كم تبدو سورية قريبة للبنان ، ليست جارة الجغرافيا فحسب ، إنها في أحشاء جسد اللبنانيين و رسوم خيالهم و تفاصيل الذكريات . هذا القرب هو ما يمنع تظاهرة تأييد للشعب السوري و لسلامه الإجتماعي و لإصلاح نظامه الاقتصادي و السياسي .
و بيروت التي طالما تظاهرت تضامنا مع الشعوب العربية كما مع شعوب العالم ، تعجز عن تنظيم تظاهرة واحدة من أجل سورية، أما تلك التجمعات القليلة الهامشية التي تقلق السلطة اللبنانية و قواها الأمنية ، فتندرج في توظيف الاحتجاج على الحال السورية في الصراع الداخلي اللبناني ، و إن لم يعلنه المتظاهرون أو المنظمون.
خمسة عقود من التداخل بين سورية و لبنان تهدد بتحويل أي تظاهرة لبنانية حدثا سوريا داخليا، فلا يستطيع اللبناني الانحياز إلى سلامة سورية ومستقبلها من دون أن تنتابه شكوك علمته الأيام كم هي عمياء و مؤذية ، فكم من لبناني دفع غاليا ثمن الصراعات بين سورية و أطراف عربية و أجنبية على أرض لبنان، و لا يزال لبنانيون كثر يطالبون بكشف مصير أقارب يظنونهم أحياء أو أمواتا في سورية
ولا إثبات للان و لا جواب يقنع.
نتظاهر على الورق لدفع النظام السوري إلى موقف أكثر عقلانية و أقرب إلى العصر تجاه احتياجات مواطنيه و مطالبهم، و لدفع المحتجين السوريين إلى تبني معيار لتحركاتهم و مطالبهم ، فلا ينتهي سعيهم إلى العرقنة الحاملة صراعات ماضوية تفتك بالأبرياء ، و لا إلى اللبننية التي تؤدي إلى طريق مسدود يدفع إلى الهجرة.
نتظاهر على الورق من أجل سلام سورية ،ليسلم لبنان و العرب ، و ليكون تطور عقلاني و دائم يحفظنا من تمثال أخرس، نقلده بعدم الحركة ،حتى نموت طاعة و تخلفا.
و مرحلة البلقنة التي تؤدي اليها المجموعة الإسلامية الحاكمة في سورية اليوم ، تكاد تشكل التحدي الأول لسلام لبنان و وحدته ، ربما أكثر من التحدي الإسرائيلي الذي يضرب العرب المشرقيين و يضغط لتخطي الخريطة السياسية الحالية لدولهم، نحو ما يسميه “الإبراهيمية ” التي تعد المنطقة بسلام وفق المنظور الإسرائيلي وتعتبر تل أبيب قائدة للمنطقة و إن كانت غير معلنة رسميا.
و سوف ينتظر السوريون والعرب المهتمون بسورية وقتا طويلا قبل أن يخفف حكام دمشق من نظرتهم المتصلبة التي لا تتراجع عن حكم تعتبره إسلاميا على رغم كونه أداة غلبة لفئة من السوريون على سائر الفئات، هذا ما كانوا يشكون منه و يجددون الشكوى هذه الأيام و إن كانت الأدوار مقلوبة عما كان الوضع في عهد الدكتاتورية الأسدية أبا وابنا.
و تزداد الصورة السورية قتامة حين يختفي المثقفون في مجالات السياسة والأدب والاقتصاد والفنون الحديثة ، يختفون فكأنهم لم يوجدوا أصلا، أو أنهم يكتفون بكلام عمومي من منافيهم الأوروبية والأميركية والآسيوية ، كلام ينتمي إلى ماضي السؤال السوري المبسط لا الى حاضره المعقد الذي يحتاج الى نظرة معمقة و كاشفة في ان واحد.
