حسين كنعان “في ذاكرة السؤال والجواب”
في التصدير لكتابه الجديد ” في ذاكرة السؤال والجواب- حوارات في مجالات السياسة والإصلاح الاقتصادي والمالي”، يقول الدكتور حسين كنعان: “إننا نبكي من الذكريات وعليها، ولا ندرك أن الأقصى والأخطر من كل ذلك هو بكاء الوطن. الوطن يبكي بصمت ومن دون أن يذرف الدموع، وهذه إن ظهرت لا تفرّق بين لبناني وآخر. الوطن هو الأمة والمصير، يحزن حين يرى أبناءه يتناحرون ويتقاسمون ويُقتلون باسم المحاصصة المذهبية والزعامات الرعناء الفارغة من أي مضمون”.
كتاب كنعان “منشورات دارنلسن” أشبه بسيرة ذاتية، صفحات من عمره وعمر لبنان، أحاديث وحوارات مع الصحافة جمعها المؤلف لتكون فصلًا تاريخياً في السياسة والاقتصاد، وهما في نظره وحدة من جزأين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، خصوصاً في بلد مثل لبنان، يتوقف نموه ويتراجع اقتصاده نتيجة مواقف لا يأخذ أصحابها في الاعتبار حجم ذيولها على حياة البلد ومستقبل بنيه. ما يميّز الكتاب عن غيره من كتب الحوارات الصحافية هو المؤلف نفسه، فهو صاحب باع في السياسة والاقتصاد معاً، درسهما دراسة أكاديمية في الولايات المتحدة، ودرّسهما مادةً في الجامعة الأميركية في بيروت، ومارسهما عملاً حين شغل منصب رئيس مجلس الجنوب لخمس سنوات، لينتقل بعدها إلى منصب النائب الأول لحاكم مصرف لبنان في زمن الحاكم القدير للمصرف، الدكتور إدمون نعيم.
يتحسّر المواطن اللبناني حين يقرأ هذا الكتاب ويرى الأثر الذي أحدثته خلافات السياسيين. ففي حوار مع جورج صليبا وجنان خراط يقول كنعان عن «اتفاق الطائف» إن هذا الاتفاق «جعل من اللبنانيين قبائل، كل قبيلة لها منطقتها ومعتقداتها الدينية، على حساب النخبة من المعتدلين اللبنانيين، لأن المعتدل والنخبوي يرفضان التقوقع المذهبي والطائفي”. وفي حوار آخر مع جورج فرح وحنان اللقيس عام 1993 يرفض الدكتور مبدأ الاستدانة بأي ثمن قبل إيجاد الحلول السياسية، وعن ذلك يقول:” القروض المدروسة ليست أمراً سيئاً، شرط أن تُوظَّف بطريقة مثمرة وجدية وفي مشاريع ذات مردود لنتمكن من تسديدها”. ويضيف: “تلجأ الدول إلى الاقتراض عندما يكون النظام السياسي متكاملاً بالبنى التحتية والفوقية، في عملية انصهار ووعي متكامل عند المواطنين والمسؤولين حول توظيف القروض”.
يقدّم الكتاب رؤية فكرية لتجارب سياسية واقتصادية ومالية عرفها لبنان خلال العقود الأخيرة، من خلال منهج يعتمد الحوار أداة للفهم والتحليل. ولا يأتي السؤال في الكتاب بوصفه مجرد استفسار، بل كأداة لكشف البُنى العميقة للأزمات، فيما يغدو الجواب محاولة لتقريب الحقيقة وتبسيط التعقيدات التي تحيط بملفات الحكم والإدارة والتنمية. يعتمد المؤلف على خبرته الأكاديمية ومتابعته للسياسات العامة، وينطلق من فكرة أساسية مفادها أن أزمات السياسة والاقتصاد ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكم لتاريخ طويل من الخيارات غير المتوازنة، وضعف المؤسسات، وتداخل المصالح، وتأخر الإصلاحات البنيوية. وبالنظر إلى التجربة اللبنانية يربط المؤلف بين الفساد البنيوي، وضعف الرقابة، وغياب الشفافية من جهة، وبين الانهيارات الاقتصادية من جهة أخرى. ويشدد في حواراته على أن الإصلاح المالي لا يمكن أن يكتمل ما لم يُرافق بإصلاح سياسي يعيد هيكلة السلطة وآليات اتخاذ القرار.
