عن كتابٍ يمشي الموتُ والقهرُ بين دَفتيه

 من أرض فلسطين الولّادة للمقاومة والحقّ والثبات، تجمع الشاعرة والمُترجمة الفلسطينيّة «ريم غنايم» سبعة عشر شهادة حيّة لمبدعات ومُبدعين غزّاويين، كتبوها بعد أحداث سبعة أكتوبر، لتُقدّم بذلك كتابًا صغيرًا بحجمه، وكبيرًا بأوجاعه «كتابُ الوصايا» الصادر عن (مرفأ للثقافة والنشر/ 2024)، رأت فيه غنايم أنّه: «وثيقة للتاريخ والأدب… بيان التفكير في عصر التدمير، تَفكير يُترجَم إلى كلمات تُبرهن أنّ الكتابة تتمدّد بقوّة البازلت في كلّ اتّجاه».

 تُهدي غنايم الكتاب لروح الأُم والفنانة التشكيليّة «هبة زقّوت»، التي استُشهدت مع طفلها إثر القصف الإسرائيلي الوحشي لغزّة عقب أحداث سبعة أكتوبر. تنتقي غنايم مجموعة من لوحات زقّوت، كإشارة لأنّ الفلسطيني يُضيف للمشهد الإبداعي ما استطاع إليه سبيلاً، قبل أن يمضي إلى الموت فداءً لتمسكّه بالأرض.

 تختار غنايم للكتاب مقدّمة ثُنائيّة، بقلم كلّ من: الأديب الكندي-الأرجنتيني «ألبرتو مانغويل»، وأستاذة البلاغة والأدب المُقارن الفيلسوفة الأمريكيّة «جوديث بتلر».

 يُعنّون مانغويل مُشاركته «بيانٌ ضدّ الموت»، ويصف فيها الكتاب قائلاً: «كتاب الوصايا هو مختارات لأصوات قادمة من اليباب، أصوات سكّان غزّة اليوم… لكنّ الوصايا برّمتها جوهريّة في مواجهة سؤال: ما الذي يجعلنا بشراً؟». وتكمن أهميّة مشاركته، كونه معروف عالميّاً بدعمه لقضية الشعب الفلسطيني، وهو من ربطته صداقة قديمة بصوت فلسطين وابنها «محمود درويش»، وقد دعا لتأسيس مكتبة فلسطينيّة إلكترونيّة تحفظ إرث الفلسطينيّين الثقافي، وتحمل رسالة واضحة للعالم بأنّ الفلسطينيّ حاضرٌ وباقٍ حتّى بعد الموت.

 بينما تعنوّن بتلر المُناصرة للقضية الفلسطينيّة، والداعمة لحركات مقاطعة إسرائيل، مُشاركتَها «بين الأحياء والأموات»، وتستهلّها بعدّة استفهامات استنكاريّة عن جدوى هذه الوصايا، ومدى فاعليتها في حثّ العالم على التحرّك، في زمن يُخيّم عليه صمتُ الفعل المُطبَق، دون أيّ رادع للهمجيّة الإسرائيليّة. ثُمّ تنتقل من صيغة الاستفهام الاستنكاري إلى صيغة الشعور، لتؤكّد أنّ هذه الوصايا بما تكتنزه من استغاثة، مُزلّزلةٌ لِمَ بقي في ضمير الإنسانيّة. ثُمّ تعود لصيغة الاستفهام، وكأنّ في ذلك إشارة لاستحالة فهم صمت العالم أمام المجازر اليوميّة في غزّة: «ما هي الوصيّة الأخيرة؟ إنّها آخر ما تبقّى من رغبة وأمل. ما هي الشهادة؟ إنّها تمنحنا شذرات من حياة لا تزال على قيد الحياة، بينما تسبر غور مستقبل حياة لم تعد على قيد الحياة. تسأل الوصيّة عمّا تبقّى من الرغبة في مواجهة هذه الوحشية، هذا الدمار الشامل…».

