د.نادر سراج في “العربية المحكية في لبنان” : اللغة كِحلُ الأيام .

لا يكتفي نادر سراج بكتابة معجم ( ليزيل العجمة . والقاموس غير المعجم . ولو أن الدكتور نادر سراج يستعمل المصطلحين في آن) ، معجم “تأثيلي”(اشتقاقي)، يقومس مصطلحات منتقاة ( يستعملها الناشر على الغلاف الأخير ) وتعبيرات يصلبها على غوايات الأبحاث. إذ أنه حين وجد أن موجة الموت حلجت أصوات القيامة ، لقوافل من التعابير المختبئة بأفواه الصدف والتأجيل ، راح يطور مشروعه ليلقي على ما وقع في الموت أو التسكع عند جنبات الحياة ليرد له الحياة ، بالطريق إلى كتابة معجمه . لا كتابة المعجم وحده. مده بالسلالات من أجل حمايته من الإحتضار على مدى الأوقات القريبة . الألواح كثيرة في الكتاب ، غير أن المعاينات الأكثر لم تقده إلا إلى نشر البحر على الالواح والسباحة في البحر هذا ، وهو يقف أمام طواحين الكلام وطواحينه، ما جعلها تمارس شماً ندياً لكل أنواع الكلمات والمفردات والتعبيرات .

هذا برزخ الدكتور نادر سراج الحي،أمام موت الحياة في الكسل ، أمام موت الحياة في الغفلات . موت الحياة موت اللغة. وإذ لم يمتلك الرجل النحيل كرباج البحاثة ولا حقائبهم ولا ثيابهم الكاكية، كما في الأفلام الأميركية ، إلا أن الرجل يكرم اللغة بوجوهها الطللية، كما يكرم عالم الآثار الآثار في أفلام سبيلبرغ المتسلسلة : إنديانا جونز . البحث عنها ووضعها في مواضعها . يجعل الأمور ممكنة بضوابط وبعيداً من الضوابط . كأن يمر على مفردة، مصطلح ، إستعمال ، بالتوقف السريع أو بالإضاءة الخاطفة أو بإجراء مقارنة تناصية، كما حدث حين راح يقارن بين ” تضاريس” في كتابه وفي القاموس المنجد ، حيث وجد أن القاموس لم يتطرق إلى الإستخدام المجاري الشائع اليوم للفظة بصيغة الجمع ( ص ١٦٢/١٦٣). أو حين قام بالأمر نفسه بلحظ ما حدث بين الرئيس الحريري والنائب جميل السيد على استخدام تغريدة . ومواعدة ألفاظ أخرى على ذات النسق .

يرصد بقواه اللامتجعدة أسماء وتعبيرات حسناه على الإتفاق والخلاف خلال سيره اللغوي ، حتى راح القراء والآخرون من غير القراء العاديين ، يرونه لا يتلوى أمام أفعاله ، وهم يسألون : ما باله يتلوى وهو لا يتلوى . لان الأشغال على المعاجم اللغوية لا تقوم إلا على التلوي . سراج لا يتلوى إلا لمن يمتلك البصر لا البصيرة . ذلك أنه في طوافه على الاعتاب والمنصات المنسية ، لا يجعل أشجار اللغة إلا أشجار حمأة. أشجار تحمأ لمواعيد زوارها المرتقبين من كل فج عميق . يناول المصطلحات قهوة الدرب ،ثم يأمرها بالمرور إلى نزله بترتيب ألفابائي يخمر التصنيف من خلاله بنظام يسمح بمطالعة الوجه للوجه . من الألف حتى الياء . ثم أن سلوك الباحث سلوكه العلمي الوامض ، لا يغرق الكتابة بالتهافت اللغوي، ولو أنه يشدها في نحافتها أو في إمتلائها في استدارات سريعة وبطيئة ، موسعة أم مختصرة ، بدون تفسير طرق القيادة على الطريق الواحد بالعديد من السرعات . تسريع وتبطيء ، رياض الرجل ودرجته . ثم ، أن دكتور سراج يؤنس الكتابة بحاسة الجمال . حاسة فوق الحواس الخمس، وهي تنضرس بها .اللغة شرفة من شرفات البحث.لغة جميلة ، تستدعي المصطلحات في “العربية المحكية في لبنان “، لترفعها لا لتخفضها. لغة على سدة الصدى وعلى سدة الغيم وفي مسيرات العلم ( التاتواج ، تقنية تجميلية …وسيلة جمال ولغة تمرد -ص١٤٥/ونريد بذلك نمطاً آخر من التوصيفات ذات الطبيعة الإستعارية،التي تسبغ على الإناث عموماً، مجازاً مستمداً من عالم الجماد -مضرسات -ص١٦٣).هكذا ، تقف اللغة على عرشها كما يقف البحث على أطيان المكتشفات الطالعة من الفجأات الكبرى من خلال تبادل النظرات بين المُكتِشف والمُكتَشف .