وتحتل قضايا الإصلاح الاقتصادي حيزاً واسعاً من الكتاب؛ إذ يناقش المؤلف أدوار الدولة والقطاع الخاص، وضرورة الانتقال إلى اقتصاد الإنتاج بدل اقتصاد الريع. ويرى أن السياسات المالية غالباً ما تستجيب للأزمات عبر حلول ظرفية قصيرة الأمد، فيما يتطلّب الواقع خططًا استراتيجية تعالج جذور المشكلة في الدين العام، وهيكلة المصارف، والاستثمار في القطاعات المنتجة، ودعم المعرفة، كما يبرز دور الحكم الرشيد في الحد من الهدر وضبط الإنفاق وإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
وفي الجانب السياسي، يستعرض الكتاب تحديات بناء الدولة الحديثة في بيئة مثقلة بالصراعات وتعدّد مراكز النفوذ وتراجع الهوية الوطنية لصالح الولاءات الضيقة، ويؤكد أن الإصلاح السياسي ليس مجرد تعديلات دستورية أو قانونية، بل هو إعادة صياغة للعقد الاجتماعي نفسه، بحيث تصبح المشاركة والمساءلة وسيادة القانون أسساً لا يمكن تجاوزها. ويتناول نماذج من تجارب دولية نجحت في التحول السياسي، داعيًا إلى الاستفادة منها دون استنساخها.
أما على مستوى الإصلاح المالي، فيطرح الكتاب سلسلة من الأسئلة حول إدارة المال العام، وطرق إعداد الموازنات، وعلاقة المصارف بالاقتصاد الحقيقي. ويحذر من السياسات التي قد تجعل من الدين العام مصدراً للربح السهل بدل أن يكون أداة تنموية. كما يوضح أهمية استقلالية المؤسسات الرقابية ودور القضاء في مواجهة الفساد المالي، ويشير إلى أن أي نهضة اقتصادية لا يمكن أن تتم من دون نظام مالي شفاف يضمن عدالة الضرائب وفعالية الإنفاق.
يُختتم الكتاب برؤية مستقبلية تربط بين المعرفة والحوكمة والتنمية، وتعتبر أن بناء الإنسان ومؤسسات الدولة هو الطريق الوحيد للخروج من الحلقة المفرغة للأزمات. ويؤكد المؤلف أن السؤال يظل مفتاح الإصلاح، وأن الجواب الحقيقي يبدأ حين تتوافر الإرادة السياسية والمجتمعية للانتقال من التشخيص إلى الفعل.
وعلى الرغم مما في الكتاب من رؤى صائبة في كثير من المسائل الاقتصادية، يبقى أن سؤالاً قد يتبادر إلى ذهن من ينظر في محتوى الكتاب: هل يصلح هذا “المحتوى” لكل زمان، أم أن “منطقه” أو ما جاء فيه ظرفي مرتبط بالمرحلة التي دارت فيها أحاديث المؤلف مع الصحافة؟ من ذلك مثلًا ما يتصل بالسرية المصرفية التي كانت وما زالت غطاء لعمليات مشبوهة تستدعي إلغاءها. وعن ذلك يقول المؤلف في حوار له مع حسن مقلد وعدنان حمدان عام 1989: “أنا من المدافعين بالمطلق عن السرية المصرفية لأنها من حيث الناحية العملية، مصدر ثروة للمجتمع اللبناني، شرط ألا تكون مغلقة في وجه السلطات القضائية والسلطة النقدية في مصرف لبنان”.
نعتقد أن التحولات التي حدثت في لبنان لجهة السرقات، وحجم الهدر، والفساد الذي استشرى إلى حد لم يعد يُطاق، والسمعة السيئة التي طاولت لبنان في نظامه السياسي والاقتصادي على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، تتطلّب، بل تفرض رؤى مختلفة وحلولًا مختلفة. وفي اعتقادنا أن المؤلف لا بد أن يرى الآن، في هذه المسألة وغيرها من المسائل، غير ما كان يراه بالأمس!
