رحلة مع الشيخ عبد الله العلايلي إلى الديار المقدسة 2

قلت إني أمضيت مع الشيخ شهراً او بعض شهر، وأكلت أثماراً شهية من حديقته الغناء، وأزكمت خياشيمي بأريج ورد جوري، لا أذكر أني شاهدت أجمل منه في حياتي. لكن هل تعرف أيها القارىء الكريم كم من الوقت أمضى الشيخ يتعهد تلك الحديقة، ليقدم لي ولك تلك الورود الزكية العطرة، وتلك الأثمار الطيبة؟

سبعون سنة وأكثر. كان في العاشرة من عمره عندما أرسله أبواه إلى “الأزهر الشريف” فحفظ القرآن وألفية ابن مالك، وطائفة كبيرة من السير والأحاديث. سبعون سنة وهو يحرث الأرض البور، ويتعهد صغار الزرع كما تتعهد الأم طفلها الرضيع، ويعتني بالأشجار التي التهمنا كل أثمارها في شهر وبعض شهر….سبعون سنة وهو يزرع، وفي شهر وبعض شهر نحصد نحن الزرع كله …يا للمفارقة!

 عاش الشيخ على كفاف يومه، يدرس ويتأمل ويسهر الليالي الطوال، لا شراب أمامه إلا أكواب من الشاي على طبلية من الخشب مستديرة. لم تخلبه المفاتن، وكانت حياته حرة متواضعة أصيلة، وكنت كلما رأيت صورته في الصحف جالساً القرفصاء، تذكرت شاعرنا المعري وحياته الخشنة المتواضعة. كان الشاعر الضرير قد أكل دبساً ذات يوم، فوقع بعضه على صدره، فلما دخل عليه تلاميذه سألوه: هل أكلت دبساً يا معلمنا؟ فاحمرت وجنتاه وأجاب: نعم نعم، قاتل الله الشره، وحرّم الدبس على نفسه طوال الحياة.

أراك أيها القارىء الكريم قد ارتحت لهذا الشيخ الجليل، وتريد الآن أن تسأله عن الدين الذي به يدين. سأخفف عنك وأجيبك، لأنني سبق وطرحت عليه هذا السؤال. كان الوقت ليلاً، وكانت السماء مرصعة بالنجوم، والبدر يتلألأ كصحن من الفضة. أوقف الشيخ ناقته وقال لي:” ديني هو الإيمان برب العالمين الرحمن الرحيم”، هو مثل هذه النجوم، يراها البشر أينما ارتحلوا وحلوا، ومن أي درب سلكوا، درب القدس والناصرة، والخليل والجليل، ومكة والمدينة، وكل مكان في هذا العالم.

عندما سألته عن جوهر الدين، أخرج من جعبته ورقة خط عليها هذه الكلمات: ” جوهر الدين في غايته العليا هو الملاءمة والمواءمة بين الديانات جميعها ونبذ الفرقة”، وعندما سألته ما إذا كان القرآن يدعو إلى ذلك، فتح المصحف الصغير ودلني على آية من سورة الشورى تقول: “شرع لكم من الدين ما أوصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا”.

لا أخفيك أيها القارىء الكريم، أنني وجدت صعوبة شديدة في قراءة تلك الآية، لأن الوقت كان ليلاً كما بينت لك آنفاً، ولحد الآن، لا أعرف كيف تمكن الشيخ من فتح ذلك المصحف الصغير، على تلك السورة وعلى تلك الآية، ومن دون جهد يذكر، مع أن عينيه صغيرتان، ويكبرني بنحو أربعين عاماً. لم أعرف السبب إلا عندما يممتُ شطر الهند ذات سنة، وهناك في قرية من تلك البلاد، رأيت جمعاً من الناس من كل شكل ولون، قد جلسوا يتفيئون ظل سندياتة عتيقة، فيما كان أحد البراهمة يتحدث إليهم بلغة هادئة متزنة. كنت على عجلة من أمري، فلم أسمع كل ما قاله ذلك الحكيم، لكن أذكر أنني سمعته يقول: ” من الناس من يسمع في الليل اصواتاً لا يسمعها الآخرون، ويرى ما لا يراه الآخرون”، عندها تذكرت تلك الواقعة بيني وبين الشيخ، في ذلك الليل الصافي الأديم.

                                          *****

تقدم الليل ودب النعاس في أجفان الشيخ. بسط لحافه ونام قرير العين، فيما بقيت أنا يقظاً أفكر في كلامه وريح الجنوب الحارة تلفح وجهي. غلبني النعاس فنمت، ثم أفقت بعد ساعات مذعوراً. أحس الشيخ بحالي فقال لي: ما بالك قد أفقت من نومك يا بني؟ أجبته بأني رأيت مناماً هز قلبي هزاً عنيفاً، رأيتني جالساً على مرتفع من الرمل وندف الثلج تتطاير من حولي، كأنها جوالح القصب أو القطن. بعد هنيهة شاهدت من البعيد منظراً ظننته رؤوس أشجار النخيل، إلى أن أدركت بعدها أنها لم تكن إلا هوادي الخيل وأطراف الرماح. كان المشهد مهولاُ، قافلة من رجال على الخيول يرفعون رايات سوداء، وأسنة على رؤوسها رؤوس بشرية، يتقاطر منها دم أحمر قاتم. لم أستطع أن أتبين وجوه الخيالة، كانت ملفوفة بغترات سوداء، وعلى يمين القافلة سبايا تلفحت كل واحدة منهن بنقاب أسود.

