سردُ الجمال والمُهمَل خلف كواليس الاحتلال والشَّتات

  عندما نقول «الأدب الفلسطينيّ»، غالبًا ما يتبارد إلى ذهن القارئ أو السَّامع أنَّه سيكون أمام حكاية جديدة من حكايات المقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيليِّ، بغضِّ النَّظر عن الجنس الأدبيِّ الذي صيغت به هذه الحكاية.

الشَّاعر الفلسطينيّ وضَّاح أبو جامع

  وعلى الرَّغم من قدسيَّة القضيَّة الفلسطينيَّة وعدالتها، إلَّا أنَّ الأدب الفلسطينيَّ أوسعُ وأشملُ من أن يكون مجرَّد أدب مقاومة -على جلالة شأنه-، أو أدب شَتات -على أهمِّيَّة ما يوثِّقه-، أو أدب فواجع وأزمات -على جوهر وإنسانيَّة ما ينقله-؛ فالأدب الفلسطينيُّ أدبٌ للحياة في كلّ أشكالها ومستوياتها، ويستحقُّ أن يُقرأ بكلِّ ما يتضمَّنُه من تنوُّع وجمال.

 أستعرض في هذا المقال، مجموعةَ أفكار طرحها كتَّابٌ فلسطينيّون معاصرون، ينتمون إلى أجيال مُختلفة، على تنوّع الأجناس الأدبيَّة الَّتي كتبوا بها (شعر، قصَّة، نوفيلا، رواية)، كإنصاف لأدب ثريِّ، يعرِّي تناقضات المجتمع، ويناقش قضايا المرأة، والفوارق الطَّبقيَّة، ويتناول الهموم اليوميَّة البسيطة والمعقَّدة، ويكتب عن المسائل الوجوديَّة، وعن الحبّ والفقد والشَّوق والجمال، ويحلم بمستقبل أفضل. كلّ ذلك بلغة فنيَّة رفيعة، تتنقَّل ما بين عوالم سرديَّة وشعريَّة، تتعامل مع الإنسان الفلسطينيِّ ليس بوصفه مجرَّد رقم في معادلة صراع، بل ككائن مفكِّر، يشعر، يحلم، ييأس، ينتصر، ويبحث عن جمالٍ وسط الرَّماد.

  عند قراءة قصائد ابن غزَّة الشَّاعر الفلسطينيّ «وضَّاح أبو جامع»، سنقرأ سلسلةً من الصِّور الشِّعريَّة المُصاغة بتكثيف وإيحاء يختزلان حساسيَّة شاعر، تتنوَّع عوالمه الشِّعريَّة، كتنوُّع الحياة، دون أن تقتصر على تصوير مشاهداته في حروب الإبادة ضدَّ أهله وأرضه، بل تتسع، وفيها يلتقط المُهمَل ويحوِّله بخفَّة إلى منحوتة جماليَّة. فالحبُّ، والغزَل، وصدام الأجيال، والحزن الدَّفين، والفقد، جميعُها حاضرةٌ في قصائده.

 في تأملٍ حزين ومضحك في الوقت ذاته عن كيفيَّة فقدان المعنى الأصيل للفنِّ عندما يُختزل إلى مجرَّد صورة أو موضة، يُقدِّم «أبو جامع» صورةً عميقةً لرؤيتين مختلفتين للشِّعر والفنِّ، ممثِّلتَين في شخصيَّتَين «الجدَّة: تمثِّل الشِّعر الأصيل المولود من المعاناة والتَّجربة/ الجدّ: يمثِّل النَّاقد الذَّكي، الَّذي يرى في مظاهر الحداثة شكلًا جميلًا لكنَّه في النِّهاية ينفصل عن الجوهر». حيث يستخدم الصُّورة البصريَّة للوشم (التَّقليديُّ مقابل الحديث) كاستعارة رئيسيَّة للحديث عن الشِّعر والأدب. وبذلك ينجح في اللَّعب على ثنائيّات التَّقليديّ والحديث، الأصيل والمعاصر، الجوهر مقابل المظهر. لينتقد بذلك بسخريَّة وذكاء انفصالَ الشَّكل عن الجوهر في الفنِّ المعاصر، الممثَّل في نصِّه بفتيات المجاز:

«لجدَّتي الشَّاعرة

 طريقتها في دقِّ القصائد

 تعرِف كيف تضربُ خطًّا يفصلُ

بين شفتها السُّفلى وذقنها

 بينما تُسمِّيه فتيات المجاز بالتَّاتو

 جدِّي الَّذي كلّما رأى عصفورًا على كَتف

 أو فراشةً في منتصف ظَهْر

يقول: ليس سوى أدب مُعاصر»

 لا تتوقَّف ثقافة «أبو جامع» عند الثَّقافة الأدبيَّة النَّقديَّة، الَّتي تمثَّلت في المقطع السَّابق في كشف الانزياح عن الجوهر؛ بل تمتدُّ لتمزُج بين التُّراث الدِّينيِّ والصُّورة الشِّعريِّة الحديثة. إذ يُظهر في إحدى قصائده تأصيلًا إسلاميًّا باستحضار كلٍّ من «التُّرمذيّ وهو مُحدِّثٌ مشهورٌ في الإسلام» و«رفع الأحاديث»، لكنَّ هذا التَّأصيل ليس استعراضًا إسلاميًّا ثقافيًّا، وليس زخرفًا لفظيًّا، بل نسيجًا لغويًّا يُشكِّل رؤية الشَّاعر للعالم والجسد والمعنى. حيث يُحوِّل العنق البشريَّ إلى «مَتْن/ مكان رفيع في صحيح الحديث». في الوقت ذاته، لا يفصل «أبو جامع» هذه الثَّقافة عن حداثة التَّشبيهات، حيث يمزج الألم «جُرحٌ قديمٌ» بالجمال «يُزهِر»، والجسد «أكتافٌ، عنُقٌ» بالعاطفة «الأزمات القلبيَّة». ليصوغ في النِّهاية قطعةً فنيَّةً تجمع مجدَّدًا بين الأصالة والحداثة:

«تتفتَّح بشرتك

 كما لو أنَّ جُرحًا قديمًا بدأ يُزهر

 لديك أكتافٌ مناسبةٌ للأزمات القلبيَّة

وعنقٌ يُشبهُ مَتنًا

لو كان التّرمذيُّ حيًّا

 لرفع الأحاديثَ إليه».

وهكذا يُقدِّم «أبو جامع» نفْسَه كشاعر قصيدة نثر حداثيٍّ، له بصمته الخاصَّة في نحت الجمال، وتحويل الهامش إلى متن، والمُهمَل إلى أصيل، دون أن تقتصر قصائده على لُغة الرَّصاص الَّتي أطّرت حياته قبل انتقاله إلى العيش في بلجيكا طالبًا اللجوء، وما زالت تؤطِّر حياة أفراد عائلته الَّذين يعيشون في خيمة جنوب قِطاع غزَّة، ومدينته «غزّة»، ليختار «الجمال» في جانب من كتاباته كفعل مقاومة، من مبدأ أنَّ الحياة بحدّ ذاتها هي فعلُ مقاومة.

 تُشارك «أبو جامع» في هذا النَّوع من المقاومة، القاصَّة «شيخة حليوى» ابنة قرية «ذيل العِرج» البدويَّة على سفوح جبل الكرمل الفلسطينيَّ. إذ تُحمِّل قصصها قضايا اجتماعيَّةً هامَّةً، في مقدِّمتها المرأة وقصصها المهمَّشة ومعاناتها في مجتمع قَبليٍّ، إضافة إلى: صراع الهويَّة والانتماء في مجتمع ينتقل من البداوة إلى الحَضَر، والتَّقاليد مقابل الحداثة

القاصَّة شيخة حليوى

والثَّمن النَّفسيّ للانفصال عن الجذور، وما يسود المجتمع الفلسطينيَّ من صراعات طبقيَّة وعنصريَّة وجَندريَّة، بعيدًا عن صراع الوجود مع الكيان الغاصب. ولا تكتفي بطرح هذه الأفكار، بل تُقدِّم نقدًا اجتماعيًّا جَريئًا للمحرَّمات والعادات الذُّكوريَّة المُقيِّدة للمرأة.

