رجاء بن عمار: النباشة بالمسرح الزياح

إلى داريو وفرانكا وفاڤاالفاتنين بالحياة والذكرى

ناظرت رجاء بن عمَّار الموت دون خوف. لم تتعامل مع الموت كصفية من أصفياء الله. ولا كولي من أوليائه. لم تنذر نذور النجاة . لم تفتح القواميس لكي تشخص اسماء الموت الأخرى . إنه الموت ، تلك الدائرة . ما أن تنتهي حتى تبدأ من النهاية من جديد . حين أراد أحد رجال الدين أن يضع الشرطة النهائية ، أي العلامة النهائية على صعيد علاقة الإنسان بالله، لم تفعل سوى أن أشاعت نفسها. أشاعت نفسها أمام الجماعة على القناة التلفزيونية التونسية. أشاعت نفسها لله

رجاء بن عمار : المسرح الزياح

كامراءة، لا ضحية. تقدم النفس هدية لله. إلا أنها تقدمها ، بعيدة من مآسي التقديم بمحمولاته الدينية. النبع هو الله. لم تتشتت أمام النبع. إلا أنها وجدت باحات الحلم بالله. لم تعتمد الصياغات اللغوية المخففة، إذ قالت أن الله منظارها . تحبه وتحبه أكثر لأنه خلق الناس في هيئاتهم وأعمالهم ، بحيث خلق من اخترع اللهو والكحول وخلق من نذر نفسه للعلم والعلوم والثقافة وشؤون الحياة بجلها . كل يتمم كلاً . كلام كفيل بإصابة رجل الدين بالإحباط . لأنه كلام واقعي . كلام من الواقع . لا كلام خفيف حين يطير ، ينتهي في هواء من صقيع. وقع جدا الإثنين على هواء القناة . كلام مباشر يواجه كلاماً مباشراً. رجاء بن عمَّار امرأة ذئب ، قيض لها أن ترضع غابات المسرح بالبحوث والأناقة . إمرأة غجرية. تدل باللغة على الفضاءات. فضاءات القمع وفضاءات الحرية. لا توجس عندها من اللاجدوى . لكل شيء جدواه . لثورة الفرد جدواها . هكذا هي في الحياة وعلى منصات المسرح ا، بجناحين وقدمين وفؤاد لا يقوم على خداع . وجود مفصح . وجودها مفصح. ولكنها لا تفاصح. وجود بلا فصاحة . الفصاحة ضد الجسد ، كلام المسرح ، الكلام على المسرح . وجود بلا خفة. خفة كائن لا تحتمل ، من كوندير. بن عمار مكاشفة ، تكاشف ، كما لو أنها طيف . هذه الطيفية ، بوجود لا يضاهى بدورانها ، دوران صوفي في مدن الله . دوران يسائل . دوران بلا نظير . لأن بن عمار مولودة الخشبة ، لو تموت على الخشبة ، ماتت تحت المباضع وهي تحلم بالعودة إلى دورانها على الألف والجيم واللام ألف . ذلك أن دورانها حروفي ، على الحروف . جسد يضحي أبجدية . أبجدية تؤلف ما لا يؤلف إلا بجسدها . جسد كالعجين ، لا كالشمع . تشفر بالجسد . لكنها لا تشفر بالكلام . وضوح المطر على الرمل . وضوح الشتوة الأولى . لا صمم ولا عمى ، حتى صمم وعمى باييخو . صمم وعمى يحميان من قسوة العالم ، كماخته.

لا أزال اركز على مشهد السجال بين بن عمار ورجل الدين . لأنه مشهد يختصر الواقع المأزوم بين حق بالحياة ولا حق رجل الدين بمصادرتها . استفز الكلام المتواتر رجل الدين. أضحى متوتراً كماء مسفوح . هدؤها هدوء دخان سيجارة . لا أزال اذكر ، لأن بن عمار لم تتقصد ، استفزاز الشيخ . لم ترغب بدفعه من متن كلامها إلى هاويتها . ولكنها لا تأنس لكل أنواع المصادرة . لا بالإرشاد ولا بالدفع ولا بالمحاصرة . هذه سيدة لا تحاصر . لم تخشه كما لم تخشى رجلاً بعينيها الصقريتبن . لن تغيب في كلام رجل . غير أنها لم ترغب بأن يرشدها ، كما يرشد رجلاً إمرأة . ترفض لا من أجل الرفض . رفض للرفض ، فعل طفولي .رفض ممسوك بالحجج ، يؤمن الكلام من مطباته. حين تمضي يسمع صوت خلخلٍ جني. خلخال مشغول

