عادات وتقاليد وطقوس تاريخية مقدسة توحد المغاربة
يعد شهر رمضان من أهم المناسبات الدينية والاجتماعية التي تجمع المغاربة وتوحدهم، له خصوصية حضارية وسلوكية تجسدها منظومة متكاملة من العادات والتقاليد المغربية في المأكل والملبس والمشرب الضاربة في القدم، والتي تعكس تقديس المغاربة لهذا الشهر، لدرجة تجعلهم يسمونه “سيدنا رمضان”، ويستعدون لاستقباله كل سنة منذ

منتصف شهر شعبان بهالة من القداسة ومظاهر تعبدية وسلوكيات اجتماعية واقتصادية مخصوصة، قد تمتد إلى ما بعد عيد الفطر مع صوم أيام معدودات من شهر شوال، كل ذلك في تمازج رفيع بين الأصالة والمعاصرة وبما يصل ماضي هذا البلد العريق بحاضره.
فإذا كانت أغلب الشعوب الإسلامية تعتبر أن الصلاة هي أهم شعيرة دينية وأكثر أركان الإسلام أهمية، فإن المغاربة يقدسون فريضة الصوم أكثر من غيرها من الفرائض، كما يرى مجموعة من الدارسين لتاريخ المغرب، والذين يوثقون أن سلاطين المغرب كانوا يولون هذا الشهر أهمية خاصة لما له من بعد روحي ودعوي، ويخصونه بمجموعة من الدروس الدينية ومظاهر البر والإحسان، وهو ما مازال متواصلا إلى الآن مع الدروس الحسنية الرمضانية التي يترأسها العاهل المغربي، و “موائد الرحمان” والمساعدات المعروفة بـ “قفة رمضان” التي تقدم للأسر المحتاجة، كما يستحثون الهمم من أجل الجهاد والفتوحات الإسلامية، حيث يسجل التاريخ، كما يقول المؤرخ المغربي الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش، تكثيفا لعمليات الجهاد في رمضان في العصر الأموي وغيره من

العصور، ويعزو ذلك إلى قدسية شهر رمضان، التي “تشكل حافزا للبسالة والاستشهاد وتحقيق النصر، وتزيد من تماسك الحاكم بالمحكوم، وتذيب التناقضات الداخلية”، مشيرا إلى أن “مشروع فتح الأندلس كحدث مدوي في تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب أنجز في شهر رمضان أيضا”.
رمضان والوجدان الجمعي
ومن الشواهد أيضا على أهمية رمضان في المغرب، كما يقول يوسف المساتي الباحث في التاريخ والتراث لمجلة “الحصاد”، هو أن “الحكام في المغرب منذ الفترات الإسلامية المبكرة كانوا يولون اهتماما خاصا لتنظيم هذا الشهر، سواء من خلال ضبط الأسواق والأسعار، أو من خلال توفير الأمن في الفضاءات العامة، كما أن السلطات الاستعمارية الفرنسية أدركت منذ البداية حساسية هذا الشهر بالنسبة للمغاربة، وخطورة أي تصرف يمكن أن يفهم على أنه انتهاك لحرمته، ولهذا سارع الماريشال ليوطي إلى إقرار قانون يجرم الإفطار العلني في رمضان، وهو قانون لا يزال ساري المفعول حتى اليوم، وذلك خوفا من أي اعتداء على القيم الدينية للمغاربة الذي قد يثير موجات احتجاجية تهدد الوجود الفرنسي في المغرب”.
ويؤكد المساتي أن شهر رمضان في المغرب له مكانة استثنائية في الوجدان الجمعي للمغاربة ترتبط بالتوقير والتبجيل، ويمكن تفسير تلك المكانة، برأيه، من عدة زوايا، لعل أبرزها أن الصيام، رغم كونه عبادة فردية، إلا أنه في شهر رمضان، يخلق حالة جماعية موحدة، تتجلى في تزامن مواعيد الأكل والعمل، وفي الطقوس والعادات اليومية التي تميز هذا

