مفهوم القيمة لدى المواطن بين الثراء والحسب والنسب .. والجهد والعمل 

نتوقف احيانا امام بعض المفاهيم ،التي نصادفها في حياتنا ،ونمعن فيها النظر،بالكثير من التأمل و التفكير،لاسيما  وان كانت لها اصداء في الماضي، نستخلص منها الدروس والعبر من صفحات التاريخ،وحول تلك المفاهيم  تتعدد الكثير من القصص والحكايات ،وحكايتنا اليوم ترجع في وقائعها الى عام 1904. في ذلك العام نتعرف على واحد من مشاهير تلك الفترة،وهو الشيخ على يوسف،وهو رئيس تحرير جريدة شهيرة تاريخيا (المؤيد) ،وكان أحد مؤسسيها ،وكان هذا الشيخ يرجع في اصوله الى اسرة فقيره،ولكنه واصل دراسته في الأزهر طمعا في ان يكون من الفقهاء،أو رجال الأزهر،ولكنه احترف الصحافة وتألق في سمائها ،وكان قد تزوج في بداياته من فتاة فقيرة اسمها (ريحانه)، ولما كبر،وأصبح من الوجهاء،تاقت نفسه الى الزواج مرة أخرى من فتاة جميله ومن أسرة غنية، ووقعت عيناه في احدى المناسبات على (صفيه) ابنة الشيخ السادات، وهو احد مشايخ الطرق الصوفيه ،وينحدر من أسرة ذات ثراء وحسب ونسب وعراقه،فتقدم لخطبتها،ووافق الأب ،بعد جهد بذله الكثير من الوسطاء، ولكنه ماطل في اتمام الزواج، مما ازعج العروسان ،فاتفقا عبر مراسلات كانت تجري بينهما، عبر خادمه اوروربيه ،على عقد قرانهما في منزل أسرة صديقه تتعاطف معهما ،وهي اسرة الشيخ البكري وكانت تقطن في منطقة (الخرنفش). انتقلت العروس الى بيت الزوجيه،وكانت صدمة الشيخ السادات شديده،وهو يقرأ في جريدة (المقطم) نبأ زواج ابنته ، فلجأ الى القضاء بغرض التفريق بين الزوجين لعدم التكافؤ اجتماعيا،فالفوارق بين الأسرتين شاسعه. سواء في الحسب والنسب او الثروة او الحرفه،وهي الجرائد التي يعمل بها الشيخ علي يوسف وهي (أحقر الحرف وهي عار وشنار عليه) واحيلت القضية الى محكمة قاضيها اسمه (الشيخ ابو خطوة) وتحددت لنظرها جلسة يوم 25 يوليو 1904. تناولت الصحف تلك القضية،وانقسم الرأي العام حولها بين مؤيد للشيخ السادات،ومؤيد للشيخ على يوسف،والكثير منهم من المثقفين فضلا عن انصاره السياسيين وعلى رأسهم الخديوي عباس حلمي الثاني.كثرت الجلسات وتعددت المناظارات مما تضيق به هذه الصفحة،وان كان يعنينا منطوق الحكم الذي صدر في هذه القضية من القاضى وهو الشيخ (أبو خطوة ) بعد اعتكافه خمسة عشر يوما للأعداد لهذا الحكم ،ومحاولات الخديوى والحكومة للتأثير على الحكم بحيث يكون لصالح الشيخ على يوسف، ولكن الشيخ ابو خطوه كان شديد الأعتزاز برأيه واستقلاله عن اي تأثير،ولذلك جاء حكمه بفسخ عقد الزواج والتفرقه بين الزوجين ،ورأي ان ثراء على يوسف الحالي لايمحو عنه تلك الوصمه أنه كان فقيرا ذات يوم ،وقال في حكمه بالحرف الواحد ( ان فقره في بدئه وان زال عنه الأن باكتساب الغنى، الا ان عاره لا يزول عنه). في محكمة الأستئناف عقب المحامي على تلك العباره قائلا:اين هي النصوص التي تقول ان الفقر السابق يبقى عارا على صاحبه مهما نال بعد ذلك من غنى ومال وجاه ؟ ان القائل بذلك يريد ان يسجل الانحطاط على الجنس البشري كله لان الاصل في الانسان الفقر،والغنى طارئ عليه واساس الغنى الجد والعمل ،الى اّخر المرافعه. لكن المثير في الأمر ان حكم الأستئناف جاء مؤيدا للحكم الأول.وهو التفرقه بناء على عدم التكافؤ بين الأسرتين . 

لم يتوقف الزمن عند تلك الواقعه التي تفصح عن معايير التقدير والمكانه بين الثراء والحسب والنسب وبين المثابره في الجهد والعمل .اتذكر في برنامج كان يقدمه وائل الابراشي وعمرو خفاجى في الثمانينات من القرن الماضي على احدى الفضائيات المصرية الخاصه أنهم تلقوا مكالمه من مشارك في الراي من الولايات المتحده،وقال في تعريفه انا فلان مهندس في احدى الشركات الامريكيه،وقد حصلت على شهادتي الجامعيه من مصر،بعد ان اصدر عبدالناصر قراره بأن التعليم الجامعي مجانا ،اذ ان أبي كان يعمل ( كناسا) ويكنس الشوارع في القاهره،وقد تعجبون انني اذكر ذلك بعد ان اصبح لي وضعا اجتماعيا متميزا،واقول ان ابى كان (كناسا) ذلك (ان الفقر في عهد عبدالناصر كان احد مقاييس الشرف) نعم حركة الزمن تدور..وتدور وتتباين معها حركة المقاييس والأحكام لقيمة البشر ،والانسان في بعض الأحيان يصبح هو اول ضحايا  حركة هذا الدوران .