 تمتاز لغة حليوى بالعموم بالدَّمج بين اللُّغة الأصيلة والهَجينة، حيث تدمج بين اللَّهجة البدويَّة المَحكية والفصحى، لتخلق بذلك نسيجًا سرديًّا غنيًّا، يعبِّر عن هويَّة منقسمة بين البداوة والمدنيَّة.

  تعتمد في كتابتها على اختلاف مجموعاتها القصصيَّة على التَّكثيف والانزياح نحو الشِّعريَّة، مستخدمةً تارةً الاستعارات القويَّة واللغة الموحية، وطورًا السُّخرية والمفارقة لتسليط الضَّوء على التَّناقضات الاجتماعيَّة، كما تدمج أحيانًا بين الواقعيِّ اليوميِّ والسُّورياليِّ لخلق تأثير قويٍّ وإبراز الأبعاد النَّفسيَّة لشخصيَّاتها.

  وبالعموم، تركّز حليوى في كتاباتها على هويَّتها الفلسطينيَّة، وخصوصيَّة تجربتها كامرأة من المجتمع البدويِّ، مع تأكيدها على دور الكتابة كوسيلة لمقاومة التَّهميش والظُّلم، وكأداة للنَّقد، تطوِّعُها في نصوصها بشكل أساسيٍّ لنقد الثُّنائيَّة الظَّالمة المتمثِّلة في الاحتلال الإسرائيليِّ من جهة والمجتمع الذُّكوريِّ من ناحية أخرى، لتسلط بذلك الضَّوء على المعاناة المزدوجة للنِّساء الفلسطينيَّات، وقصصهنَّ وتحدياتهنَّ اليوميَّة في مواجهة القيود المجتمعيَّة والاحتلال.

  وبذلك تُقدّم نفْسَها كقاصَّة تحمل همومَ مجتمعها وهويَّة أرضها، من خلال عين ناقدة، محوِّلةً قصصها إلى فنِّ مقاومة وجوديٍّ، وجاعلةً من أدبها فضاءً للتحرُّر في أصعب الظُّروف وأقساها. لتغدو في النِّهاية حليوى صوتًا للفئات المهمَّشة، خاصَّة النِّساء والبدو.

 يتجنَّب الرِّوائي والقاصُّ المقدسيُّ «محمود شقير» غالبًا التَّصوير المباشر للاحتلال وملامحه والمقاومة وأفعالها في كتاباته، بل يعتمد على الانزياح عن المباشرة في طرح الصّراع الاسرائيليّ-الفلسطينيّ، ويركِّز فيها على الأثر الدَّاخلي والنَّفسيِّ لهذه الأحداث على حياة الفلسطينيِّين اليوميِّة وهمومهم الإنسانيِّة، ممَّا يمنح أعماله عمقًا وتأثيرًا أبلغ.

 تتنوَّع كتاباته ما بين القصَّة القصيرة، الرِّواية، أدب الأطفال، المسرحيَّات، ونصوص السِّير الذَّاتيَّة.

  تتميَّز مجموعاته القصصيَّة بالإيجاز والكثافة والدَّلالة، مع تركيز على المفارقة والسُّخرية أحيانًا؛ في حين تتميَّز رواياته القصيرة (النُّوفيلا) عمومًا بالمزج بين الواقعيِّ والفانتازيِّ؛ حيث

يستحضر شخصيَّات عالميّةً (فنيَّةً، وسياسيَّةً، وأبطال روايات عالميَّةً)، ويجعلها تتفاعل مع واقعه الشَّخصيِّ والواقع العامِّ الفلسطينيِّ، ممّا يخلق واقعًا افتراضيًّا يعبِّر عن تحدَّيه للحصار والعزل.