الشهر عن باقي السنة، هذا التوحد الاجتماعي ربما هو ما جعل رمضان يتخذ طابعا قدسيا في المخيال المغربي، ليس فقط من الناحية الدينية، ولكن أيضا من الناحية الثقافية والهوياتية.
أطباق رمضانية أصيلة
تتنوع طقوس وعادات الاحتفاء بشهر رمضان، أو ما يصطلح عليه في المغرب بـ “العواشر”، وتبدأ منذ منتصف شهر شعبان، حيث يتم تنظيف البيوت والمساجد، ويتم اقتناء أوان جديدة لتزيين مائدة الإفطار، مثلما يتم شراء كل مستلزمات الشهر من مواد غذائية يتم الإقبال عليها بشكل كبير في رمضان كالتمور والمواد التي تدخل في إعداد الكثير من المأكولات والحلويات الخاصة بهذا الشهر الفضيل كـحلوى الشباكية ذات الأصول الأندلسية (تحضر بالدقيق والعسل والسمسم وماء الزهر ومواد أخرى)، والبريوات المعسلة )تحضر باللوز والعسل(، وحساء الحريرة (يتكون من طماطم وحمص وعدس وقطع لحم وبقدونس وقزبرة وبصل) الشهير في المغرب والأكثر حضورا في مائدة الإفطار المغربية طيلة شهر رمضان، والذي يعود إلى الفترة الموحدية (القرن 12م)، حيث كانت تحضر بمكونات شبيهة بالمكونات الحالية باستثناء الطماطم التي لم تكن معروفة في المنطقة إلا بعد القرن 16م. إضافة إلى أنواع أخرى من الحساء والحلويات

والمملحات من “بريوات” و”بسطيلات” وفطائر كـ “المسمن” و”بغرير” و”رزة القاضي”.
ويظل “سلو” أو “السفوف” هو الحلوى المفضلة للجلسات العائلية في رمضان، والتي لا يخلو أي بيت منها، حيث يرفق سلو مع الشاي المغربي بالأعشاب. وتتكون هذه الحلوى من طحين محمص ولوز وجوز وسمسم وشمر ومواد أخرى، ويعود أصلها إلى قبيلة لمتونة الصنهاجية الأمازيغية، ويصف الجغرافي الشريف الإدريسي الذي عاش في القرن 12 في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، هذه الأكلة الأمازيغية العجيبة وصفا دقيقا ويشير إلى أنها مغذية، وأن “كفا منها مع اللبن يغني المرء عن الطعام مدة يوم كامل”.
أما التمر، الذي لا تخلو الموائد الرمضانية المغربية منه، فهو كما يقول يوسف المساتي، أحد أقدم الأطعمة التي ارتبطت بالنظام الغذائي للمغاربة، فقد كان يستهلك منذ العصر القديم، خاصة بين الرحل والفلاحين، نظرا لقيمته الغذائية العالية، وفي السياق الرمضاني أصبح عنصرا ثابتا في العادات الغذائية الرمضانية.
إقبال على الزي التقليدي
وإلى جانب الأكل الخاص بشهر رمضان، يحرص المغاربة على ارتداء الملابس التقليدية رجالا ونساء وأطفالا في البيوت وأثناء الزيارات العائلية أو خارج المنزل عند الذهاب إلى المساجد لأداء الصلوات خاصة صلاة التراويح، وذلك لما يتميز به اللباس التقليدي من حشمة ووقار ونخوة وفخامة حتى في بساطته.
وهو ما ينشط الأسواق المغربية ويجعلها تشهد حركة غير معهودة، كما يزداد الإقبال على الصناع التقليديين ومصممي الملابس التقليدية، الذين أصبحوا يتفننون في اللباس المغربي التقليدي من “قفطان وجلابة وجابدور” ويمزجون فيه بين الأصالة والمعاصرة لتلبية رغبات جميع الأذواق.
إن الإقبال المتزايد في هذا الشهر على ارتداء اللباس التقليدي المغربي يعكس حضور الهوية الثقافية في هذه المناسبة الدينية. ومن المثير للاهتمام، حسب الباحث المساتي، أن هذا “الميل إلى التمسك باللباس التقليدي تعزز بشكل واضح خلال فترة الاستعمار، حيث تحول إلى رمز للمقاومة، إذ أطلق المغاربة حملات مقاطعة اقتصادية للبضائع الفرنسية، وكان ارتداء الزي التقليدي شكلا من أشكال هذه المقاومة، وإعلانا عن الانتماء الجماعي إلى الهوية المغربية الإسلامية، ومن الطبيعي أن يتعزز الإعلان عن الهوية الجماعية خلال المناسبات الدينية”.
تدريب الأطفال على الصيام
ومن العادات التي لا تزال حاضرة بقوة في المغرب إلى اليوم، كما يقول المساتي، هي تدريب الأطفال على الصيام عبر طقس يعرف بـ “التخياط”، حيث يشجع الطفل على صيام نصف يوم فقط في البداية، ثم يزيد تدريجيا حتى يتمكن من