يكشح دكتور سراج الأدخنة عن اللغة بارتجافاته الخاصة .اللغة رمضاء العصر وجهاز التنفس وتلبس الإيقاع بالإيقاع .لا رغبة لدى هذا البحث ، من إختار المعنى على اللامعنى ، سوى أن يدفع اللغة إلى أن تتنفس دماءها الساخنة ، في نقاشات مسطرة على صفحات الكتب و في دفعها من صدئها الأول إلى لمعان بلا دخان ، في مجموعة من المؤتمرات المصغرة ، يوظفها على أسرار الملائكة والشياطين . كما فعل في مؤتمر نظمه في فندق البريستول منذ سنوات ، أراد من خلاله

د.نادر سراج : لسانيات بيروت

أن يرفع “اللغة “على أجراس عودتها ، برفع المصطلح البيروتي عن أوراقه الحجرية إلى مرتبة غزلان الأرض الطائرة فوق الأرض بلا مواعيد . أشغال موصوفة قدمها الباحثون ، كما يقدم سراج اليوم حجه الجديد (العربية المحكية في لبنان)بعيداً من الرتق وبقلب مفاهيم التوظيف الجديدة ،حين حوَّل الغنائم إلى أصوات حية . إخراجها من فمها العاقر ومن عتماتها ، بأنامل حين تكدح بالبحث فإنها تنجرف إلى الزغردة ، وكأن الكدح عرس لا شغل في وادي جنازات اللغة، من من تركوا اللغة عمياء على قارعة الطريق .

ينغمس دكتور نادر سراج في وليمة لا تغري إلا بالترحم على اللغة ( نسق من الإشارات والرموز . آداة تفاهم وتبادل على الإحتكاك ). بيد أن اللغة إذ تمطر بين يديه ، لا يلبث أن يهيأ لها ناقاتهاللرحيل من مضارب خلاء اللغة القديمة إلى جنسهاوجناسها ، لتصطلح مع بشر الألفية الجديدة( مئات المصطلحات المدفونة بالغيب والتغييب : تفشيخ، بتنج، ترَّم ،تزبيطة ، سرسري ، حبحب، حرمة، حرماية، خام ، خرط الموتور ، خورفته ، ركلج، رنتج…). لا تتدلى المصطلحات في هواء دكتور سراج ، كمصطلحات أطلعها من قبورها . ولا لجذب الأنظار . لكي لا تبقى تواجه محن المصطلحات التائهة . هذا قاموس لا يجرم ولا يحرم ولا يترك نتاجه للسمعية من الجن وحدهم ، للقراء من الجن وحدهم . هذا قاموس في سمفونية دائمة في الشرح والتشريح والحفر والنفر ، بعيداً من الغصات الدموية .