 تبدأ الوصيّة الأولى مع القاصّ والروائي «يسري الغول»، ويحدّثنا فيها عن وصيّة رجل حالم، اعتقد أنّه سيكتبها لزوجته وأبنائه بقلم أزرق جاف، بينما يسمع أم كلثوم، وذلك قبل أن تنتشر رائحة الحرب، وتقتل جيرانه، وتُشرّده وعائلته في نزوح مُستمر، فلا يبقى له ملاذاً تحت تأثير قهره ومآسيه سوى الخيال. لذلك تنقلب وصيّته إلى أمنية، بأن يتحوّل أحَدُ الغارقين في الخيال مثله، إلى زمّار يقود أطفال غزّة إلى مغارة لا موت فيها.

 تأتي الوصية الثانية على شكل قصيدة للشاعر «رفعت العرعير» الذي استُشهد وعائلته في السادس من ديسمبر 2023، بقصف اسرائيليّ لمنزل شقيقته شمال غزّة. وكأنّه بقصيدته هذه يهوّن على نفسه فكرة الموت، مُتقبّلاً حتميته، وجُلّ ما يطلبه ممن سيبقى، أن يروي حكايته لأجيال قادمة استعاض عنها في قصيدته بطفل يتأمّل السماء، منتظراً والده الشهيد، ثُمّ يختتمها بأمل كامن في تناقل الأجيال لحكايةٍ هي حتماً فلسطين:

«إذا كان الموتُ لزاماً عليّ

 لا بدّ وأن تحيوا أنتم

لترووا حكايتي

لتبيعوا أغراضي

لتقتنوا قطعة من الملابس

وبعض الخيوط

لتكن بيضاء ذيلها طويل

حتّى يرى طفلٌ، في مكانٍ ما في غزّة

وهو يتأمّل السماء

ينتظر والده الذي رحل في انفجار

ولم يودّ أحداً، ولا حتّى لحمه، ولا حتّى نفسه

يرى طائرةً ورقية، أنتم من صنعها، تُحلّق عالياً

ويحسبُ للحظةٍ أنّ ثمّة ملاكاً هناك يردُّ الحبّ

إذا كان الموتُ لزاماً عليّ

فليأتي بأملٍ

وليأتي بحكاية».

أمّا القاصة الشابّة «ليان أسامة أبو القمصان» الحاصلة على جائزة أفضل قصّة عن الأسرى (2022)، تُخبرنا أنّه لا أمل للفلسطينيّ بالنجاة. ففي السلم حين كانت نظرتها تشاؤميّة للحياة، ومتقبّلة فكرة الموت كمصير حتمي لجميع البشر، كان والدها الطبيب يُخبرها وأخوتها أنّه لن يمسّهم سوء ما دام معهم. لكن عندما بدأت الحرب، وخرج والدها ليجلب خافض حرارة وبضع المضادات الحيوية بسبب نزلة برد أصابتها، لم يعُد، في حين تلاشت أجساد أخوتها ووالدتها أمام عينيها، وتختم كلامها بالقول: «أعود إلى يقيني الأوّل أنّ لا أمل لنا بالنجاة، لكن الآن، لا عائلة لديّ، ولا والد طبيب كذّاب يُقنعني بعكس ذلك».

تتوالى وصايا أبناء غزّة، بمختلف أعمارهم، نساءً ورجالاً، أطفالاً وشباباً، التي تكتنز جميعها بالقهر والموت، والأمل الخجول المُتعب بأن فلسطين ستبقى لأهلها؛ لنصل إلى وصيّة الكاتب «سليم نفّار»، التي يوصي فيها أبناءه بالبراءة من العرب، فهُم بصَمتهم شركاء في إبادة يتعرّض لها أهل غزّة. لكن لم تُكتب لأبنائه الحياة، إذ استُشهد نفّار وعائلته بعد شهرين تماماً من سبعة أكتوبر في قصف جوي إسرائيلي. لتبقى وصيته بذلك بعد استشهادهم جميعاً، وصمة في التاريخ الحديث!

