لا يخفى ما للثورة التكنولوجية من تأثير عميق في حياتنا، إذ غيّرت مفاهيم كثيرة وأعطت الأشياء معان جديدة. لسنا أمام مجالٍ للمقارنة بين الماضي والحاضر بقدر ما نحن أمام مراقبةٍ لحركة التطور؛ فهذه الثورة التي تصنف في خانة “ثقافة السرعة”، باتت تسير في خط تصاعدي نحو مستقبل يتخذ فيه الإبداع منحًى جديدًا يتماشى مع تطور حياة الإنسان وتبدل أنماط عيشه مع الزمن وتفاعله مع محيطه.
في الماضي كان الوقت يُختزل في جلسات مطوّلة تُطرح فيها قضايا تخص الإنسان والمجتمع، وكان النقاش يتوالد من نقاش آخر. أمّا اليوم، فقد صرنا أمام نقاشات مفتوحة تبدأ من ثقافة المرئي ومشاهدته. فمن ساعات طويلة لمتابعة فيلم أو مسلسل، بات المغزى يصل عبر مقاطع سريعة أو “ريلز” تتقلب بسرعة حركة رمش العين.
هذا التحول جعل الإنسان أمام خيارين: إمّا العودة إلى ذاته للبحث عن المعنى والتأمل فيما يشاهده، وإمّا الانفتاح على مجتمعات جديدة من خلال هذه المشاهدات القصيرة. فالبعض يصنف “الريلز” بوصفه ثقافة جديدة تتناسب مع سرعة الزمن وضيق الوقت، بل ومع المزاج الإنساني الذي لم يعد يحتمل الانتظار. وهو قد يكون مفيدًا في التعرف إلى ثقافات مختلفة ولتعزيز الانفتاح على عوالم جديدة خارج حدود المجتمع الضيق، إذ تصنع هذه الفيديوهات السريعة لكل فرد فضاءات أخرى تحاكي ذوقه واهتماماته.
لكن هذا المشهد اختلف وأثار سؤالًا أساسيًا: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الثقافة المتطورة في الطاقة الإبداعية؟ وهل تغيّر مواقف الإنسان مع تغيّر مزاجه؟
يرى بعض الباحثين أن هذه الثقافة الحديثة عززت العزلة الاجتماعية وأضعفت التواصل الحسي الفيزيائي. فهي تتبدل بحسب اختيارات المتلقين، محققةً إشباعاتهم وضروراتهم اليومية، وباتت متفاوتةً باختلاف المجتمعات وظروف الأفراد وميولهم. من هنا، فإن الاستخدام الفردي يأخذ معنى اجتماعيًا بالنسبة إلى البعض، خصوصًا مع صعود الإعلام الجديد ومؤثّريه ووسائطه التي أتاحتها الثورة التكنولوجية الرابعة.
الجديد في هذا المشهد هو تنوع المحتوى وتعدد مضامينه بما يتوافق مع الذوق الجماهيري، ما وسّع الاتجاهات والاختيارات وفتح المجال أمام الابتكار والتبادل المباشر والنشر الذاتي. لكن في المقابل، يُطرح السؤال: إلى أي مدى يمكن الحديث اليوم عن ثقافة السرعة والابتكار وإلى أي حد تستطيع الفيديوهات القصيرة إعادة تشكيل علاقتنا بالعالم؟
في زمن لا يتجاوز العشرين ثانية، يجد المشاهد نفسه أمام مروحة واسعة من المعارف التي قد تغيّر طريقة تفكيره وتؤثر في انطباعاته. قد تختزل هذه الثواني قصة حزينة أو سعيدة، أو تقدم نصائح تحاول احتضان النفس البشرية وبث مشاعر جديدة من التعاطف أو الرفض. بهذه الطريقة يمكننا أن نتحدث عن حركة إصبع أو عن لمسة واحدة تأمر الدماغ لتشتغل الحواس الخمس.
هكذا، تعيد الفيديوهات القصيرة تشكيل وعينا بالواقع الجديد، ناشرةً المعرفة السريعة والثقافة الانتقائية التي تجذب الذهن لكنها قد تتبخر كما أتت إن لم تلبِّ حاجة المتلقي. ويرى المحللون أن هذه البرامج تغيب عنها التحليلات المعمقة، لتقدم قصصًا تختصر ذاكرة بأكملها أو تبدأ بولادة سريعة وتنتهي بموت مماثل من دون تعليق. وهذا ما يضع الإحساس في حالة من الجمود تجاه حكايات متشابهة تفتقر إلى العمق.
لقد أصبحت الفيديوهات القصيرة تجربة ملائمة للجيل الجديد الذي فقد صبره وسط إيقاع حياة سريعة حيث كل شيء صار متاحًا بالنسبة إليه. غير أنّ الحديث عن سلبيات الثورة الرقمية البصرية ككل، لا يكتمل من دون النظر إلى حسناتها: إنها تؤثر في العلاقات الاجتماعية وتعيد تشكيل نظرتنا إلى الحياة، لكنها في الوقت نفسه قد تجرنا إلى متعة مؤقتة أو إدمان مَرَضي يترك أثرًا نفسيًا. إنها تجذب الانتباه وتحوّل علاقتنا من تواصل مع الإنسان إلى تواصل مع الخوارزميات. ويرى بعض الباحثين أنه يمكن للفن والأدب أن يشكّلا مساحة خلاص وعودة إلى العلاقات الاجتماعية والتأمل، بما يسمح للإنسان استعادة ذاته والتعرف إليها من جديد. بذلك يبقى الفن مخرجًا حقيقيًّا وملاذًا آمنًا للإنسان الباحث عن المختلف في زمن التشيؤ، إذ يختزل جوهره ويقوده نحو الاتصال بعمق الوجود، كما يرى الفيلسوف الألماني هايدغر، ما يجعل الفرد يتفكر في إنسانيته. هذا الفن الذي سيعيد الإنسان إلى جوهر الوجود حيث تتكشف الحقيقة له، وبذلك يظل حاضرًا في المستقبل، لأنه حتى مع تحوّل الفنون ودخولها العالم الرقمي، ستظل حاملة الحقيقة الكامنة وراء أي عمل فني.
في نهاية الأمر، نحن في عصر تغيّر فيه نمط الحياة وأعيد النظر في علاقتنا بالزمن والمعرفة بفعل هذه الثورة الرقمية، فلا يمكننا أن ننكر أنّنا أمام صورة لواقع نعيشه اليوم وقد اتخذت الأشياء فيه معنى آخر، خصوصًا في ما يختص “بالريلز” على تطبيق “إنستاغرام” أو “شورتس” على اليوتيوب أو فيديوهات أخرى سريعة وقصيرة تحمل في معظمها قوة تأثير كبيرة في حياتنا العامة والخاصة، كما أنه لا يخفى ما أنتج هذا التجديد من ثقافات تغيّرت معها صورة المجتمع وأساليب التفكير، وتسارعت معها وتيرة الحياة. ولكن بالرغم من السرعة التي نتعرض لها يوميًّا بفعل ما تطرحه الثقافة الرقمية أمامنا، تظل حرية التعبير وإتاحة المعرفة والفن للجميع إحدى مزايا هذا التحول. تبقى الإشكالية الأساسية كامنة خلف سؤال الإبداع الإنساني وقدرته على صياغة علاقتنا الحقيقية بالعالم.