طابع بريدي يكرم إنجازات المسرحية النباشة

بهواء السحر . خلخال في قدم المخلخلة . مخلخلة ما لا يخلخل. الطاعن في المسرح ، المذعن في الحياة . خلخلة ، تقويض . لا استبدال . ولكنها الحياة ، مفاجآت الحياة. شهوة الأمراض للأجساد البديعة . دخول في الجسد ، بعد إمعان . لا شيء يذكر ، سوى أن فؤادها فداها على أعوام ، حتى سقط الفؤاد في يا فؤادي . عصف في عصف . هكذا هو المرض في جسد مدعوك بحياة تناظر الحياة . حلول . حل بها حلول الأحفاد في الجدود والجدات . نصب في نصب . مشهد عجيب عجائب مشاهدها . نصب صامت . ارتخى فيها . ثم ، عصف . لم يطحها العصف . أطاحها في لحظة استسلام واحدة وجدت في حياة لا علاقة لها بالإستسلام . دخول المبضع في الفؤاد رفعها على الفجأة إلى وادي النوم ، حيث لا ألم. لم تحس بألم اللحظة الأخيرة وهي سارحة في بنجها . سمع الجراحون خشة الخلخال ، بعد أن برد الجسد . هكذا حل بها ، حل بشكلها. لم يحل بروحها .هكذا ، انتهت رجاء بن عمار على قوس النوم ، كرمح بقي يبحث عن مدينة بلا حدود. نهاية ديوان في قصيدة . مفارقة . لم تنتهي إلا حين وجدت في النهاية كرم النهايات . نهاية سيدة لا تنتهي . لأن ثمة من لا ينتهي بالموت .

لم تفتح رجاء بن عمار عينيها على بهارج المسرح، لأنها مسرحية دؤوب على نبش ما لم ينبشه الآخرون . نبش السماء من الأرض .نقبت المرأة بقلبها وعينيها بأرض المسرح. وجدت ، إذاك، علامات لا تعوض. بلوغ الرقص وبلوغ المسرح. لم تفكر مرتين وهي ترسل دم الرقص بدم المسرح. لن تعجز عن تأمل المشاهد القديمة. لن تعجز عن القفز فوق إشارات المسارح والمشاهد القديمة. اندفعت بقوة رصاصة خلف الأصوات الهاتفة في أذنيها ، بعيداً من المراوحة بين اللغات . بعيداً من المراوحة بين اللهجات . قوة منظومة رجاء بن عمار عظيمة. سوف تلقي التحية على المسرحيين السابقين . غير أنها لن تكرر ما وجدوه لا يعوض، بأزمنتهم السابقة. لن تجد بالتجارب القديمة إلا بعض القصص المروعة. لن تجد بالتجارب القديمة إلا الكثير من الإنطباعات الخاطئة. استخدامات مبللة بتصلبات الأعناق من المسرح الإيطالي . مسرح العلبة الإيطالية . ثم ، هزات بريشت وآثار بعض المسرحيين ، أصحاب سرايا حدق الحداثيون بها كتجارب مسنة. من الروح إلى الآلة. لم تجد بإطلاق النار على هذه التجارب ، ربط المعنى بالمعنى . وجدت بذلك ندبة سكين المسرحي على حنك المسرحي. استفادت من ثمار المسرح وثمار الرقص في مدى خصوصي . مداها الخصوصي. بارك الأول الثاني . وبالعكس. بحوار يصمت احترام الرقص للمسرح والمسرح للرقص. فرض تساوٍ، بدون منح أحد الشريكين أي امتياز . الثقافة والعوامل الإجتماعية والطبيعية الأخرى بكيان اتجه نحو المطلق. الإحترام من الإنفتاح على الآخر.حياة الآخر . أولاً ، القبول. قبول الآخر. لأن الحوار لا يستمر إلا بتمييز الأشخاص والأشياء والأصناف والأدوات . حيث أن المقصود بالحوار ، لا سطوة الشيء على الآخر، سيطرة الفرد على الآخر. بحجة التبادل. الحوار جدل ، إذ يبني كل طرف ذاته في خطه الخاص، بفضل تقديمات وعطاءات الآخر. بإدراك أن الخطوط لا تلبث أن تتجه نحو نقطة واحدة . نقطة مطلقة. خدمت بن عمار غايتها الكبرى بذلك. دوخت كل الواقفين على ضفاف الإنتظار . حين ارتعشت أضواء الرقص على المسرح وأضواء المسرح على الرقص. سوف تسمي مسرحها بعد زمن . لأن المسرح ، عندها ، ليس شجرة على ضفة نهر. المسرح نهر. المسرح لوح المدينة . المسرح لوح القصيدة. إشراقات المواجد . كل شيء مضيء بالصدر والحضن والوجه والعينين. الأرض واحدة عندها. أرض المسرح وأرض الرقص. الأرض الأرض وأرض المسرح.