يتوج سراج ألق المصطلح بالتاريخ والجغرافيا وعلم الإجتماع والثقافة، يستميله بالإبراز المعرفي .لن يقتطع أحد متن الشغف من من نذر نفسه وحياته ليدخن غليونه على قبور اللغة، أمام شواهدها ، ليحول اللغة بمفرداتها وغرائز المفردات هذه ، إلى شجرة في دخان الغليون .هذا باب تنتاب الرعشات القارئ فيه. هذا باب كؤوس موزونة ، لم يعد أحد يملك الزمن لكي يراه كما يراه الباحث يخطو خطوه، إلى مائه الطافحة بالنسيان . هذه حفرياته ، على وعوده الأقرب إلى النمل وهو يلامس خدود الحفريات ، لا بالخواطر .بالابحاث من أجل العودة إلى المصادر لا الوصول إلى المصادر . المصادر كصباح جاء، ثم أنقضى . ولأن الرجل هو الأدرى بأن الكلام على سيرة الغائب كلام على لقاء الحي بالميت وجهاً لوجه ، وهذا جليل لا يقع إلا في سماء البداوة على ما قد يقول المحدثون. سوف يذكر بأن الصفح ضرورة حين العودة إلى المبثوث القديم في الكلمات القديمة ، في تقديم من ساري حنفي ومقدمة واستهلال . ثلاثية حماية القراء من ولولة التفاصيل الثرية في أواخر الصمت وبقاياه مع من لم ينسه الوله ، أن الكلام بالكلام كالعين بالعين والسن بالسن ، بدون إنتقام . ثمة بعض التحفظات على تقديم ساري.إذ على من يتكلم على بحرالمفردات والتعابير الإصطلاحية في ” واقع معولم “( ص١٢)أن لا يرتج تقديمه ببعض ما يقتل الغاية من كتابة تقديم لكتاب دسم يدور على الدال والمدلول . كأن يفسر مصطلح ” أبو قرون ” بالشخص النذل، حين أنه من تخنه زوجته مع أكثر من رجل . وأن يرى في عبارة ” أخت الرجال ” إشارة إلى المرأة العاقلة ” المرأة ذات العقل الراجح “( ص١٣)، حين أنها إمرأة تحفر بالحياة وتقتل وتحتد ولا تلوم أو تندم .أو أن يترجم “تلت”بتعطل ، حين أن ترجمتها إنشل. وهي درجت كثيراً أيام دروج طاولات الفليبر . ثلاثة مداخل ، شرفات لا تشحذ فكرة الدخول إلى النصوص ، منابتها ، شتاتها ، لملمة الشتات ، ثم إخراجها من الصمت إلى الصخب . ثلاثة مداخل إحتفائية ، غير أنها تتألف من ما لا يتألف الإحتفال منه. لا صلة بكيمياء النصوص الكريمة ، إلا بعدم التخيير . لأنها نصوص تترك المجالات مفتوحة ، مشرعة على نوع من الغموض ، كما لو أنها مشاعر وأحاسيس ، لا نصوص علمية .

الكلام في المساحات الأخرى ، مساحة دكتور سراج العريضة . مساحة ، لا تلتقط هواجسه فقط، قدر ما تعيد تذخير الغائب بقوى الحياة ، بحيث يضعها في شرطها الموضوعي وفي ظرفها التاريخي . ثمة نجاعة ، ثمة بلوغ في تفعيل العنصر الأبجدي هذا. عناصر تدخل في عمق العالم اللاواعي هذا ، بحيث يفككه في صور لا علاقة لها بغرابة صور المصطلح المحوط برموز نادر سراج اللارقمية . ما يفعله ، الباحث في كل مقام من المقامات على طاولات التشريح والبحث ، أنه لا يحصن العلم وحده ، حين يحفز المصطلحات على الحياة بوضعها على فراشها باستنفارها بداية من نقطة وقوفها الأصلي على معطياتها الرمزية / التعبيرية وتشريعها في كتاب المدينة من جديد . إنه يحصن ما يشتغل عليه ، بوضع أجنحة جديدة عليه، حتى تتفعل العناصر الداخلية فيه مع هواء البشر .

رفعُ المصطلح من الحضيض إلى الإرتقاء وسط اللحظة التاريخية الراهنة ، على حوافي وضفاف الخاصيات العلمية وقلبها ، في عملية إستقطار ألزمت الباحث بالكثير من الدأب والجهد بالعمل على الطبقات لا النيات ، على التطواف بالنوايا وشجر الكلام الأخضر في طرقات اللغة المقفرة . ثمة ما هو مدفون بأعماق الشعور ، بعد أن فقد كيمياء السعادة . كيمياء العلاقة بالبشر .لافحولة في كتابة المصطلح، بإيراد ذكره . لا فحولة ، تفتيح هسيس الكلام على الكلام ، لكي يعود الكلام كلاماً، لا يسري في الوعود وحدها ، إذ يتمتع بالمعايير . لا تزييف ولا إفساد ، ثورة بلا ثورة ، تعيد ماغاب إلى الحياة ، بالأصول / الأصول والإفتراعات . ثورة للحفظ ، لا للإطاحة . يدمغ دكتور سراج الوعي بالمنطق والتخطيط بالتنسيق والتفصيل . فهم القائم ، فهم ما قام ، على مستويي المبنى والمعنى ، يذكر بأنواع من البكوريات الضائعة. كأن سراج يهزهز شجر الكلام ، ليؤكد أن اللغة ليست اللغة وحدها . لأن الرقص والنحت والغناء والتشكيل والمسرحة والصرعات في اللغة ، حين تعطلها وحين لا تعطلها النظريات وغياب النمو والظروف وموض التحرر من القدم .

