غزّة التي غزت العين العالمية  

لم تكن غزّة تملأ العين والوجدان العالميين قبل هذه الحرب التدميرية الهائلة التي دمغت العصر وجاءت الحلقة الأعنف في سلسلة من الحروب التي ارتكبتها اسرائيل طيلة عمرها المسكونة بالمجازر عبر التاريخ بحق العرب والفلسطينيين. أمام هذه الفرضية يُطرح السؤال: 

أيعود الفضل، في تحريك الرأي العام الهائل الى ملايين الصور والألإلام القاسية التي شغلت عصر الفضاء الحر ووسائل التواصل الإجتماعي مواكبة الأنفاس البشرية على متابعة وفضح معظم المعارك والمشاهد العسكرية القاسية، وخصوصاً بعدما بدت غزّة تغزو العين العالمية بمشاهد الأطفال الصغار تحديداً الذين لا يمكن هضمها والذين سكنوا الوجدان والصوت العالميين في عصر من الفضاء الرقمي المكشوف والبارع بتوظيف هذه الوسائل واستخدامها عنواناً لقرن الصورة المعولمة تحديداً؟ 

ينسحب السؤال الطويل على بعض الإعلام العربي، وخصوصاً في ميادين صراع الشاشات والأجهزة الخلوية: أيمكن التفكير بأن العرب، بعدما انخرطوا وأجيالهم في الفضاء عبر المعمورة، ولو متسلحين ببعض إعلامهم الرسمي والخاص، باتوا أكثر قدرةً ووحدةً في الإنتقال والتأثيرنحو أصقاع بعيدة مجدية في الكرة الأرضية لنقل وفضح حقائق الصراع العربي الإسرائيلي المشبع بالهزائم والإنحدارات العربية؟ 

إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، يحقّ لنا، أن نعتقد، بأنّ السلطات الإعلامية، بمعناها الواسع، وأمام وطأة الحروب والدماء، قادرة على خوض الحروب بين الأصابع، وتحقيق سلطاتها بما يتجاوز السلطات الرسمية العربية التقليدية المعهودة المسكونة بالخيبات؟ وبالتالي أسأل والسؤآل هو الحياة يكشف عن الجواب اليوم وغداً: ما هو مستقبل العرب من حيث تعاملهم مع الصورة، وكيف يوفقون بين استعمالها في الحالات الحرجة مع ثقافات استعمالها المغاير لهم في العالم على المستويات الثقافية والقانونية والمصلحية؟ 

لست أطرّز جواباً، ولنقل بأنّ الشاشات تسبق السياسات، وبأنّ استراتيجيات الإعلام، بمعناها التقني المتطور والحر في نقل الصور وخصوصاً في عصر الفضاء، تضاهي، بل تتجاوز الإستراتيجيات العسكرية لكسب الرأي العام واستمالته عن طريق نقل الصورة وصناعتها وامتهان الإعلام بشكلٍ عام وخصوصاً حين يصحبهما شعور بالإنتماء إلى الذات الإنسانية وإخلاص في الأداء، وخصوصاً عندما نراعي بشكلٍ عام مسائل كبرى مثل التركيز على المشاهد القاتلة حول نقطة محددة ولا بأس من استعمال التحريض والتحفيز وعدم تنخيل الصور والمشاهد أو تصفيتها وحجبها وصقلها بل فلشها بفجاجتها، وذلك بعيداً عن ممارسة مهارات التكرار والهزء أو تحقير الخصم والدعايات النفسية لدى التغطية والكشف، وحسن استخدام العلاقات العامة للتوجه نحو صقل بل حشر الدبلوماسيات والمصالح السياسية العالمية. الإعلام سلاح العصر وهو بين الأيدي لغسل الأبصار والأدمغة والإستعانة بدحض الشائعات والتضليل وقلب الحقائق وتسويق الأوهام وغيرها من فنون الإعلام الكاذب أو علومه السياسية المتقلبة وفقاً للمصالح الدولية التي كادت أن تأكل العالم الآخر بشعوبه الصغيرة. 