 في نوفيلا «منزل الذكريات» على سبيل المثال، طرح شُقير الشَّيخوخةَ كثيمَة أساسيَّة بنى عليها السَّرد، وتناولها من

الرِّوائي محمود شقير

أربعة جوانب رئيسيَّة: الفَقْد، الوحدة، الرَّغبة، والهواجس. وشيَّد في الخيال عالمًا يهرب إليه بطل النُّوفيلا، حيث ينتظره بطلَا روايتَي «منزل الجميلات النَّائمات» للرِّوائي اليابانيّ ياسوناري كواباتا، و«ذكريات عاهراتي الحزينات» التي كتبها غابريال غارسيا ماركيز وهو في التِّسعين من عمره، ويجعل منهما صديقَين يلجأ إليهما بطل النُّوفيلا، لينسج معهما حوارات وهميَّة، تساعده على النَّجاة من صراعات الحياة والشَّيخوخة والفقد.

  لا ينحصر أدب شُقير في تصنيف واحد، ويبدو واضحًا أنَّه يتجنّب الشِّعارات المباشرة والسَّرد الخطابيّ، ويركِّز بدلًا من ذلك على مخاطبة الوجدان، ورفض الظُّلم، ورفع قيمة الإنسان وكرامته؛ دون أن يغفل عن النَّقد الاجتماعيِّ الدَّاخليِّ، إذ يُسلِّط الضَّوء خلال السَّرد في أعماله على التَّخلُّف والصِّراعات الطَّبقيَّة والقيود الاجتماعيَّة داخل المجتمع الفلسطينيِّ نفسه، مما يثري أعماله ويجعلها أكثر مصداقيَّةً وإنسانيَّةً. وهكذا يجعل في أعماله من هموم النَّاس اليوميَّة ومعاناتهم تحت الاحتلال وتفاصيل حياتهم شكل من أشكال المقاومة.

  يُجسِّد الأدبُ الفلسطينيُّ، من خلال هذه النَّماذجِ الثَّلاثة، رؤيةً وجوديَّةً شاملةً تَتجاوز، دونَ أن تُلغي، إطارَ الصِّراع مع المحتلِّ. فالكُتَّاب الثَّلاثة، على تبايُن أجيالهم وبيئاتهم، يلتقون في نَزْعتهم الإنسانيَّة العميقة لاستكشاف الحياة في أبعادها كافَّةً.

 حيث ينحت «أبو جامع/ 1996»، بشعريَّته الصَّادمة والمُدهشة، جماليَّات جديدةً من ألم واقعه وحُطامه، مُحوِّلًا التَّفاصيل المُهمَلة إلى قصائد نثريَّة تحمل بصمتَه المميّزة. وتأتي «حليوى/ 1968» مِن عُمق التَّجربة النَّسويَّة البدويَّة لتكْشف، بلُغة سرديَّة فريدة، عن صراعات الهُويَّة والانتماء والمرأة داخل مجتمع يحبو بصعوبة نحو الحداثة. ويغوص «شُقير/ 1941» بحكمة مَن عاشَ طويلًا، في الأعماق النَّفسيَّة للإنسان الفلسطينيّ، مُستخدمًا أدوات السَّرد الواقعيِّ والفانتازيِّ لِيُعبِّرَ عن الهموم الحياتيَّة واليوميَّة في ظلِّ الظُّروف القاسية.

 وهكذا، يُقدِّم هؤلاء الكُتَّاب، بأجيالهم الثَّلاثة المُتعاقبة، دليلًا دامغًا على أنَّ الأدب الفلسطينيُّ هو أدبُ حياة بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى، يُوثِّق أحلام الإنسان، ومخاوفَه، ونظرته للجمال، وتوقَه إلى الحرِّيَّة والكرامة، مُؤكِّدين أنَّ الكتابة عن الحياة اليوميَّة هي، في جوهرها، أسمى ألوان التَّحدي والمُقاومة.