عالم الآثار السعودي سعيد ظافر لـ”الحصاد”: الأعمال التنقيبية تحمل في طيّاتها المدلولين الحسّي والفلسفي لفهم طبيعة حياة الإنسان القديم
من منطلق شغفه بكنوز المملكة العربية السعودية الحضارية، يروي عالم الآثار السعودي سعيد ظافر حكايات العصور القديمة ويوجّه البوصلة نحو مواقع المملكة الأثرية الأكثر دهشةً، التي تتوارى بينها العجائب.

الطموح، العزيمة وحب الاسكتشاف صفات عالم الآثار السعودي الفنان سعيد ظافر. بات مثالاً يُحتذى به جراء خبرته في مجال الفنون القديمة والآثار وحنكته المعهودة في استقراء حياة القدماء واستنباط طرق تفكيرهم وعيشهم.
عشرون عاماً من العمل الدؤوب والكفاح المتواصل، سعى مقدّم برنامج “جذور” الوثائقي، خلالها للكشف عن كنوز المملكة التاريخية، ويقول عن ذلك: “حضارة شبه الجزيرة العربية متشعّبة ومشوّقة حدّ الدهشة. في المملكة، كلّما رفعت حجراً تجد أثراً، عبارة أردّدها دائماً خلال رحلاتي التنقيبية. ساحرةٌ، هذه الأرض الطيبة بكنوزها، قصصها ومغامرات من سكنوها قديماً”.
البدايات
الدافع الميداني للبحث عن القطع الأثرية يتصل بالأطر الفنية التي تميّز بها الإنسان القديم الذي عاش على أرض شبه الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، يعود هذا الاتصال إلى عمق التاريخ والموروث الحضاري الذي يزداد زخماً يوماً بعد يوم، حتى باتت السعودية من البلدان الرائدة في مجال الإنجازات الأثرية والسياحية في العالم. ومنذ انطلاقة مسيرته كثّف سعيد، المتخصّص في مجال الفنون القديمة، طاقته للكشف عن اقتران النقوش والقطع الأثرية بالجانب الفني لدى الإنسان القديم، يبوح عن ذلك قائلاً: “إن نظرنا عن كثب إلى عصور ما قبل التاريخ نجد أن الإنسان وثّق حضوره بالفنّ، ترك لنا إرثاً كبيراً استطعنا من خلاله استنباط فكره وحالته التي عاشها. ونستكشف من آثار المملكة تنوّعها دلالةً على انفتاح هذه الشعوب على أقطار العالم”.
إلى جانب نشأته وسط عائلة متعطّشة للفنون والتشكيل، تركت مظاهر الفنون في مسقط رأسه أبها كالقطّ العسيري والبيوت القديمة والأزياء التقليدية أثراً رئيساً في دخول سعيد لدراسة الآثار والفنون القديمة، إضافةً إلى الدعم الذي تلقاه من عائلته، فوالده متذوّق للفنون بأشكاله وأخيه الفنان عبدالله الأحمري، الذي يدير وإياه غاليري آرت فيجن

بالرياض، ترك بصمة فنية في نفس سعيد، يشير إلى ذلك قائلاً: “أذكر جيداً حين أنشأ لنا والدي غاليري للرسم داخل المنزل، وفّر لنا الألوان والأوراق والكانفوس، وعرض أعمالنا على أصدقائه المهتمين بالفنون. فيما يخصّ التعمّق في هذا المجال فأخي عبدالله شغوف في قراءة كتب المدارس الفنيّة والبحث العلمي، كان له دوراً أساسياً في حياتي الثقافية والفنية وتوجّهي”.
علقت مشاهد البيوت القديمة في أبها ونقوش جدرانها بذاكرة سعيد، ويشير إلى ذلك بالقول: “الإنسان القديم في الجزيرة العربية، قبل أكثر من 17000 سنة من الآن، حاول نقل صورته التاريخية عبر الرسوم والنقوش. جذبتني الموارد الأثرية في مدينة أبها التي تعرّفت عليها ورأيتها في صغري، لمعرفة تفاصيل أكثر عن فكر هذا الإنسان القديم لذلك توجّهت إلى دراسة الآثار والفنون القديمة”.
الفنون الصخريّة في شبه الجزيرة العربية لها دلالة جمّة على ما وصل إليه الإنسان القديم الذي عاش على هذه الأرض، فهذا النتاج الفني له طابع تعبيري، ويحاول سعيد جاهداً عبر أبحاثه واستكشافاته أن يثبت للعالم المنظور التشكيلي الفني الذي اعتمده القدماء في شبه الجزيرة العربية، قبل 10000 سنة.
“وجدت مظاهر المدرسة الفنية التكعيبية بنقوش الجبال الصخرية بالمملكة، ما يُثبت أن الإنسان العربي القديم قد أنجز وطوّر مفهوم الرسم على الصخور”، يقول سعيد.
القطّ العسيريّ… عمق تاريخي
“أكثر ما لفت نظري في كنوز المملكة الأثرية أنها سلسلة مترابطة بجميع تفاصيلها، فمنذ ما يقارب 7 أو 8 سنوات، أعمل على مشروع القطّ العسيري كعمق حضاري وثقافي، خلال بحثي عن أسرار ألوان القطّ العسيري وتشكيلاته وجدت أنه

