المستقبليين. ويرد هذا الانتشار إلى فوائده، التي تكمن في مساعدة قادة المؤسسات والقائمين على الأقاليم وسواهم من امتلاك المفاهيم والمناهج القادرة على إنارة حاضرهم على ضوء المستقبلات الممكنة.
ولتأثير رواد الاستشراف الفرنسي : بيرغيه، وجوفينيل، وغوديه، مثلا، أستمر الاستشراف الفرنسي للمستقبل متأثرا، في العموم، بسمات أصالة النشأة، والخصوصية، بمعنى النزوع نحو التميز عن الاستشراف الأمريكي للمستقبل.
ويتناول المستقبلي الإسباني (Jordi Serra del Pino) هذه السمات من جانبين مهمين:فإما عن الجانب الاول، فمفاده اقتران الاستشراف الفرنسي للمستقبل، ومنذ بدايته، بفكرة التكامل المنهجي. فهذا الاستشراف ادرك جدوى توظيف العديد من المقاربات المنهجية سبيلا لتحقيق الغاية المنشودة. وبهذا يتميز عن ذلك الجهد، الذي استمر ينصرف إلى استشراف مشاهد المستقبل على وفق مقاربات محددة وبمعزل عن سواها.
وإما عن الجانب الثاني، فهو يجسد ارتباط الاستشراف الفرنسي بمقاربتين أساسيتين: الاولى، هي مقاربة التحليل الهيكلي (Structural Analysis)، التي تنصرف إلى تحليل العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي تربط بين مجموعة متغيرات ذات مضامين متنوعة سبيلا لاستكشاف تأثير دورها في بناء المستقبل. ويؤكد المستقبلي الاسترالي، سلوتر، أن هذه المقاربة تستخدم أليات ذات مضمون كمي عال الإتقان.
*أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات