من الإستقلال للوصاية
هذا آخر ما أعلنته العقلية الترامبية عشوائية السياسة التي ما انفكت تلقي بالمفاجآت من العيار الثقيل كأن الرجل في منافسة مع التاريخ وبعد الخراب المدعوم وتدمير غزة واقتلاعها من جذورها لكن الحقيقة أن نتنياهو لم يستطيع الصمود كثيراً أمام اغراء الإعلام الذي يمتهنه بجدارة ليقول أنه من وضع مخطط اليوم التالي لغزة هو نفسه وأن كل البنود التي جاءت في إعلان الرئيس الأميركي في اليوم الأخير لسبتمبر الماضي تلك الخطة التي جاءت في واحد وعشرون بنداً تطرح ما يشبه الإستسلام على حركة حماس بعد عامين من القتال الدامي وقد يكون ذلك مفهوماً في إطار حرباً ساحقة استخدمت اسرائيل كل ما لدى المصانع والمخازن الاميركية لتصنع القوة خطوطها ونتائجها .
لكن الاكثر غرابة بما حملته خطة الرئيس الأميركي هو تشكيل مجلس وصاية على الفلسطينيين في قطاع غزة وأن يتم اختيار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق شريك الجمهوريين في تحطيم العراق والتقارير الكاذبة للأسلحة المحرمة من أجل الإستيلاء على البلد العربي الثري ونفطه وتحويله من دولة مركزية إلى شبه دولة تحتاج الكثير من السنوات للعودة وترميم ما خربه بلير وبوش وتحالفهما ولم يشهد التاريخ لتوني بلير بأي من مهمات التطوير والتقدم وفي هذا مفارقة كبيرة تطرح لماذا توني بلير لرئاسة ما أسمته سلطة انتقالية دولية لإدارة قطاع غزة في اليوم التالي لإنتهاء العمليات العسكرية .
في اجتماع عقد في البيت الأبيض قبل إعلان خطة دونالد ترامب ضم جاريد كوشنير صهر الرئيس الذي كان قد لعب أدواراًمركزية في ولايته الأولى وكذلك توني بلير كأن ذلك الإجتماع كان يعلن عن عودة الأخير ولم يكن الأمر يحتاج كثير من التركيز لرؤية النشاط الإستثماري ورائحة العقارات في الإجتماع وهو ما لم يخجل الرئيس الأميركي في القول بتسمية غزة كصفقة عقارية وهو كذلك لرئيس لا يرى في كل هذا الدم المسال أبعد من مشروع عقاري سيضيف مزيداً من الأموال للولايات المتحدة وربما سيكون لشركاته النصيب الأكبر في إعادة الإعمار أو ما اطلق عليه مشروع ” ريفيرا غزة ” التي سيتكفل العرب بتمويلها وأوروبا أيضاً فهو يقول سنأخذ غزة من اسرائيل وتلك لغة لا يمكن تفسيرها في علم السياسة وفقاً لنظرياتها الكلاسيكية ولا حتى الحديثة التي جاءت مع عصر بوش لأنها لغة بلطجة سياسية تقفز عن المنظومة الدولية نحو سرقة في وضح النهار دون أن يكلف نفسه باي تبرير كما كان يفعل بوش وهو يحاول تزوير التقارير لكن ترامب أكثر وقاحة من الحاجة لهذا التزييف .
الفلسطينيون يعتبرون أن الأمر يعتبر عودة للوصاية الخارجية وهم المسكونون بهاجس الإستقلال الوطني والحكم الوطني الذي قاتلوا من أجله وقبلوا اتفاق بمستوى أوسلو ليتجلى حكم الفلسطيني لنفسه وللمفارقة تشكلت السلطة الوطنية في ذلك الإتفاق لتحكم قطاع غزة الذي سيكون قبل ثلث قرن نواة الحكم الفلسطيني قبل أن يدور التاريخ دورته الساخرة مستدعياً دونالد ترامب ليبحث للفلسطينيين في غزة عمن يحكمهم كأنهم في مزاد علني سياسي كذلك الذي يمارسه في عالم العقار فسكان قطاع غزة هم جزءء من الولاية القانونية للسلطة الوطنية الفلسطينية فهم ليسوا يتامى إلى هذا الحد بل جزء من شعب له مؤسساته الوطنية التمثيلية حتى وإن لم تكن تلك المؤسسات تحظى بالإجماع .
