قراءة في رواية «صيف سويسري» للروائيّة العراقيّة «إنعام كجه جي».
من «بازل» عاصمة الصناعات الدوائيّة في العالم، تنطلق الروائيّة العراقيّة «إنعام كجه جي» لتنسج روايتها «صيف سويسري».
عنوانٌ لا يعكس المضمون الذي يرمي إلى تصوير خراب العراق. ما يعكس اختيار كجه جي وضع القارئ أمام مفارقة هائلة: سويسرا، قبلة أثرياء العالم، حيث البنوك الأكثر سريّةً وأماناً، ونموذج السياحة المتكامل، الذي يدمج الطبيعة الساحرة مع الحداثة والثقافة ونمط الحياة الراقي؛ مُقابل العراق حيث الانقسامات السياسيّة والدينيّة، والحصار، والحروب المتتالية، وكلّ ما نتج عنها من تلوّث وفقر وبطالة وانخفاض في مُعدّل الثقافة والتعليم.
مستندةً إلى حبكة فريدة، طرحت كجه جي مجموعة أفكار متشابكة حول الهويّة والذاكرة والصراع الأيديولوجي في السياق العراقي، حيث جَمعَت أربع شخصيّات عراقيّة، جرى انتقاؤها بعناية فائقة من قبل ممثلي شركات الأدوية السويسريّة، لتختبر هذه الشخصيّات رحلة علاج صيفيّة مجّانيّة في مدينة «بازل» السويسريّة. وهُم:
– حاتم الحاتمي، ضابطٌ بعثيٌّ سابقٌ، عرَّف عن نفسه بأنّه مدمن قوميّة. منحته كجه جي المساحة السرديّة الأطول في الرواية، ما سمح بتسليط الضوء على آليات القمع من منظور الجلّاد نفسه، وكيف تحوّل في وقت لاحق إلى طالب غفران.
– بشيرة حسّون، يساريّةٌ تعرّضت للاغتصاب في المُعتَقل، ما كان نتيجته حملها وولادتها لطفلة أسمتها سندس.
– غزوان البابلي، المتديّن الشيعيّ، الذي عرَّف عن نفسه بأنّه من مُحبّي آل البيت ومُعتَقل سابق في سجون دولة البعث العراقيّة.
– دلالة شمعون، الآشوريّة، المُبشّرة الدينيّة ليَهْوه، الإله المختلف عن دين طائفتها.
جلسوا الأربعة مُجتمعين في حلقات مواجهة (الجلّاد المتمثّل بحاتم، مع الضحايا الثلاثة الباقين)، حيث قصّوا سردياتهم المختلفة والمُتعارضة، أمام الدكتور بلاسم «حَلّال العُقَد»، المكلّف بالإشراف على علاجهم. وقبل انتهاء تجربة العلاج الفاشلة، اكتشفوا مُجتمعين أنّ عداواتهم ليست سوى وجه آخر لإدمان مشترك اسمه العراق: «جئناها مجانين ونغادرها أشدّ جنوناً. عنادٌ صُنِع في العراق. احذروا التقليد!».
في فكرة العلاج هذه تحديداً، تكمن فرادة الطرح. إذ لا تشكو هذه الشخصيّات من أيّ مرض عضوي، وإنّما من إدمان عقائديّ، لنكون بذلك أمام سؤال جوهريّ وخطير: هل الذاكرة العراقيّة مرضٌ يُعالج أم هويّةٌ تُمحى؟
سؤالٌ يقودنا إلى تفكيك ثيمات الرواية الأساسيّة: تدخّلات الغرب الاستعماري غير المباشرة للعبَث في الهويّة، الإدمان على أوطان دمَّرتها الأحزاب (السياسيّة والدينيّة)، الذاكرة -وهي هُنا مرادف للهويّة- عصيّةٌ على النسيان -أي الاقتلاع-.
ترمز «بازل» إلى محاولة الغرب علاج الشرق عبر اقتلاع هويته، بمعنى آخر التدخّل فيه. تهدف التجربة العلاجيّة هذه إلى محو الذاكرة، عبر إعطاء الشخصيّات الأربع كبسولات دواء برتقاليّة وصفراء. إذ تحمل هذه الشخصيّات جراحاً لا تندمل (تعذيب، اعتقال، اغتصاب، خيانة، إعدامات)، لكن تحمل في الوقت نفسه حبّاً جَمّاً للعراق كلّاً حسب انتمائه ومعتقده. لذا تفشل هذه التجربة العلاجيّة، إذ تبدأ الشخصيّات في التحايل على ابتلاع الكبسولات الملوّنة، حتّى نصل إلى مشهد يكونون فيه مجتمعين، فيرمونها في نهر الراين، وفي ذلك رمزيّةٌ قويّةٌ إلى رفضهم التخلّي عن ماضيهم رغم ألمه وسوداويّته.
تعمّدت كجه جي بالفعل إفشال هذه التجربة العلاجيّة، لأنّ الذاكرة تُشكّل الهويّة، وفي ذلك رسالة جوهريّة: فشل المشروع الغربي في نزع الهويّة، على الرغم من الصراعات الداخليّة.