يدين الدكتور نادر سراج ، بعيداً من المباشرة ، خطابات التصعيد ، من تحصر الفئات باللهجات مؤكداً أن اللهجة قفلة من قفلات اللغة لا اللغة ذاتها . اللهجة ، ملحق إبداع منفعل . دراسة طويلة ، لا تكرر ولا تقبل التكرار ولا تقبل أن تحبس اللغة بالتحديدات المرتجلة أو المتعجلة . صحيح أن الفقرات لا تنشق عن الفقرات ، إذ تعمتد ميلوديات اللغة ، إلا أنه بقدرته وحرفته في قراءة قوانين اللغة وشرائعها ، يقدم “طوفان” يستقر في مخادع اللغة بلا مجاملات . ترابط الموضوعات لا يؤدي إلى الوقوع في الشكلية . هذا حاسم ، عند هذا الرجل ، من إمتلك رهافة يبسطها على الآليات المخترعة لديه ، لكي يؤكد أن العرق ، أن العرقيات لا تزرب لا في دفاتر ولا في مذكرات ولا في حتميات باهتة . العلامات تحرر اللغة ، تحرر المصطلحات من ثوابتها، بحيث تنخرط في المعيش لا في خدع المعيش. هذه إضاءة على عالم أكبر من عالم ، تتخطى كتابة القواميس الأصيلة إلى ما يكيف الكتابة هذه مع الوسائل والأبحاث في سياق ، يحول اللغة ( مصطلحات وأشكال علاقات ) إلى مدينة هائلة . من أنى أُخذ ” العربية المحكية في لبنان ” ، لن يدل فقط على الفضاءات الفزيائية للعربية المحكية ولا بوصفها ظاهرة . لأن سراج يعيدها إلى الحصريات ، إلى التعريف الحصري في المجال اللاحصري ، بعيداً من الخضوع للتعريفات غير النابعة من القوة الدلالية للغة والمصطلح اللغوي وتعريفاته. لا إستعراض ولا نصر استعراضي . حفر وبحث، حفر في البحث وبحث في الحفر . كأنها حفريات الدكتور سراج الخاصة في مدينته / مدنه الخاصة ، في منأى عن مدارات التيه . المصطلح جسد ، روح ،موعد حر مع الحياة ، كِحلُ الأيام . ما يحدث ، أن الدكتور سراج يسأل ويسائل ويسري ، بعلاقة منبتية أقرب إلى السطح الصوفي ، حيث ينبع الحلم ويتخصب في مروره بين العوالم ، بين الحياة والحياة الأخرى. للغة حياة أخرى ، لا يهمهاأن تلفت الإنتباه، قدر ما يهمهاالمحافظة على مداها الإنساني ، حيث تكمن المهارات . هذه ولادة جديدة ، حيث يلعب الباحث على الوقف لا القطع، على سند المنحى ، على النحو ، على التنزيه بتدقيق البصر لا النظر في تنزيل المصطلح لمرة أخرى في طقس يعيد تزويج الحلم بالواقع والواقع بالحلم ، بالعودة إلى المراجع الطبيعية والميثية والدينية ، حيث التلازم الشرطي يبتعد على الدوام من التجريد صوب التجسيد والكتابة .

هذا كتاب تجسيد منفتح ، يملأ البياضات والفراغات الدلالية بكل رفض للتبشير ، على قواعد الحق والحرية . تحول من الإنفعال إلى الفعل . الجسد اللين ، جسد صلب من جديد .