ترك القلب عهداً في حياة رجاء بن عمار. أن تئن ، أن تستنفد قواها من علة بالقلب ، منذ الطفولة. إلا أن سيدة ضد الرخص الجاهز ، لن تقبل الترخيص بتهديد القلب بالموت ، ما دام القلب يمسح بخفقانه الظهر والصدر . لم تخف من

مكرمة دوماً

الموت ، إذ جمعت الدمع والوجع في قاع حياتها . هكذا كلما أشتعل الوجع على المسرح، نهش حضورها الذئبي الوجع و كل عتماته .غلب الوجع عهود جسدها . لم يغلب عهود روحها. وجد الجسد ذاته في هبوب أوجاع القلب. لم يته الوجع عن الجسد . لذا ، غطس الجسد بمائه . تضخم الجسد من ماء الجسد. جن الحجم واخضرت الروح أكثر. ماء الجسد يسيل بالجسد . ماء الروح تسيل بالمسرح. بدا الجسد ، على مر الأيام ، غير الجسد السابق. لم يفقد عذوبته ، إذ فقد التناسق القديم. أضحى الجسد الرمح ، جسد جهات . جسد على فرجات موت الجسد، عند ذرى السقوط الأخير . إلا أنها امتدت بحضورها من أول الوقت ، حتى إخر التخوم. زفرت طويلاً وهي تردد أن لا حق لأحد بفرض معتقد عليها. تلك مرحلة دوران رياح الأخوان المسلمين في تونس بعد أن أشعل محمد بو عزيزي جسده ، بنفس مشرعة على موت فاجع. إذاك لم توافق الوظائف الوطائف. لم توافق وظائف الإخوان وظائف الحداثيين. وظائف العلمانيين . ما بذله العلمانيون على صعيد المجتمع والثقافة وكل الأنشطة الإنسانية الأخرى ، وجد في المهبات، أمام المثال الواحد. حملت صميم فؤادها على يديها واتجهت ، بالمواجهة، إلى طريقها الخاص وسط متاهات عبرت عن الإنسداد إلا في خدمة مصالح الجماعة الجديدة بالسلطة الجديدة. عبرت مع الرفاق والأصدقاء في مستوى عال من التعبير المنظم والممنهج. لأنهم وجدوا بالأنظومة الواحدة حكم الموت على الوظائف الجوهرية بالثقافة والمسرح . التعدد والتنوع أولاً.