يرجع إلى أكثر من 3 آلاف سنة من الآن، ورمزيّاته مختارة بدقة وعناية من الإنسان العربي القديم، ليست من عبث، وهذه المرحلة التي وصلتنا هي مرحلته النهائيّة التي تنبثق من التجريدية البحتة، والدليل على ذلك، الكهوف الملوّنة الموجودة في منطقة جازان التي تضمّ اللون الأحمر حيث استخدم أوكسيد الحديد لإنتاجه، بالإضافة إلى اللونين الأزرق والأخضر حصلوا عليهما من البيئة حولهم”.
تحمل دراسة الآثار في طيّاتها، بحسب سعيد، نظريتين الأولى حسيّة، والثانية فلسفية لفهم طبيعة حياة الإنسان القديم وقتذاك.
“جذور”… بوابة الحضارة العربيّة
يقوم سعيد، بتقديم برنامج “جذور” الوثائقي الذي يُعرض على القناة الأولى بموسمه الأول ومنصة شاهد، حيث يتطرّق في كل حلقة إلى قصة الإنسان قديماً في المملكة العربية السعودية قبل 7000 سنة ويفصّل الشواهد الحضارية للعصور القديمة، وعن هذا العمل يقول سعيد: “جذور هو نتاج عمل متواصل وجاء تلبية لأمنية ابني طلال. ففي عام 2004، كنت أتابع حلقة من برنامج وثائقي عن أحد المعابد في مصر، فناظرني ابني طلال وقال لي: والدي، لمَ لست معهم، ألست عالماً للآثار؟ فأجبته: نعم أنا كذلك، ويوماً ما، ستشاهدني على التلفاز بوثائقي عن الآثار. من هنا، جاء “جذور” تلبية لأمنية ابني طلال، إضافةً إلى كونه حصيلة الكرم والعطاء الذي جاد بها وطني عليّ”.
يرى سعيد العمل أبعد عن كونه وثائقياً يعرض حضارات الشعوب العربية القديمة، ويدرجه على قائمة أعمال المملكة الثرية، ويعلّق على ذلك بالقول: “كنت أصحو كل صباح، وكلّما اتصلت بتراب وطني الغالي، كنت أتمنى دوماً أن يرى العالم ويشهد القيمة الحضارية الموجودة لدينا، فقد حان الوقت كي نفتخر بكنوز مملكتنا وثقافتنا وننشرها في كل الأرجاء”.
“جذور” من إخراج عبدالرحمن صندقجي، وإنتاج محمد التركي.
من الميدان الأثري
عام 2018 على مدار 71 يوماً، خاض سعيد رحلة تنقيبية لاكتشاف المستطيلات الموجودة في الصحراء الواقعة ما بين مدينة حائل والعلا، برفقة زملائه عالمة العظام الفرنسية لوسي وعالم الآثار وائل أبو عزيزة فرنسي من أصول أردنية،

استطاعوا خلالها الكشف عن بقايا عظام تعود لأنواع حيوانات منقرضة وهياكل عظمية بشرية، ويقول عن هذه التجربة: “لمدة 71 يوماً خيّمنا في البرّ بجانب الطبقات الأثرية، عشنا خلالها لحظات جميلة ومشاعر مختلطة بين القلق والفرح. كنت سعيداً جداً بهذا الاستكشاف لكونه ظهر لأول مرة إلى العالم”.
“المسطرينة” الأداة الأهم بالنسبة لسعيد التي ترافقه في جميع رحلات التنقيب، يقول عنها: “لا أستغني عن المسطرينة في المواقع الأثرية، هي رفيقة دربي منذ التحاقي في مجال الآثار قبل 20 عاماً. تُعدّ مفتاح الإنجاز والطموح بالنسبة لمشواري العلمي ولا زالت تعطيني الكثير رغم قدمها، لكنني أستأنس بوجودها معي”.
وعن سؤاله عن أي موقع أثري يتوق لاكتشافه، يجيب: “كلّما بلغ عالم الآثار مراحل متقدّمة من الاسكتشافات الأثرية زاده ذلك طموحاً لمعرفة المزيد. ولعلّ الفضول لمعرفة الأسرار هو سرّ بقاء عالم الآثار ونجاحه. وللإجابة عن سؤالك بشكل أدقّ، فأرغب بالتعرف على تفاصيل الآثار غير المادية للممالك العربية القديمة من حياتهم إلى سياساتهم وكذلك دياناتهم وتجاراتهم”.
وفي نهاية حديثنا معه توجّه سعيد لطلاب علم الآثار قائلاً: “عليكم تطوير مدارك الفهم لطرق تحليل الأشياء ومقارنتها، من خلال متابعة تفاصيل الأبحاث الخاصة بالآثار ونتائجها إن في المواقع الأثرية السعودية أو الخاصة بالحضارات المجاورة للجزيرة”.
موقعان أثريان ينصح بزيارتهما: موقع الفاو في محافظة وادي الدواسر، موقع دادان بالعلا.

موقع أثري يتوق لاستكشافه خارج المملكة: مراسي السفن العربية في الهند.
من أهم صفات عالم الآثار الناجح بحسب اعتقاده: الصبر والطموح.
مدير الأبحاث في الهيئة الملكية لمحافظة العلا.