بالعودة لتوني بلير الذي سيدير وفقاً لمقترح ترامب هيئة تحمل اسم ” السلطة الإنتقالية الدولية لغزة ” GITA ” وستكون الهيئة مسؤولة عن إدارة القطاع إدارياً وسياسياً من ثلاث إلى خمس سنوات وستضم مجلساً اشرافياً وهيئة تنفيذية إلى جانب قوات حفظ سلام دولية وعناصر شرطة محلية مدربة كما جاء في الخطة ولم يكن اختيار توني بلير مصادفة فهو كان قد لعب دوراً في التوسط بين اسرائيل والفلسطينيين في فترة عمله كمبعوث للرباعية الدولية وتمكن من بناء علاقات وثيقة مع عواصم في المنطقة .
حينما غادر بلير 10 داوننغ ستريت المقر الرسمي لرئيس الوزراء البريطاني عام 2007 قام بتأسيس مؤسسة سياسية في لندن بإسم ” Tony Blair Institute Global Change (TBI) وأسس لها فروع في دول عديدة تركزت على تقديم الإستشارات للحكومات في مجالات اصلاح الإدارة الحكومية ومحاربة التطرف ودعم السياسات الإقتصادية والتنموية وبهذه المؤسسة تمكن من أن يشارك ويؤثر بصياغة تصورات استراتيجية اقتصادية وسياسية ويظهر دوماً في المنتديات العالمية الهامة إذ لم يفعل كباقي رؤساء الوزراء الذين يخلدون للراحة بعد رحلتهم السياسية الطويلة .
التاريخ الفلسطيني الطويل ولًد لديهم هاجس الوصاية ففلسطين عبر التاريخ لم تشهد حكم فلسطيني مستقل سوى مرتين مرة عابرة في زمن ظاهر العمر في اربعينات القرن الثامن عشر الذي تمكن من تشكيل نواة استقلال فلسطيني في منطقة عكا وطبريا والساحل مستقلاً عن الوصاية العثمانية كانت تلك فترة قصيرة وأما المرة الثانية في زمن ياسر عرفات العائد من المنفى قبل ثلث قرن ليلقي خطابه الأول في ساحة المجلس التشريعي الذي أقامته الحكومة المصرية في زمن الزعيم المصري التاريخي جمال عبد الناصر قبل أن يجروا أول عملية انتخابات في التاريخ الفلسطيني كخطوة أولى نحو الدولة والإستقلال الكامل لكن للتاريخ مزحات سمجة كما يقال من المكان الذي شهد بوادر الإستقلال الفلسطيني ورموزه هو المكان الذي يقرر الرئيس الأميركي أن يضعه تحت الوصاية كما كل تاريخه الطويل ما جعل حلم الإستقلال جزء من الهوية الوطنية التي تتسلمها الأجيال كهوية وطموح لكل فلسطيني يتوارثه الأحفاد عن الإجداد .
حسب الخطة الأميركية سيتولى توني بلير مجلس السلطة الإنتقالية لغزة إلى حين أن تجري السلطة الإصلاحات اللازمة التي تمكنها من حكم القطاع وهنا من سيقرر أن السلطةأصبحت مؤهلة وأنها أجرت الإصلاحات المطلوبة منها وما هي المعايير ؟ فالذي سيقرر هي الولايات المتحدة وبلير واسرائيل فهل لنا أن نتصور أن اسرائيل التي أشرفت على الإنقسام الفلسطيني ومولته لإستخدام الورقة الأقوى في إجهاض المفاوضات والدولة الفلسطينية ” أن السلطة لا تحكم قطاع غزة ولا تدير كل الفلسطينيين وبالتالي فهي ليست مؤهلة للتفاوض أو لتمثيلهم ” فهل يتوقع أحد أن تقول اسرائيل والتي تقف خلفها الولايات المتحدة وصديقها بلير أن السلطة باتت مؤهلة لحكم غزة ؟
من مفارقات القدر أن توني لير أثناء غزو العراق وإقرار الوصاية على هذا البلد العربي وتشكيل مجلس حكم يرأسه بريمر كان شريكا في تلك الوصاية وتشاء الظروف أن يكون شريكاً عن قرب هذه المرة ليرأس بنفسه هذا المجلس ومن المفارقات أيضاً أن توني بلير الذي شهدت المرحلة السابقة مطالبات بمحاكمته كمجرم حرب لدوره في قتل مئات اآلاف في العراق يتم استدعاؤه ليرأس مجلس للسلام ….!