الشيء الغريب أن الشيخ عندما سمع كلمتي الأخيرة سألني: “هل كان في حوزتهم مصاحف؟”. قلت: “كانوا يحملون كتباً يصعب علي القطع بأنها كانت مصاحف”. ثم عاد وسألني” هل كانوا يحملون رايات عليها عبارة الله أكبر، أو شيء من هذا القبيل”؟ هالني سؤاله فقلت:” نعم، رأيت رايات عليها عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

سكت الشيخ سكوتأً رهيباً، وأخذ يتمتم بكلمات لم أستطع أن أتبين منها حرفاً واحداَ. مرت دقائق خلتها ساعات، ثم رأيته يسحب من جعبته قلماً وورقة وبدأ يكتب مع طلوع الفجر. عندما أنهى الكتابة طوى الورقة ودسها في جيب جلبابي، ثم قال لي بصوت مبحوح تكاد زفرات الموت تخنقه” سنتابع الرحلة يا بني وأمرنا إلى الله، لكن أطلب إليك الا تفتح هذه الورقة، إلا بعد عشرين عاماً من رحيلي عن هذه الأرض”.

                                                      *****

أظنك تريد أن تعرف أيها القارىء الكريم ما كتب الشيخ في تلك الورقة، أليس كذلك؟

كنت أريد أن افصح عن هذا السر، بعد أن تنهي رحلتك مع الشيخ، وتسمع ما قال لسانه وخط يراعه، لكن لا بأس، سأقرأ لك ما كتب، لأن عشرين عاماً قد مرت على تلك الرحلة، وعلى ذلك العهد الذي قطعته للشيخ ولنفسي.

كتب الشيخ ما يأتي:

“عشت حياتي كلها أحمل قنديلاً أين منه قنديل ديوجين. آمنت بالإسلام رسالة محبة وغفران وتسامح، وعملت بكتاب لا عصبية فيه ولا تفرقة ولا شيعاً ولا مذاهب، ولا حبل فيه إلا حبل الله الجامع المانع. آمنت بأن الناس، كل الناس في هذا العالم، أخوة لي في الإنسانية، الكريم منهم هو التقي الذي يخاف الله ولا يفتك بعباده، بقطع النظر عن الطريق التي يسلكها في التعبد، لأن الله لو شاء لجعلنا كلنا أمة واحدة. في الأزهر الشريف رأيت أن لكل شيخ طريقة، ثم علمتني الحياة أن الأعمال بالنيات، ولكل أمرىء ما نوى، وأن المهم أن يعترف كل منا بالآخر، لأن هذا هو السبيل الوحيد للتواصل السمح.

” أيدت الزواج المختلط بين المسلمين وأهل الكتاب، لأن المسألة كانت تتصل من بعض جوانبها بما هو حيوي وتعايشي، ولأنها، أي المسألة، وإن تك فقهية، فإنها تؤول بدورها إلى مشكلة وطنية، أو قل هي عقبة دون التآخي الوطني الأكمل. لم أسع إلى مجتمع مدني، لأن هذا في الإسلام من تحصيل الحاصل، ولأن الزواج في الإسلام عقد مدني من أساسه. لم أمهد السبيل إلى العلمانية، الحلانية كما سميتها، لأن هذا أيضاً من تحصيل الحاصل، فالإسلام لا يعرف الطبقات، ولا يعترف بكهنوتية إكليركية، والآية الكريمة في هذا الباب واضحة: “قل يا أهل اكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاَ أرباباً من دون الله”.

هذا ما كتب الشيخ في الورقة التي دسها في جيب جلبابي. أما الآن، فقد حان وقت الفراق بيني وبينك أيها القارىء الكريم، وأخالك تريد أن تتابع رحلتك مع الشيخ إلى “الديار المقدسة”، وأخالك تريد أن تعرف من الآن، كيف اتفق أن الشيخ سألني ما إذا كان الخيالة المحاربون الذين رأيتهم في منامي يحملون رايات سوداء، عليها آيات من القرآن. الحق الحق أقول لك أني لم أسأله عن ذلك، ولا أظن أنه كان سيجيبني لو سألته على أي حال، لأني، كما سبق وقلت، لم أسمع حرفاً واحدأ من الكلمات التي كان يتهامس بها بينه وبين نفسه. أعتقد بأنها كانت سراً من تلك الأسرار التي يأخذها الحكماء معهم إلى القبور، وتبقى أسيرة التراب إلى الأبد.