لا تقيد بشريعة عند المسرحي . لا شيء إلا الحرية. حرية الإنسان . لا شيء سوى الكينونة والشخص والمجتمع والمعيار والموقف. الموقف الواقعي. جزء من ارتباط المرأة التونسية بوظائف الكشف عن القصد والتعبير عنه. لا تحقق المثال فقط. ثم الوقوف أمام المثال ، بإعادة انتاج المثال المنتج. لم تخرج رجاء بن عمار عن وظائف التأسيس الإجتماعي مذ تكرست صورة المرأة بكامل الحقوق منذ عهد الحبيب بورقيبة. أفراد أحرار لا أتباع. المسرح وسيلة في خدمة الغاية، في خدمة الغايات . لا يكتمل الإنسان ، لا تكتمل حرية الإنسان إلا بتحقق معناه . وجدت بن عمار ذلك بالمسرح. هي وكل من طرح طلبات الإكتمال ، على مبادئ الإقتضاء. لأن اندفاع الإنسان هدفه أن يصبح هو ، أن يبقى هو. بقيت رجاء بن عمار هي. كما بقي الآخرون والأخريات في واحدة من أبرز تجارب المسرح بالعالم العربي. هذه امرأة تاريخ . إمرأة فرادة، منذ تلك التجربة العظيمة . تجربة وجه الإجمال . تجربة المسرح الجديد. واحدة من ثلة من ثلل المسرح الهائلة ، ثلة المسرح الجديد. ثلة من الجن، لاتمدح إلا التهور الإستيتيكي وهي تسعى إلى الإستزادة بتملك الذات بعيداً من مولدات الخيبات القديمة. تهورات فلسفية تبعها الأمل الدائم ، بعد أن سارعت المخطوطات الصفراء إلى تأكيد أن بناء الكون انتهى عند مجموعة من الأسماء سدت النقص بالمسرح بالذوبان في رغبة الحصول على ما ينقص المجتمع . زكي طليمات ويوسف وهبي وجورج أبيض وحسين رياض ونجيب الريحاني وعلي الكسار ومارون النقاش وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع وعشرات الأسماء الأخرى. وجدت بالتجارب التونسية والعربية السالفة ، خرائط من التعثر والعيش في مجال الأخلاق المسرحية المجلدة . غير إعادة انتاج الأيديولوجيات الجاهزة ، بعيداً من الخيارات والإستنتاجات . لم تفتح رجاء بن عمَّار الأقواس ، حتى تلم عجين المسرح الجديد. بدأت مع “المسرح الجديد”، مع الفاضلين الجعايبي والجزيري ومحمد ادريس وجليلة بكار وتوفيق الجبالي وغيرهم . عمَّرت معهم أوديسة المسرح الجديد. بعدها ، لف بعضهم حضورهم بالتجربة . بحيث أضحوا عابرين فيها . إذ اختار ،كل ، احتفاليته. لن تصادف السيدة البحر ، لأنها البحر. كل موجة فيه تصطحب سيرة جديدة من سير المسرح. لا ضباب أمام البحر . حيث راحت ، تخطو في كل خطوة، لا خطوة الشخص، خطوة السلالات ، منسابة كمياه الدالية . ذلك أنها شققت بجسدها حيطان المسرح ، حين ارتقت بالجسد إلى مرحلة القيامة، بعد أن تنفست المسارح القديمة الكلام والخطابة والإنشاء والتجويد والإدغام . كل شيء خارج الجسد خطيئة، عند رجاء بن عمَّار . عابثت بذلك لغو الطرقات السالكة ، حيث الكلام المجود نواح نوارس . لا شيء أمام فتنة الجسد إلا مواربات المجازات المسرحية . كل ما له علاقة بالإفلاس . رجاء بن عمار ، فرس من أفراس المسار الجديد. واحدة من من وجدوا بغياب الجسد والفرجة عار المسرح. جسد يقتسم القهوة والهواء والغذاء والدمع والحضور والغياب واللغات مع صاحبه. رجاء بن عمَّار هبوب الجسد على رقص المرأة أمام البشر والأشباح سواء بسواء. رقص أمام الصبار، على الصبار، على قدم واحدة ، على قدمين. ضد البلادة والعلاقات الممكنة وحدها. ضد الأجساد البلا آفاق . الأجساد الزائدة . أجساد لا تثير الأسئلة حول الشروط الكامنة في بنية الجسد، في بنية الإنسان وبنية العالم . وعلاقة أضلاع الثالوث بالثالوث. الجسد كائن حق عند بن عمار ، داخل أفق العالم هذا. لا يتوقع الجسد نفسه عندها. توقع الجسد عند المسرحي توقع مخطوط بوصايا العميان .

لم تلعب رجاء بن عمار على أريكة. لا مسند على مسرحها. لا حبكة بمسرحها. بمسرحها لا ذروة. إذ لا تقوم الدراما ، بمسرحها، إلا من خلال المونولوغ الدخلي بين جسدها وروحها. مونولوغات تعكس الأحلام والأوهام والهواجس والرؤى والأسس الجديدة على الأشكال الجديدة. إمراءة كقلم رصاص ، يدور بمبراة. كلما دار ترَّوس . كلما دار قصر عمره. واحدة من أفراد الجنس الهالك . المسرحيون.لم أرها ، بالمرة الأولى ، على خشبة المسرح. حيث وجدت شجرة مشتهاة . شجرة من الرغبات.جسد شجرة. جسدها زادها. جسد لا تجففه شمس ولا أحداث. جسد لم تجففه شمس ولا أحداث. جسد لا يصدق نفسه إلا وهو يدور كالقلم بالمبراة. عينٌ ساطعة على المنصة. مهبط الأشعة . كل شيء هادر في جسد الممثلة / الراقصة ، من حرف الكاحل إلى حرف الأذن. جسد يمتلك الإحساس بالمصير الإنساني ، التراجيدي ، المفجع . شقاء وبؤس البشر. هؤلاء من يبددون طاقاتهم جرياً وراء المسائل التافهة.