صيام يوم كامل، وعندما يصل الطفل إلى سن يمكنه فيه الصيام دون مشقة، يحتفى به في ليلة السابع والعشرين من رمضان، حيث يرتدي لباسا تقليديا، وتقام له مائدة إفطار مميزة، وإذا كانت فتاة تزين بالحناء وغيرها من الطقوس الاحتفالية التي ترافق ليلة السابع والعشرين من رمضان.
إن هذا التقليد يمكن اعتباره حسب الباحث في التاريخ “طقس عبور رمزي، يشبه ما تعرفه بعض المجتمعات التقليدية عند انتقال الطفل من مرحلة عمرية إلى أخرى، فهو ليس مجرد تدريب جسدي على الصيام، بل هو أيضا إعلان اجتماعي عن انتقال الطفل إلى مستوى جديد من المسؤولية الدينية”.
الاحتفاء بليلة القدر
وتبلغ ذروة الاحتفاء في رمضان في ليلة السابع والعشرين من رمضان التي يعتبرها المغاربة ليلة القدر، فيقضون معظم الليل في الصلاة في المساجد، وتحرص النساء على تعطير بيوتهن بالعود وأزكى العطور، وإعداد ألذ الأطباق والمأكولات كالكسكس، الذي يقدم للمصلين في المساجد أو في التجمعات العائلية، التي يحرص عليها المغاربة في هذا الشهر. وإحياء ليلة القدر في المساجد هي عادة لم تتغير عبر التاريخ، حيث يختم القرآن في صلاة التراويح، إضافة إلى القراءة الجماعية للقرآن، وتخصص بعض القرى فضاءات لنحر الذبائح وتوزيعها على المحتاجين، تجسيدا لروح التكافل في هذا الشهر الفضيل.
عيد الفطر أو العيد الصغير
ومع اقتراب عيد الفطر أو “العيد الصغير” كما يحلو للمغاربة تسميته لأن العيد الكبير هو عيد الأضحى، تعكف الأسر المغربية على إعداد أشكال متنوعة من الحلويات التقليدية والعصرية لتزين بها موائدها في الإفطار، إلى جانب أنواع معينة من الفطائر كـ “الرغيفة بالعسل” الخاصة بعيد الفطر، كما تعرض المحال التجارية كل الحلويات التي تختلف أسعارها حسب مكوناتها.
وبعد إخراج الزكاة في الأيام الأخيرة لرمضان، تهتم الأسر المغربية باقتناء كسوة العيد لكل أفراد العائلة وخاصة الأطفال، الذين لا يمكن إلا يرتدوا الجديد من الملابس التقليدية والعصرية في يوم العيد، كما أن الجمعيات الخيرية المدنية تجتهد أيضا لتوفير كسوة العيد للأسر المعوزة وفي المناطق النائية، من باب التضامن والتكافل الاجتماعي الذي يحث عليه ديننا الحنيف، والذي يتميز به شهر رمضان وأيام عيد الفطر في المغرب.
ورغم محافظة المغاربة على العديد من تقاليدهم الرمضانية المتواصلة إلى غاية عيد الفطر وشهر شوال، إلا أن بعض التغيرات طرأت على نمط الاحتفال بهذا الشهر عبر الزمن، بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية، من أبرزها، كما يقول المساتي، التحول من نمط يقوم على الاستهلاك البسيط الذي يضمن الحاجيات الغذائية والصحية إلى نمط استهلاكي يتميز بنوع من “البذخ” في الإنفاق على الطعام والشراب، وهو ما غير بعض العادات القديمة. كما أن غلاء المعيشة وارتفاع أثمنة الكثير من المواد الاستهلاكية، ساهم في تقليص الكثير من التجمعات العائلية المعروفة في هذا الشهر، ومن الإسراف في الأكل واللباس، تماشيا مع مجموعة من الحملات التحسيسية والتوعوية المطالبة بترشيد النفقات في هذا الشهر وعقلنة الاستهلاك.
*إعلامية وكاتبة من المغرب