لا تشبه اسرائيل أي من الكولونياليات التي مرت عبر التاريخ بل هي خليط منها مع فاشية تطهيرية مع إبادة جماعية بمعنى أنها تمكنت من جمع أسوأ ما حدث في التاريخ لتقدمه على شكل سلوك دولة أمعنت في ارتكاب ما لم يكن يتصوره الفلسطيني في أسوأ كوابيسه التي كان أكبرها أن يحدث له كل هذا ويمتد لعشرين شهراً ولا يحرك العالم ساكناً بل يشكل في أحد جوانبه غطاء للإسرائيلي فيما يفعله .
منذ مطلع الحرب كانت السياسة الإسرائيلية تعبر عن نفسها في محاولة لإستدراك ما لم تفعله سابقاً في غزة منذ إقامتها بطرد سكانها وجعلها صحراء خالية من الحياة أو منطقة عازلة وهو ما رأته كفرصة توفرت بعد السابع من أكتوبر لا يجب أن تتركها تفلت من جديد مستغلة تعاطفاً دولياً وصل ذروته مطلع الحرب واستمر داعماً بالصمت عن الجرائم .
” لا حماسستان ولا فتحستان “هذا الشعار الذي رفعه بنيامين نتنياهو في الأيام الأولى للإبادة أي لا حكم لحركة حماس ولا حركة فتح وهي التي تمثل المنافس الوطني للحركة الإسلامية فقد طردت حماس منافستها فتح وأنهت حكمها لقطاع غزة عام 2007 وحكمته منفردة فقد كان هناك اعتقاد أن اسرائيل فيما لو تمكنت من اسقاط حركة حماس سيكون الحكم تلقائياً لحركة فتح وهو اعتقاد يستند لإتفاقيات ثنائية بين السلطة التي تقودها فتح واسرائيل وهي اتفاقية أوسلو التي قضت بإنشاء سلطة لكن تل أبيب فاجأت الجميع وربما لم تكن تلك مفاجأة للفلسطينيين الذين عاشوا النشوة الإسرائيلية بالإنقسام الفلسطيني عندما تم طرد السلطة من غزة وأصبح للفلسطينيين نظامي حكم واحد في القطاع والآخر في الضفة حكمان متصارعان متباعدان أديا إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني الذي تعرض لحالة استقطاب شديدة في الصراع الداخلي الفلسطيني .
في حالة غزة بالنسبة لنتنياهو بعد هذه الحرب هو أن تتساوى حركتي فتح وحماس لسبب بسيط هو أن حركة فتح ستشكل حالة حكم تؤدي إلى حالة استقرار تنتهي فيها الفوضى وربما تساعد كجهة معترف بها في إعادة الإعمار وهو ما يتعارض تماماً مع مشروع المؤسسة الإسرائيلية وتفكيرها بطرد سكان القطاع وإفراغه من البشر وهو ما كان مجرد تقدريرات وتخمين في بداية الحرب لكنه أصبح مشروعاً معلناً بعد أن نجح بنيامين نتنياهو في تحميله للرئيس الأميركي ليصبح مشروعاً أميركياً أو ليظهر كذلك لكن متابعي مجريات الحرب منذ بدايتها كانوا يقرأون استراتيجيات اسرائيل من خلال سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها بتدمير البنى التحتية والشوارع والمباني وخطوط الكهرباء والمستشفيات ” الشهر الماضي أخلت قواتها مستشفيي العودة والأندونيسي ” ودمرتهما وهما المستشفيان الوحيدان اللذان يقدمان الخدمة للمحافظة الشمالية والتي تضم بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا وهما آخر عناوين للحياة في تلك المنطقة لكن على امتداد الحرب لم تدخر جهداً في القضاء على ممكنات الحياة في كل القطاع .
بعد أن تم استئناف الحرب على قطاع غزة في السابع عشر من مارس الماضي اثر انتهاء الهدنة مطلع الشهر نفسه كانت اسرائيل تغلق المعابر وتقطع المواد الغذائيلة عن قطاع غزة ليدخل الأخير في مجاعة شديدة القسوة وخصوصاً على الإطفال ، لا يعتبر الأمر فقط أنه جريمة مركبة بعقاب الأطفال أو يجري استخدام الغذاء كوسيلة ابتزاز للحصول على نتائج سياسية وتلك ربما لم بفعلها أعتى طغاة التاريخ وأقلهم أخلاقاً ربما خجلوا أن يسجلوا في تاريخهم شيء كهذا .