جسد كهربي، جسد رجاء بن عمَّار . لم تبح إبنة الحياة العصرية بالسعادة . لم تفشي أسرارها إلا على الدروب المؤدية إلى المسرح ، منذ بداياتها بفرقة الكاف بقفصة. تقص ” الكاف” الأسماء. الإسم بعد الإسم . سوف يتكرر ذكر المدينة بدروبها الضيقة وأزقتها ومنعرجاتها ، كواحدة من مدن المسرح الدنيوي. صباحاتها الأولى تستحق التحية. لأنها كسرت السكون ، بستينيات القرن العشرين، وهي تغزل الكائنات الجديدة بأجنحة جديدة. مشى هؤلاء فوق اللوعة الهوجاء ، بحيث بدوا محدوفين من سموات جديدة. لم يدرِ أحد ، أن رجاء بن عمَّار ، سوف تسعف القافلة بأحايين القطاف، قبل أن تسرح على جروف المسرح ، كقافلة ، بجسد واحد وقشعريرة العشرات من الأرواح . نار ونار، في مدار من اللهاث الأزرق، بلون البحر.

دارة المسرح في قفصة بناها المنصف السويسي . رحل الأخير منذ مدة . لحقت رجاء بن عمار بفرقة الكاف. ثم ، لحقت المنصف، إلى حيث لا ضغينة ولا كراهية ولا غرور ولا ألم. لا تزال السيدة ، الجبارة، ملاكة ميول شريرة. هكذا ، زخرفت نهارها الأخير بالموت. ذكرت القاطن بالموت ، أن القباب تحفل بالتجليات المادية وجلاءات الأرواح المبهرة. تحت المباضع . هذه صورتها الأخيرة.صورة من شريط صور في ممر مجهول / معلوم . كصورها على طريق “ثورة الياسمين” ومن أرادوا هدمها. لم ترد للتباشير أن تتبخر. خرجت وظلها في مسيرات الأشجار المتكلمة ، مع سيدات المسرح وسيدات البيوت ، بنظارتين سوادوين ووجع قلب ، لم يلبث وجعه أن أعاد الكرة ، كرة كرة. تحت المباضع ، صورتها الأخيرة. معركة بلا سعادة. لا كالمعارك السابقة. معارك سعيدة. إلا حين خسرت ” مدار” بالسنوات الأخيرة، حيث لحِظتُ / هناك/ الخط العربي يتشكل من جديد على جسدها ، المحشود بالجرأة والتستر المدهش والإنحناء والإنكشاف الكلي. انزرعت هناك ( مدار) كما يزرع الجنين بالأرحام . ثم ، فجأة، تبعتها الطلبات ، كالنمل يعبر بصمت لا يصدق. لم تملك إلا بقايا سيجارتها على طرفي شفتيها وهي تصارع على المتراس الأخير، الذهول وروائح الجيف والجنون . لا كرامة لمسرحي أمام عنقود عمره ، متروكاً على الأرض الناشفة. “مدار” عنقود عمر رجاء بن عمار . صلب ٌ وحاسم بالتجربة المسرحية التونسية. حيث قدم الشهادات والأوردة الحارة على أن المسرح لا يزال يتحف النور بالنور والبحر بالأعشاب الخضراء. وإذ دهمته الأزمة الإقتصادية ، تكسرت مدارجه الخفية، أمام العينين المتوقدتين بالكرامة والعدالة والإبداع . ذاب المحترف أمام الفيلات الجديدة. واحدة من مظاهر الرأسمالية الوحشية. فجأة، وجدت بن عمار جسدها رقيقاً ، هائماً، خلف جماليات المزار( مدار) المفقود.