إنّ الإقامة عبر مسارح المعارك الوحشية، ووضع العين العالمية أمام المشاهد والصور الحية، تجعلنا أمام مسائل استراتيجية متجددة المساحات، ولو اختلطت فيها الموضوعية بشيءٍ من الذاتية في التعليقات أحياناً، ويمكنني القول، في ما يتعلّق بغزّة أو بفلسطين ومستقبلها تحديداً، أنها شكّلت أبوابا لمجموعة من الإستراتيجيات القاسية تتجاوز بكثير من العنف في ملامحهما لبعض ما حصل في تموز 2006 وما يحصل اليوم وقبله بكثير من تاريخ الجنوبيين في لبنان، لتشكّل كلها نظرةً جديدة للتعرية الى نحن فيه اليوم. 

لقد سبقت الشاشات السياسات، حتّى في قلب اسرائيل وعواصم العالم. كان هناك عين عالمية لا تنام وأصوات شعبية عالمية لم تتمكن من الصمت عن هول ما يحصل، على الرغم من وسائل الردع الصحفي، وتأثيراتها الداخلية والخارجية. قد تقود الصفات الإعلامية الخاصة بحرب غزة، في مقارباتها الإسرائياية الى التخفيف عبر وسائل الإعلام العالمية ودوائر القرار من التخفيف من تأثيرات صور الكوارث والمذابح والتشوهات والأهوال التي وقعت وتقع، لا بالإستناد الى مراعاة القوانين الدولية التي وضعت عتبات تفاهم  بين ما هو مسموح أو محظّر نشره وبثّه أمام المشاهدين في العالم، بما لا يكسر العين والنفس والمشاعر، وهذه مسألة تختلف من شعبٍ الى آخر، ومن عين الى أخرى، ومن ثقافةٍ لأخرى، لكن قوة وسائل التواصل الإجتماعي تكراراً في الفضاءات المفتوحة بين أيدي البشرية كشف كل الأغطية السميكة والفجة وغير الصادقة فعلياً عمّا حصل وكان يحصل في غزّة. صارت أجهزة الخلوي ووسائل التواصل ترشد عيون البشرية على هذه القيامة والمجازر الحقيقية التي تضرب الإنسان وخصوصاً الأطفال في قطاع غزّة، وتنكّبت له بعض الشاشات العربية بحماس وشجاعة غير مسبوقة، بما أحرج أو “ضرب” الإعلام العربي والعالمي في الصميم والذي وجد نفسه منقاداً بدوره، في نهاية المطاف، الى المساهمة ولو الثقيلة أو البطيئة أو المترددة في كشف بعض الأغطية عمّا يورثه هذا الزلزال الهائل من مساحات دموية ودمار هائل. يمكن الإستنتاج، في مسار تحرّك الشاشات في العالم، أن تلك المترددة منها أساساً في نقل الوقائع، خلعت ترددها وخافت أن تحرق أصابعها مرّتين: مرّةً حيال عجزها أمام تململ شعوبها وتحركها حيال ما كان يرد من صور من داخل غزّة، ومرّة أخرى حيال عجزها عن الإستمرار من الوقوف بثبات في التزاماتها غير المعلنة تجاه الإدارات الغربية، والتزامات الأوراق والأفكار المرسومة المستوردة لقضايا الشرق الأوسط.   

اللافت أن ارتدادات هذه الزلزال ومذابح الأطفال في العين العالمية،عبر وسائل الإتصال المتنوعة، تجاوزت بمسافات ما كان يتمّ بثّه أو حجبه، وحرّكت التظاهرات والإحتجاجات والإرباكات في العالم الى درجة انجذبت اليها الأنظار. صحيح أن العين تلتقط اللحظة وتؤبدها، وتدفع بها نحو العقل والعاطفة والشعور استدراراً لردود فعلٍ طبيعية أو موقف أو سلوك، لتبقى الصورة قادرة على سلخ اللحظة وتجميدها وحقنها لتغزو المساحات اللامحدودة، وتحرّض الآخرين على تقاسم ملامحها، خصوصاً عندما تكون موسومة بالدماء والأشلاء والصراخ.