لم يكن تعيين رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مجرد مصادفات جاءت بعد محاولات رئيس جمهوري لم يكمل عامه الأول في البيت الأبيض بل أن الأمر أبعد من ذلك ففي الأسابيع الأولى من بدء الحرب على قطاع غزة زار بلير المناطق الفلسطينية وبعد عودته كلف المؤسسة التي أنشاها ويرأسها بصياغة مقترح لإنشاء هيئة بإمكانها الحصول على تفويض من الأمم المتحدة لتغدو ممثلاً شرعياً وسياسياً عن القطاع وذلك تحت اسم “السلطة الإنتقالية الدولية لغزة ” يعني ذلك أنه ما أن بدأت الحرب حتى بدأ بلير تجهيز مشروعه مبكراً بفرض الوصاية على غزة وليس كما وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي وهو يعلن عن خطته في المؤتمر الصحفي حين قال : ” الرجل الطيب بلير ” بينما يمثل هذا القدر من الدهاء الظاهر الذي جعل القس ديزموند توتو أن يطالب بمحاكمة بلير في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لدوره في العراق .
لكن الإستعماريات الكبرى وثقافتها تختلف معياراياً عن القوانين والأخلاق والقيم بقدر ما يرتبط الأمر بمشاريع اقتصادية كبرى واستثمارات يمكن أن توسع حدود إمبراطورياتها وتكدس ما يفيض من المال ليس فقط من أجل رفاهية شعوبها لكن لتحقيق مزيد من السيطرة وعلى شعوب أخرى ومزيد من الهيمنة على مقدرات جديدة وفرض هيبة من نوع ما لإحتكار القرار العالمي وفي غزة لم يتواضع الرئيس الأميركي منذ اللحظة الأولى بالإعلان عن ان غزة مشروعاً عقارياً هذا بعد حوالي اسبوعين من تسلمه الحكم في السابع من شباط الماضي وهو يستقبل صديقه الحميم بنيامين نتنياهو معلناً ضرورة تهجير الفلسطينيين من القطاع وإقامة ما أسماه ” ريفييرا غزة ” .
لكن أخطر ما جاء في رؤية ترامب الإسرائيلية كعادة الأشياء كما صفقة القرن في ولايته الأولى عندما تم انتاجها في المعامل الإسرائيلية وتكفل البيت الأبيض بالإخراج كذلك الأمر في رؤيته الأخيرة والتي من الواضح أن بنيامين نتنياهو الذي كان يسافر إلى نيويورك لإستثمار انتصاراته سياسياً هو من وضعها وهو الرجل وريث كتلة المعارضة لإتفاق أوسلو الذي انتهى بإنتاج سلطة لغزة والضفة فهمها الفلسطينيون أنها سلطة مركزية للضفة وغزة والقدس تؤهل لدولة لكن اليمين الإسرائيلي اعتبرها كابوساً للمشروع الصهيوني ليتعهد هذا اليمين بإسقاط مخرجات أوسلو لحظة تسلمه الحكم .
كان اليمين يعيش نشوة صراع الفلسطينيين على الحكم الذي تجسد دامياً في غزة وتم حسمه لصالح حركة حماس التي طردت السلطة بالقوة من تلك المنطقة لتغذي اسرائيل هذا الإنقسام لسنوات طويلة بإعتباره الشكل الأمثل لمنع دولة فلسطينية وقد صرح نتنياهو بذلك عملياً وعمل في السنوات الخمسة عشر الأخيرة التي ترأس فيها رئاسة الحكومة على إزالة آثار أوسلو ومركزية العلاقة بين المؤسسة الفلسطينية لكن طوفان الأقصى قضى على رتابة المؤامرة ليضع اسرائيل أمام معضلة جديدة فالطوفان يتطلب اسقاط حكم حماس هذا كان أبرز هدف للحرب أعلنه بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت منذ اليوم الأول للحرب وفي نفس السياق لم يتوقف نتنياهو عن الإعلان عن أن السلطة لن تحكم قطاع غزة من خلال الجملة التي كان يرددها ” لا حماسستان ولا فتحستان ” .
وافقت حركة حماس على خطة الرئيس الاميركي لوقف الحرب والتي تشمل إنشاء مجلس السلام الذي يرأسه بلير أي أن موافقة الطرف الفلسطيني الفاعل في القطاع قد تمت تحت النار والإبتزاز والتخويف بتدمير المدينة التاريخية أما السلطة الفلسطينية صاحبة الولاية القانونية على غزة فهي خارج كل المعادلة بل تتعرض للتخويف بحلها وإنهاء وجودها ولم يشتشرها أحد وجاءت موافقتها على خطة ترامب كتحصيل حاصل في محاولة منها للقول بانها يمكن أن تعطي شرعيات وهي موجودة ولكن في خطورة الأمر ما يشي بإستكمال الموافقة الفلسطينية لشرعنة الإنتداب فقد كان ذات مرة بريطانياً عندما توزع المشرق بين الإمبراطورينين الفرنسية والبريطانية بعد الحرب العالمية الأولى يعود بشخصية بريطانية بعد اكثر من مئة عام …ةتلك من مزحات التاريخ السمجة ….!