وجدت نفسها بلا زورق. هذه سرديتها الكبرى. هذه مرويتها. لا عجب أنها خبأت السردية ، هذه،بين أصابعها. وحين فقدتها ، أقامت على احتمال الإصابة بجزام الأصابع. حيث يتهدد السقوط الأصابع. مدار لَيس صالة مغلقة بنظرها، لا يرى من بخارجه، لا يرى داخله. مزار قوة النظرة إلى الثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والعام. حين أوصدوا الأبواب أمامها ، وسعوا الفجوة بينها وبين حياتها. اتهمت بفرط الدفاع عنه، أمام جندرة البلدية والشرطة المحلية. صورها الأخيرة بالمسرح صور فرط شهامة. أرادت أن تبين مضار الوحشية السياسية والإجتماعية والثقافية وهي تردد أن لا مصنع ولا مقهى ولا ضاحية ولا مدينة بدون مسرح. شرد الأفق أمام عينيها وماتت من أورام الوحشة ، وهي تراقب الأغراض والذكريات تنهب أمام فؤادها المدكوك بالتحولات المتعالية. سكنها الموت مرة جديدة ، حين ماتت ، تحت مباضع الجراحين. لم تحدد موعدها مع الموت ، لأنها لن تموت إلا كما يموت الزعتر البري. زعتر بالكثير من النحل البري على الجبين . غير أن أبطال الأزمنة الساطعة ، إذ يرحلون ، ينبثقون من الأخبار الطاعنة بالغياب. شيء من الجمالات الخارقة بتجربة امتدت على أكثر من نصف قرن. المسرح المدرسي أولاً. المسرح الجامعي، ثانياً. بعدها ، تجارب المحترفات والمحترفين . أشرطة تجمع الزخارف الذهبية بالأرضيات المعتمة على صدى طيران الجسد في عطور أعناب المسرح . ذلك أن هذه الإمرأة الإستثنائية، زرعت حرشاً من الأجساد في جسد واحد. جسد ناسف، بهسة أفعى. رأسها، رأس من دم ، على منصات الأخشاب الصافية. الرقص ، رقصها، يرى من وراء الجدار. رقص نافورة ، مما لا يذكره إلا الشعراء.هذه رجاء بن عمار.الآداء ، حار ، غير معهود. نيزك ، يشعل جمهوراً بالرغبة بالإستزادة من هذا الجسد المفولذ. لا قديسة ولا شهيدة. بنت مهنة ، على ما رددت باستمرار.مهنة تصخب كسحب الماء.رجاء بن عمار ، تفيض عن ذاتها، بجسدها غير المسطح، بعيداً من المهابط . جسد بطبقات. زنبقة الماء، الصوت الآدمي، جذرية العلاقة بكل ما لا يستبدل بالإكفهرار والإكتئاب . هذه هي، مذ وجدت جسدها في صميم التخليقات الجديدة، في مضمون المنتج الثقافي مع فحول وفحلات المسرح التونسي . عشرات وعشرات . لا أشير ، إلا إلى المزاج النافذي لهؤلاء في تجربة المسرح الجديد. تداخلت الأصوات . استقلت بن عمار إثر قصص ووقت وضحكات وفخر ونفور من التكرار ، من الركود، ضد قفلات استطالت وتربعت على الأرض، بعيداً من سماوات الأحلام .حين وجدت النهاية في لا نهاية برزخ المسرح الأجوف ، سبت آلهة المسرح الجدد ، عائدة إلى أصلها الغجري، ترمم الشدو بالسكر بعبير الخطوات الجديدة. كتبت شعراً لا يكتبه الشعراء في ” مسرح فو”. كتابات ضد التجويفات المفرغة في “بياع الهوى” و”ساكن في حي السيدة” و”هوى وطني “و”وراء السكة” و” نافذة على ” وغيرها من الأشغال المسرحية، لا المسرحيات . أشغال بين اليقين وانفتاح البوابات المؤدية إلى العرش الأعلى وبعض اللمعات الصوفية. حرة ، حرة بحالات ومشاعر في مجتمع تعصف به رياح التغيير. لم ترغب الملكة القوطية بأن يأسرها تيتوس أندرونيكوس مع أولادها الثلاثة . أولادها الثلاثة، المسرح والمسرح والمسرح. المسرح الماء . لا المسرح الوشم. لا طبيعية زولا واكشافات العلم الموضوعي ولا مآزق سارتر الفلسفية ولا تغريب بريشت ولا واقعية ستانسلافسكي . المسرح، عندها، مختبر، يعاين المسرحي فيه، السلوك الإنساني بالإدراك والغريزة سواء بسواء.