ضربت تلك المجاعة قطاع غزة من شماله إلى جنوبه مع عمليات قتل جماعية لم تتوقف لكن ذلك لك يكن مصادفة أو فقط لأن روح الإنتقام الشريرة كانت تقف خلف السادية التي تمارس ضد سكان القطاع بأحدث وسائل الترويع والتجويع أو لإبتزاز النظام الحاكم بل خطوة لتنفيذ مشاريع استراتيجية وكان الهدف من تجويع المنطقة إحداث عملية إزاحة للكتلة البشرية من خلال حرمان الأكل في منطقة ما والتحكم في وجوده في منطقة أخرى كان ذلك يتزامن مع القضاء التام على كل مدينة رفح ببيوتها ومسحها وضواحيها وتحويلها إلى صحراء ليعيد نصب الخيام في تلك المدينة الفارغة فقد كان يعلن أنه سيعمل على تجميع كل سكان القطاع في رفح التي تقع أقصى جنوب القطاع ومحاذية للحدود المصرية سيقوم بذلك من خلال إنشاء بوابات يتم تفتيش الناس وفرزهم واعتقال من تريد اسرائيل .
المجاعة كانت قاسية ليتفاجأ المواطنون في غزة بأن اسرائيل تستجيب للضغوطات الدولية وتسمح بطريقة معينة بتوزيع الطعام حيث يتم التحكم به وهذه المرة يكون المبرر ” منع حركة حماس من الإستيلاء على الشاحنات وإعادة بيعها وتمويل نفسها ” وهي التهمة التي تطلقها اسرائيل على الحركة لتبرر تجويع السكان والذهاب إلى حيث تريد سياسياً وهو القضاء على الفكرة الوطنية ومشروع التحرر من خلال تفريغ غزة كمنتج للحركة الوطنية الفلسطينية وساحة الصراع مع اسرائيل منذ تكوينها .
لم تكن النقاط توزيع الغذاء التي أعلنت عنها اسرائيل مجرد حل جاء تحت ضغط الأزمة بقدر ما تكشف أنه جزء من مسار طويل متناغم مع المسار النهائي للعملية بحشر الناس أو استدراجهم في مناطق معينة حيث تمت إقامة تلك النقاط في جنوب قطاع غزة دون أن تقيم أي منها في الشمال ولم تكن تلك مصادفة فقد كشفت التصريحات عن مسألتين مهمتين فيما يتعلق بمراكز المساعدات عندما أعلن يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي المعزول أنه صاحب فكرة النقاط أو بما أطلق عليها بخطة الجنرالات أي أولاً أن تلك الخطة اسرائيلية وليست أميركية كما أرادت اسرائيل تصويرها والثاني أن تلك الخطة والإعداد لها لم يجر على عجل بقدر ما أن الأمر كان يتم ترتيبه منذ أشهر طويلة كجزء من استراتيجيات وليست حلول لحظية عابرة .
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا أيضاً يتم ارتكاب المجازر واستكمال الإبادة حتى على أبواب مراكز المساعدات الإنسانية الأميركية بالعشرات ؟ فحسب البيانات حتى العاشر من حزيران بلغ عدد الذين قتلتهم على أبواب المراكز 130 مواطناً مدنياً فكيف يمكن تفسير الأمر ؟ القصة ببساطة أن اسرائيل التي أقامت تلك المراكز لا تريد أن تتحول تلك إلى مراكز يمكن أن تؤدي دوراً لتأمين متطلبات الناس وتثبيتهم في أماكنهم فهي توفر أقل من الحد الأدنى أو حسب مقولة قديمة لأفيغدور ليبرمان رئيس حزب اسرائيل بيتنا ” إبقاء الرأس فوق الماء ” ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من مشروع ممر يبقي الناس أحياء بصعوبة ليفكرون بالرحيل إذا لا يعقل أن يتم قتل مليوني فلسطيني ولو استطاعت اسرائيل لقتلت لذا تبحث عن عوامل مساعدة فالأمر يحتاج إلى إرادة فلسطينية للرحيل وهذا ما تفعله الدولة المحتلة .
لم تُقِم اسرائيل مراكز توزيع الغذاء لأسباب انسانية أو لإيجاد حل لتلك المأساة الإنسانية أو حل مجاعة هي تصنعها بإقتدار وكفاءة وتخطيط مسبق فماذا يعني أن يقام مركز توزيع في مكان محدد لتأمين حاجة نصف مليون مواطن ؟ وهل يمكن لأي مركز في العالم أو نقطة أن توزع على هذا العدد يومياً ؟ هذا حصل في مركز نتساريم عندما ذهب حوالي نصف مليون مواطن لإستلام حصص غذائية ومساعدات ليكتشفوا أن ما هو موجود كان يكفي لخمسين ألفاً فقط أي 10% للمواطنين وذلك ايضاً رقم لا يستهان به لكنه لا يشكل حلاً لمأساة ضاغطة بهذا القدر .