تخلّلَ الرواية فصلان قصيران، الأوّل بعنوان «مقهى الوفاق» في بداية الرواية، والآخر بعنوان «مقهى الشقاق» في نهاياتها. يكشف تناقض العنوانين عن ثنائية «الأمل والانهيار». حيث تستخدم كجه جي المقهى كفضاء خيالي، يُصوّر مجازيّاً مأزق المصالحة الوطنية، ويُظهر استحالة تجاوز الصراعات الأيديولوجية على أرض الواقع.
نصل إلى الخاتمة، بعد اعتراف بشيرة لحاتم بمعرفتها بأنّه من تولّى إخراجها من الاعتقال بسريّة. فيُعلن حاتم حُبّه لها في الوقت بدل الضائع من العمر، حبٌّ سكنه منذ كانت جارتَهُ أيّام الصبا، وحال الاختلاف السياسي بينهما، ليتوّج هذا الاعتراف بالزواج.
نهاية رومانسيّة قد تكون رمزيّتها صعوبة اجتثاث العقيدة الدينيّة مقابل العقيدة السياسيّة! إذ هَجَر حاتم البعث، وتخلّت بشيرة عن الشيوعيّة، في حين واصلت دلالة دعوتها التبشيريّة ليَهْوه، وعاد غزوان إلى العراق، ليصبح شيخاً غنيّاً عنده حرّاس. لنكون بذلك أمام خاتمة تطرح سؤالاً مفتوحاً: هل تحتاج المصالحة الفعليّة إلى صيف سويسري آخر، أم إلى وطن لا يقود الاختلاف فيه إلى العداوة؟
- قراءة في رواية «اللعنة» للروائيّة السوريّة «سها مصطفى»:
اللعنة: السرد وحده لا يكفي
«الدّين ينتشر إمّا بالوراثة أو بالإكراه» تنطلق الكاتبة السوريّة سها مصطفى بطريقة غير مباشرة من هذه العبارة، لتبني عليها، بلُغة رشيقة وغزيرة، أحداثَ روايتها «اللعنة»، وتأخذنا خلالها في رحلة يمتزج فيها خيال الكاتبة مع وقائع تاريخيّة سياسيّة ودينيّة، تتعلّق بما تعرّض له العلويون خصوصاً والأقليّات عموماً خلال تاريخ الدول الإسلاميّة: الأمويّة، العباسيّة، المملوكيّة، وصولاً إلى السلطنة العثمانيّة، حيث تصوّر لنا ممارساتها الوحشيّة القائمة على القتل والسَّبي وشراء الجواري وإخصاء العبيد، وحياة اللهو والمَجون، والسلطة القائمة على مبدأ «الغاية تُبرر الوسيلة»، حتّى زمن سقوطها.
تتنقّل الكاتبة خلال روايتها بين زمنين مُختلفين لبطلتين هُما «رميا» و«حمامة»، اللتان واجهتا نهايتين مُغايرتين، لكن تقاطعت سيرتهما في عدّة نقاط أهمها: الرؤية أبعد مما تعيشانه كزمن ووعيّ.
نقرأ أحداثاً حول رميا أكثر منطقيةً -إلى حدّ ما- من تلك المرتبطة بحمامة. ورميا صبيّةٌ عراقيّةٌ غنوصيّةٌ، تفقد إيمانها لحظة وفاة والدها. حين تحاول دفنه بمفردها تهاجمها الذئاب، فتترك جثمانه، وتركض هاربةً حتّى تصل إلى خان.
هاك تحتضنها صاحبته إنانا، فتعلّمها السريانية، والغناء، والأشعار، وتجعل منها في الوقت ذاته بائعة هوى؛ إلى أن يجيء من يحرق الخان بما فيه من كتب وخمر باسم الدين، تُقتل إنانا، وتُنقل رميا إلى سوق النخاسة في إسطنبول.
هُناك يشتريها أحد رجال البلاط ليقدّمها للسلطان سليم الأوّل، فتقضي ما بقي من حياتها كجارية تُغنّي وتعزف وترقص له، تُسمعه الأشعار، وتُلبّي غرائزه التي لا يُشبعها حتّى سفك الدماء، إذ يرتكب مجازر بحقّ الأقليّات، وخصوصاً عَلويّي حلب، ويقتل الآلاف منهم، ويُهجّرَ من يبقى إلى جبال الساحل المُقفرة إلّا من الوحوش البريّة؛ وتنتهي حياة رَميا بالغرق في مياه البوسفور.
أمّا حمامة فمعظم الأحداث حولها من خيال الكاتبة التي ربّما أرادت بذلك إيصال رسالةٍ ما!
هي طفلةٌ لعائلة تعيش في بيئة ريفيّة فقيرة زمن الانتداب الفرنسي، تُولَد بنُدبة يحملها -وفقاً لخيال الكاتبة- المختارون، ليعيشوا بروح واحدة أكثر من حياة، وهي نتيجة طعنات تعرّضت لها في حياة سابقة في مجزرة التلال سنة 1514، التي ارتكبها سليم الأوّل بحقّ عَلويّي حلب؛ لتكون هذه الندبة مرادفاً للعنة ستحلّ عليها بسبب إيمان بيئتها بخرافات دينيّة حولها.