بين الشعر الجسدي والنقد الفيزيقي، أوصدت رجاء بن عمار أبواب الكلام على الفصول الإيروتيكية بالرقص العربي ، حين فتحت المجالات اللغوية الموصدة على كل المناهج التعبيرية الجديدة بالعالم. الرقص، في مسرحها، عقرب أسود. نط فوق منحدرات ، فوق عقم الجسد في قبور المسرح العربي القديمة. لم يعنِ هذا أن السيدة ، إذ صاغت قيمها الجديدة بالمسرح ، لم تتعلق بهويتها . لم تقف عند مراحل العودة ، غير أنها لم تخشى من خسارة الهوية سلفاً. لم تراوح تجربتها الجريئة أمام مواقف ثلاثة لا تزال تهيمن على العقول بالعالم العربي بكل المجالات . التمسك بالتقاليد . التمسك بالتقليد ورفض الحداثة الوافدة من الغرب. والحداثة الرافضة للتراث باتهامه بأنه علة التأخر. الروح والممارسات الإصلاحية . أو الإحتفاظ بالقيم الأساسية المميزة التراث والمكونة هويته وإضافة بعض معالم الحداثة عليها . كما لو أن الأمر يتعلق باستمرار بالوسائل المستخدمة بالطريق إلى الغايات . لا طلب للهوية طالما أن الهوية بالقلب ، بالجهاز العصبي ، بالقلب.لا استدعاء لوسائل الحداثة ، لأن الحداثة ، لا تقوم على الوسائل ولا ردات الفعل. لا إصلاح ، ذلك أن رجاء بن عمار اعتبرت أن حاجاتها الأساسية، بعيدة من الإصلاح والإصلاحيين . الرقص برق، الرقص رعد. الرقص جهازها. جهاز العروس. رقص كرقص شخصيات شاغال في سماواتها. رقص يبري الصمغ، بحيث يتقفى الراقص طيرانه في رقصه. رقص وصال. رقص محشود بالكودات ولحظات العزلة ، بعد الوصال وارتداد الأنفاس إلى كل ما لا علاقة له بالعقم. الآداء الراقص، الدرامي، زوجها وولدها وحفيدها. رقص يجهر بحياة الجسد، بحياة المسرح. تروي شهرزاد هنا، بجسدها. شهوة الكلام لا تغيب . غير أن الكلام ، مهووس بالرحيل إلى بحر الجسد، بحر المسرح.بوفيه غموض(عنوان مسرحية لمايكوفسكي). بوفيه أذونات سفر إلى كل مدهش، بموهبة، كرست صاحبتها ، بطرق عنيفة. طرق ضد الحذلقة، ضد السخافة. طرق تُطَّهِر وتضب غربة الطبقات في طبقة واحدة. مسرح ضد طفيليات المسرح والطفيليين . المسرح علة وجودها الأولى . هكذا أدانت كل الطرق القديمة بالآداء عبر مراجعة العلاقة بالجسد ، بزر الهلاس المتفجر بالإيحاءات . الجسد ، عندها، أساس الفلسفة الجمالية والخطاب المسرحي الجديد. هزت شجر التنويط القديمة ، حين عجنت الجسد بطنين اللغة الجديدة. جسدها كوزموسها. قوة العبور من الحصارات المادية والروحية إلى حضورات لم تهدف إلى رسم الحدود بين الأشياء والبشر والعناصر. نظام جديد لم يرغب بالإنتصار بالتخطيط. لا تركيبات جاهزة. ثورة حرة لا تمتلك أشياء جاهزة تحميها من الآخرين . قدرة فذة على عرض المشاعر العنيفة والقوية بعمق يشدد على أهمية تماسك الأشياء والأدوات والأجساد والأرواح.حين تتماسك العناصر ، هذه ، يصعد ماء المسرح الشفاف، يستوي على عرشه الحقيقي.أغرق الماء الشفاف الكثير من إشغال رجاء بن عمَّار. لا أزال أمام جنون ” ساكن في حي السيدة” حيث يدور الجسد بفراغ المسرح ، لكي يداري محنة الفراغ .سيدة الدراما والآداء الدرامي الراقص، اتقدت وهي تجهر بأن بلا جسد لا مسرح. جسد حي، مسرح حي.لا شيء يشي بالغدر ولا الخفوت . ذلك أن بن عمَّار لم تلعب يوماً إلا على نوافذ القيامة لا على قواعد القبور. لا علاقة لمسرحية ” فاوست ” بالنعاس. لا نعاسها ولا نعاس المشاهدين. لا كلام أجوف ولا مشاهد يلطخ فيها العجب المسرح بالمجان . لا تكلح مسرحية عندها ، لأنها ترسم مسرحياتها كما يرسم النحل أمبراطوريته.دراماتوجيا كضياء لا يصاب بالخجل أمام العتمة. هنا، يسافر الجسد على النوتات لا على مروج الطرقات العادية، بعد أن استدرجت المسرحية التونسية الرقص إلى جسدها بحيث أضحى واحدة من علاماته الفارقة. علامات تتجدد كلما خرج الجسد من الغرف العادية ، ييمم إلى قماشات المسرح. لا معاجم جاهزة في التجربة الخاصة بها. لا قواميس . كل قديم بائد ، عندها. كل نغمة قديمة نشاز . كل خطوة راقصة متكررة ، خطوة نتنة .كل مسرحية جديدة ، مسرحية جردة للقديم ، في خط لم يتلوَ، حتى حين جابها الوجع من وجع القلب ووجع الإتهامات الظالمة . اتهامات في أن ثمة ظلال كثيفة ، لمسرحيات عالمية في مسرحياتها. هذه امرأة صدى طفلة، تلاعب المسرح بعناقات جميلة، بعيداً من الفلكلور. أصالة وجاذبية. أصيلة وجذابة، تزود مسرحياتها ( مع شريكها المنصف الصائم ) بالطلات الذكية والحركية والتشويق، على خلفياتها القلقة.الرقص في مسرحها ساخن ، متأجج. إلا أن ليس له علاقة بمدارس الرقص المتركزة على الأدوار الرئيسية للرقص وحدها. لا بينا باوش ولا بيجار ولا بوب فوس ولا مناهج الرقص الألمانية ذات اليقظات العالية. الرقص عنصر أساس، في مسرحها، غير أنه آداة( آداة من أدوات ) تعزز من ملحمية حضور الجسد الدرامي على المنصة المسرحية.