 أمّا أستاذ النقد العربي الشاعر يوسف القدرة، يكتب وصيته المُشبعة بالأمل بالإنسان الفلسطينيّ القادر على إعادة الخلق والحياة، وليس بهذا العالم النَّفعي والأعمى. ويتوجّه من خلالها بكلامه للفلسطيني دون غيره، ويُحمّلُه إيّاها، إيماناً منه بأنّ الأرض ستبقى لأهلها، ولو بعد حين: «من بقيَ منكم حيّاً، فالحياة أولى به، عليه إعمار ما تهدّم، وإنجاب حيوات جديدة في ابتسامات أطفال ستشرق لهم شمس المودة والرحمة، وأعلم أنني سأُشرق بين الابتسامات طفلاً يعضُّ على الحياة كأنّها الأبد».

 ترد وصية شعريّة أُخرى في الكتاب بقلم ابن غزّة، الشاعر والكاتب مصعب أبو توهة. يكتب أبو توهة الشعر باللغتين العربية والإنكليزية، جاعلاً من صوتَه عابراً للحدود، وحاملاً فلسطين على ظهر كلماته، ليسمع ويقرأ العالم بأسره عن شعب بأرضٍ وتاريخ، يرفض الاستسلام، ويسعى للاستمرار، بكلّ ما أُتيح له من فعل وقول. وإيماناً بذلك أسّس أبو توهة مكتبة عامة في غزّة عام 2017 «مكتبة ادوارد سعيد»، ونال عدّة جوائز عن كتابه الشعري الصادر باللغة الإنكليزية «أشياء قد تجدها مُخبأة في أذني»، وتابع عام 2024 في سعيه ومقاومته عبر الكلمة من خلال إصداره مجموعته «تستريح الأرضُ من كلامنا». ومما ورد في وصيته الشعريّة، التي ترجمتها عن الإنكليزية غنايم:
«إن كنتُ سأموت

فليكن موتاً نظيفاً

لا رُكام فوق رفاتي

لا جروح في رأسي أو صدري

أبقوا سُتراتي وسراويلي حديثة الكَيّ

فقد أرتدي بعضًا منها بعد أن تمرّ جنازتي

لا تؤذوا أطفالي
فلا تزال العديد من كُتب الشعر لتُقرأ

المزيد من الحكايات الخرافية

والقصائد الجديدة لتُكتب

الكثير مما قد عشناه»

 تأتي واحدة من الوصايا، على لسان الطفلة «ميّار الجزّار» البالغة اثني عشر عاماً، لتكون وصمة عار على جبين الإنسانيّة في هذا العصر. فالمعروف أنّ الوصيّة تُكتب قبل الموت، وليس قبل الذهاب إلى المدرسة. إذن كم يبلغ هول المفارقة ونحن نقرأ وصيّة طفلة، تُحدّثنا قبل أن تكتبها، عن كيف كانت تتجهّز للذهاب إلى المدرسة حين بدأت أوّل أيّام الحرب، ثمّ الجحيم الذي تلا هذه الحرب، لتكون وصيّتها: «لذا حين يُقصف بيتنا لا أريد أن يبحث عنّي أحد إذا مات أخوتي وأمّي. أريد أن أبقى معهم في الحياة والموت. وإذا فقدت أحد أطرافي سأبقى أبحث عنه، لأضعه تحت رأسي، حتّى أموت كلّي ولا يبقى جزءٌ منّي يتحسّر».

 «كتابُ الوصايا» كتابٌ يمشي الموتُ والقهرُ بين دَفتيه، تتعالى فيه صرخاتُ الظّلم والاستغاثة لشهود عيان، استشهد بعضم، ونجا أقلّهم من بطش نازيّي العصر الصهيونيّ. علّ هذه الوصايا تبقى كوثائق أدبية تاريخية، تُنقل للأجيال القادمة بأمانة، لتدحض أي محاولة لتزوير الحقائق، وتشويها.