اجلس على شرفة بيتي في مونتريال لأخاطب أصدقاء أحياء و راحلين وضعوا سورية في قلوبهم واكتفوا بدفئها من دون أن يدفعوها إلى تجاوز اسرها المتشابك :
أوجه كلامي الاشبه بالنجاوى
للاب يوسف و رعيته في السويد ، أبناء الجزيرة الحاملين حرفهم السرياني و مخطوطاتهم إلى بلاد الثلج الدائم. لفاضل يكمل هجرة اهله إلى فنزويلا فيعرج وحده صعودا إلى مونتريال حيث يقيم سورياه على الثلج ، لجاك يعقوب يترك طيفه في الجامعة اللبنانية دارسا العلوم السياسية و مغنيا لنهر الخابور في تظاهرات الحركة الطلابية ، لهالا و هيثم يمزجان العاطفة و العقل في صورة زاهية لسورياهما، سوريانا، و الصورة في باريس تخضع لجلسات <الراديو تيرابي> يقابلها اهتزاز في التلفزيون حيث ما يشبه بشرا يحتجون، للسجان اللطيف يؤدي عمله بالية ليحفظ دخيلته الإنسانية، و للسجان غير اللطيف يمارس العنف بلا سبب على بشر اوقعهم حظهم في بئر فاقدي الأمل، لهاني و قد بلغ سن التقاعد يمضي وقته في ساوباولو ما بين نادي زحلة و النادي الحمصي متصفحا مئات الجرائد و المجلات و الكتب التي أصدرها لبنانيين و سوريون في الاميركتين، يعيد قراءتها مؤكدا معنى حرية غابت عن أرضه الام، لتاريخ سورية العريق و تعليقاته في بيوت متباعدة ، تاريخ تطفر منه وجوه فلاسفة كتبوا باليونانية و اباطرة حكموا روما و شعراء امطروا بلاد العرب بكلامهم الذهبي ، لدمشق في قلوب أبناء هجروها و لم ينسوا ، لحلب و كنوز طريق الحرير و بيوتها و فنونها إذ رأيت قبسا منها في بنما عند جيران صديق زرته هناك.
ثمة إجماع على أن ثمار الدكتاتورية ضامرة و علامة هزال حضاري يعوض الحاكم عنه بالاستعراض و الصراخ و بتنظيم الجموع على وقع أناشيد الطاعة.
و الخروج من الدكتاتورية ليس سهلا ، هذا ما رأينا و نرى مجتمعات عربية تخرج من ظل الدكتاتور العالي إلى كهوف الصراعات الجانبية و تحطيم الذات.
انظر الى مصر ما بعد عبد الناصر و إلى العراق ما بعد صدام حسين و الان إلى سورية ما بعد الاسدين ، هذا الواقع المزري هو ما نراه في السجال السوري العصبي و الطارد للعقلانية.
للنظر إلى الصمت أو شبه الصمت الذي يحكم المثقفين السوريين ، كأنهم ينتظرون إشارة من السقف الذي يثبت حكم الجماعة .
و من ثم يعملون على نسج سردية أمينة لمعطى هذا السقف ، و إن كان مجرد تزيين. لدكتاتورية لا شك في تعريفها .
هنا لا بد أن نعترف ان الشاعر والمفكر ادونيس هو الأكثر حضورا في زمن الحيرة السورية و الغموض المسيطر على النخبة . و حين نقول ادونيس تعلو الأصوات المعارضة دون أن تقرأ ما يكتب و ينشر ، و يصل اعتراض هؤلاء إلى الحكم على سلالة المثقف لا على نتاجه،
لا جديد في المواقف المجانية المعادية لادونيس لكن المتابعين يجمعون على أن الرجل الذي قارب عمره المئة لا يزال يتمتع بحيوية الشباب و وعي الشيوخ في مزيج إبداعي ملفت.
ننبه هنا إلى كتاباته الجديدة عن الشأن السوري و حوله ، و هي حاضرة في منابر عدة و في وسائط متنوعة.