في نقاط التوزيع تلك حين يصبح الموجود أقل من المطلوب هذا يعني قطعاً أن السلوك البشري الإنساني أمام صراع البقاء سيعود لغرائزه الأولى في الصراع وهو ما ظهر من خلال التدافع على المساعدات وهو تماماً ما ارادت اسرائيل إظهار صورة الشعب الفلسطيني عليه كشعب بدائي حتى تخفف من التعاطف المتصاعد معه بعد كل تلك الشهور من الإبادة التي لم تعد مقبولة حتى أن عواصم تم التعامل معها تاريخياً كعواصم صديقة لإسرائيل مثل لندن وباريس لم تعد قادرة على الصمت أمام تلك الجرائم وبدأت في الأسابيع الأخيرة تحاول اتخاذ مواقف تجعل بينها وبين اسرائيل مسافة ما هذا ما يفسر حجم الإتهامات المتبادلة على الملأ الذي شهدناها على وسائل الإعلام بين نتنياهو والرئيس الفرنسي ماكرون أما بريطانيا فقد أصبحت أكثر جرأة في انتقاد اسرائيل بل وبدء الحديث عن اجراءات عقابية ضد اسرائيل على سبيل اجراءات تم اتخاذها ضد وزراء متطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير أو تعليق رخص تصدير أسلحة صحيح أن الخطوات رمزية لكنها بلا شك تؤشر بشكل شديد الوضوح إلى حنق تلك الدول من سلوك اسرائيل ورغبة تلك الدول بإيجاد مسافة بينها بين اسرائيل التي ترتكب الإبادة بما يخالف قيم ومعايير ما تحاول تلك الدول ترويجه أو تعليمه لأبنائها وهو ما تسبب بالتظاهرات التي شهدناها في بعض العواصم من قبل الأجيال الجديدة .
ليس التحكم الإسرائيلي أو الاميركي في المساعدات هو أسوأ ما يمكن ان يراه سكان القطاع والذي لا يكفي القليل أو لأنه لاحقاً سيعتمد على نظام يتحكم بالأسماء واستبعاد وتجويع قوائم المعارضين والتابعين للفصائل الفلسطينية وقوى المقاومة وتلك تفتح على نوع من تحريض الفلسطيني على ثورته وفصائله وكل العمل المقاوم فقد كان الخطاب الإسرائيلي منذ بدايات الحرب يتحدث عما يشبه كي الوعي أو تغيير الوعي لكن الأسوأ هي حالة التزاحم والصراع التي تجسدها مئآت ألاف الناس وهي تقف أمام بوابة واحدة لإنتظار الحصول على الطعام .
لقد عملت اسرائيل بشكل متعمد على انهيار الأمن في غزة واستهدفت عناصر الشرطة تمهيداً لإنهيار المجتمع فقد تحدث الكثيرون عن انتشار مجموعات من الجوعى في شوارع القطاع يدفعها الجوع تضطر للبلطجة من أجل قوت أبنائها فغريزة الجوع أكثر الغرائز قسوة حين تستبد تدفع الجائع لإرتكاب جريمة من أجلها وهذا اخطر ما يصيب المجتمعات الجائعة التي تفقد قيمها وتتحول إلى تكتلات عشوائية تعود لغرائزها الأولى وهذا يعني إبادة لما تراكم من وعي فلسطيني لا يقل عن الإبادة الجسدية التي تمت وتتم في غزة فالسلوك العدواني الإسرائيلي لا يتعلق بالإنتقام أو بالإنتصار كما يقول رئيس وزراء اسرائيل بل بالقضاء على مكونات شعب سواء مكونات الوعي الجمعي بتحويله إلى حالة تبحث عن غرائزها وتخوض صراع البدايات أو بالقضاء على الوجود في بقعة الأرض التي تُمكن من إقامة مجتمع عليها استطاع بناء حركة وطنية بعد سنوات وعقود بسبب الإستقرار .
كل الوسائل التي استخدمتها اسرائيل في غزة والتي تنوعت تريد من خلالها اسدال الستار على القضية الوطنية بدأ الأمر بالقتل والتجويع وتصحير غزة وتشويه وعي وسلوك أهلها لينتهي بسؤال تريده حول جدوى البقاء في المكان تحت وطأة القوة الغاشمة وتلك تفرض تحدياً جديداً على الفلسطيني الذي تمكن من مواجهة أعتى التحديات بنجاح … وإن كان هذا أخطرها على الإطلاق .