وتطرح هذه الأفكار المتعلّقة بسيرة حمامة تساؤلات عدّة:
– إن كانت حمامة وُلدت زمن الانتداب الفرنسي بحالة تقمّص لروح كانت في حياة سابقة ضحيةً لمجازر سليم الأوّل؛ فالمدّة الزمنية بين الفترتين تعادل خمسة قرون، ويستحيل وفقاً لمعتقدات الطائفة العَلويّة أن يلد إنسانٌ بحالة تقمّص يتذكّر بها حياة عاشها منذ خمسة قرون.
– تعدّدت تفسيرات أهل القرية حول ندبة حمامة. ووفقاً للكاتبة، اعتبرها بعضُهم لعنةً، والبعض الآخر نذيرَ شرّ، وآخرون إشارةً لذنب اقترفته في حياة سابقة؛ والواقع أنّه لا وجود لمثل هذه التأويلات حول طفل يولد بندبة في البيئة العَلويّة.
– تعتبر الكاتبة حمامة كاشفة للأسرار، وفي عمر الخامسة تكشف سرّ الشيخ سعيد، بأنّه هرب من قريته لسيّئة اقترفها، ووارى فعلته بارتدائه زيّ شيخ تَقيّ. ثُمّ تسرد مصطفى حقيقته المُطابقة لكشف حمامة، فهو رجل يُدعى جعفر حاول اغتصاب زوجة جاره، ولما تمنّعت هرب إلى قرية لا يعرفَهُ فيها أحدٌ مُتّخذاً لنفسه اسماً مُستعاراً. ونتيجة هذا الكشف يتّهم حمامة بأنّها ممسوسةً، ويُقنع والدها الساذج بالتّخلص منها، فيرسلها والدها إلى حلب لتعمل كخادمة.
والسؤال: كيف يُمكن أن يُرسل أبٌ طفلته ذات خمس سنوات للعمل كخادمة؟ ولو فرضنا أنّها فعلاً قادرة على كشف المستور، وأنّ والدها بالفعل أرسلها لتعمل كخادمة، فهل ستساعدها بنيتها الجسديّة أن تتحمّل إنجاز الأعباء المنزلية في منزل الحاج عثمان، الذي لا يتوقّف ظاهراً هو وزوجته بهيّة السحاقيّة عن قراءة القرآن؟ بهيّة التي ستُعلّم حمامة لاحقاً خبايا الجنس وخفاياه؟ أليست هذه الأحداث أقرب إلى أن تكون غير منطقيّة وغير واقعيّة بالنسبة إلى طفلة ذات خمس سنوات، وخاصّةً عندما يغتصبها ولداه، فتلحق بها لعنةٌ ثانيةٌ تُعيدها إلى قريتها موشومةً بالعار وقلّة الشرف؟ أيُّ مقوّمات أنثوية أغوت ولدا الحاج ليغتصبا طفلة في عمر الخامسة، أو لنفترض أنّها لحظتها كانت قد أصبحت ذات ستة أو سبعة أعوام؟
لا تنتهي إشارات الاستفهام هُنا، بل تستمر خلال الأحداث اللاحقة، حيث تنجح والدتها بإخراجها من القرية بمساعدة الدّاية «رَفْقة» وكاهن، لتمرّ في رحلة جديدة بين المناطق السوريّة، تبقى في إحداها بمفردها على شاطئ مهجور، لتصل نهايةً إلى كنيسة في لبنان، حيث تعيش لفترة قصيرة حياة الراهبات؛ وسرعان ما تقرّر أنّها لا تُناسبها، فتودّع الكاهن، وتُهاجر إلى أمريكا مع «ناديا»، السيّدة المسيحيّة نفسها التي أحضرتها إلى لبنان.
السؤال الذي يطرح نفسه هُنا: أيُّ طاقة احتمال لإنسان كامل الأهليّة ليتحمّل سلسلة الأحداث المُرهقة المتتالية هذه، ويبقَ بوعيه وصحته النفسيّة؟ فما بالك بطفلة لم تبلُغ بعد؟ وعلى أيّ أساس ستتحمّل السيّدة المسيحيّة هجرة الطفلة العَلويّة معها إلى أمريكا؟ وهل في ذلك إشارةٌ إلى مصير الأقليّات في هذه المنطقة بأنّه سيكون الهجرة والاغتراب؟
«اللعنة» رواية تتنوّع عوالمها بين أسطوريّة، ملحميّة، وأُخرى تستند إلى وقائع تاريخيّة دينيّة وسياسيّة؛ يجمع بينها ألمٌ يطغى على الشخصيّات، وسردٌ ممتعٌ كلغة، لكنّه يفتقر في أفكاره إلى الموضوعيّة والدّقة في تصوير العقائد. وهُنا لا بدّ من طرح سؤال جوهريّ: هل يحقُّ للروائيّ استخدام خياله لسرد معلومات خاطئة حول معتقدات طائفة تعرّضت أساساً عبر تاريخها للقتل بحجة التكفير؟