المسرح روح لا بناءات . المسرح روح لا صرعة. لا توالد أزياء ولا لحاق بإشعاعات المتبوع المصَّبر . صعَّدت نبرة الكلام دائماً، لكي تؤكد أمامي ، أن الإنشقاق عن المسرح الطلياني لا يكفي ، اذا لم تنفخ في رئة المسرح الأنفاس الحديثة.اطمأنت رجاء بن عمار إلى ما سمته “المسرح الزياح”. إذ تخففت من أرض موت الحداثة المرفوعة على الجبانات الشكلية والنيوطليعية المراوغة. لم تهدأ، وهي تتعرض للكثير من محاولات الإغتيال ، من مصادرة مدار ، حقلها الممغنط على جسدها الثائر، إلى حصار الحفر الأخيرة ، لكل مفرد . للكل بالمفرد. كتبت نصاً عن العراق ، بجنوح الأوضاع الضاري هناك. لم ينفذ ، بالرغم من الإتفاق مع الفاضل الجعايبي على تنفيذه. لعبت بالمسرح والسينما(عصفور السطح…). غير أنها لم تقرب التلفزيون . حافظت على مسافة حاسمة مع انتاجاته. ملكة السينوغرافيا، المعجبة غير المهومة بتجربة ” الليفنغ تياتر” مع جوليان بك وجوديت مالينا، جنحت عما بها منذ أعوام . انتقمت من كل التحشيدات السابقة، بقيم صدمها المعروفة. تفلتت من درف التبويب بالموت. حملت موسيقاها وأضوائها وملابسها وديكوراتها إلى العالم الآخر. الفنانة الشجاعة ، غادرت على صهوة الغيم ، بعد أن قاسمت الرفاق الماء والخبز والجنون والحكمة. لم تثر غباراً حين مضت. مرت حية من الحياة إلى الموت. نصر بعد نصر. ذلك، الموت نصر بالأوضاع الحالية. ثماني سنوات على الغياب . كل شهر بحر من الذكريات المضيئة .