1 رحلة مع الشيخ عبد الله العلايلي إلى الديار المقدسة

هل تريد أيها القارئ العزيز أن ترافق الشيخ عبد الله العلايلي في رحلة إلى “الديار المقدسة”؟

حسناً تفعل، لكن حاذر ألا تكون صبوراً، فالترحال مع الشيخ شاق طويل، فهو لا يصطنع السهل من الكلام، بل “اللغة العالية” أو لغة “المدارس العليا”، كما يسميها الفقهاء، أما منهجه في البحث والتأويل “فكلي لا يؤخذ تفاريق ولا يدرس أجزاء معزولة”، وإذا اتفق أن أضعت الخطى، أو أدركك الفتور في وسط الطريق، فلا تجزع وأنصحك بألا تعود القهقرى. 

أعرف أن حديقة الشيخ مليئة بالشوك والعوسج، ومنه الذي يدمي، لكن فيها من الفاكهة والورد الجوري، ما لم تره عين من قبل. أعرف أيضاً أن الرحلة ستتعبك وتضنيك، وتأخذ منك الجهد كله، لكني أضمن لك أنه ساعة تطأ قدماك عتبات تلك الديار، ستعتريك راحة لا تعدلها راحة، وصفاء لا يعدله صفاء، حتى لو كنت “كافراً” أو من الملحدين!

أراك تسألني أيها القارئ العزيز: كيف تريدني أن أعتلي ناقة وألتحق بقافلة شيخ معمم، في هذه الأيام العصيبة التي كثر فيها التعسف، وعلت فيها حراب المتدينين؟

لن أجيبك على هذا السؤال، فالشيخ الحكيم أقدر مني على ذلك، وهو سيقول لك: “ما كانت قوافل الحكماء، من قبل ومن بعد، إلا قوافل الظمأ إلى الحق، إلى الخير، إلى الجمال، وما عرفت الدروب مذ أبدعت وعبدت غاية لنفسها إلا هذه الغاية، غاية العبور إلى النور الأسنى”.

وحده الشيخ المعلم يقول هذا الكلام. وحده يخرج من بين الجموع والقوافل والقبائل ويقول: “لكم إسلامكم ولي إسلامي”! قد يأخذك العجب أيها القارىء ويعتريك الدهش، وتريد أن تعرف ما سبيل هذا الرجل، فجوابه كلمات توج بها فكره الإصلاحي “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة”.

أحسبك سمعت كلامه، وأكاد أسمعك تقول له: “قد بدأت أرتاح لك أيها الشيخ الجليل، وبدأت أرى في كلامك فعل إيمان، وأسمع زحزحة باب موصد. لقد سحرتني ساعة أسمعتني تلك الآية الكريمة، فأي أسلوب في العمل هو أسلوبك؟”.

أرى الشيخ قد ارتاح لك أيها القارىء المسافر في محراب نسكه، وبدأ يعهدك محباً للحكمة والمعرفة، تريد “التماس العلل والغوص على الينابيع، إرواء لظمأ العقل المتشوف الطلعة”. أراه قد تنهد من فوق ناقته، ومسح ما تندى على جبينه من عرق، وأخذ من جيبه ورقة صغيرة دفعها إليك، تشرح أسلوبه في الفقه والحياة: “ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقق المعرفة”.

تعود وتسأل الشيخ: هل هذه الديار التي نقصد هي الوحيدة المقدسة في هذا العالم؟ فجيبك من فوره ” لأية جماعة الحرية في أن لا تتصل بالسماء من طريق محمد”. تعود فتسأله، وهل في القرآن ما يدعو إلى ذلك أيها المعلم؟ يضع يده في جيب جلبابه من جديد. يسحب مصحفاً صغيراً، يفتحه على سورة البقرة، ويطلب إليك أن تقرأ، فإذا الكلام آية تقول “لا إكراه في الدين”. هل اتفق أن سمعت فقيهاً أو شيخاً أزهرياً يقول “لأية جماعة الحرية في أن لا تتصل بالسماء من طريق محمد”. ألا تجد فيه صورة مغايرة لصورة إسلام آخر، يقدمه إلى العالم اليوم وثنيون جدد؟

أخالك بدأت تتنفس الصعداء، وتريد للرحلة أن تستمر. لا أبوح لك بسر إذا قلت لك إن الشيخ سوف يجيبك على كل سؤال يخطر في بالك، فهو من طبقة الذين فكروا وتأملوا وآمنوا وصعدوا في معراج الإيمان. وأكاد أسمعك تسألني عن الأسباب التي حملت بعض الناس على تسميته “الشيخ الأحمر”.

سوف أجيبك. لقد نعتوه ظلماً بهذه التسمية، لأنهم ظنوا أنه “أشتراكي”، وأنه “شيوعي”، وهو ليس إلا فقيهاً يأخذ من الموروث ما يسند الحجة، فطالب بتوزيع الثروة، وقال إن استحواذ الفرد عليها استحواذاً أنانياً هو استحواذ على الجماعة نفسها! لم يكتفوا بذلك، فسلطوا عليه الثيران التي تهوج وتموج ساعة ترى “اللون الأحمر”، وهؤلاء شيوخهم سيئون، أحاديو الجانب، يقرأون الكتاب بعين واحدة، ويسمعون التراتيل بأذن واحدة. يحتكمون إلى إمام واحد يروي غرائزهم، أما شيخنا فلا لون واحد له كما يقول. هو مؤمن، واسع العقل والقلب والرحمة، يعمل بوحي الآية التي تقول “لست عليهم بمسيطر” وبآية أخرى تقول “إنما المؤمنون أخوة”.

 لم يلتزم الشيخ مدرسة واحدة في الفقه وقال: “علينا التسليم بما قالت المدارس الفقهية على اختلاف تناكرها: الأباضية والزيدية والجعفرية والسنية، من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية، ومن فيها من مدارس الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وهكذا تصبح الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجد ويحدث”.

قلت لك إن الشيخ سوف يجيبك على كل سؤال تطرحه عليه في هذه الرحلة، لأنه متسامح يأخذ بالآراء كلها. لا يعرف العصبية الدينية أو المذهبية، ويؤمن بأن الحياة في تغير دائم، ويؤمن أيضاً “بأنه في حال واجهتنا مشكلة أو نازلة، نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي، بقطع النظرعن قائله أو دليله، وبتغير الظرف يتغير الحكم المعتمد. وما دمنا قد سلمنا بأقوالهم جميعاً وقبلناهاً جميعاً، فالمرجح هو الظرف، وما هجرناه اليوم من قول في مسالة، ومن ثم اقتضاه الظرف بعد حين، نعمد إلى ترجيحه والأخذ به، فالأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، والمقتضي في ذلك كله هو التيسير”!

نعم أيها القارىء الكريم “الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والمقتضي في ذلك هو التيسير”! هل قرأت في حياتك كلها كلاماً لإمام معاصر أجمل من هذا الكلام. ألا ينطبق على الكلام المنسوب إلى الرسول” أنتم أدرى بشؤون دنياكم” وعلى الآية الكريمة القائلة ” إنما يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”. ألا يبدو شيخنا هنا “مواطناً من العالم وللعالم” وعاملاً بالآية الكريمة التي تقول” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة”.

لا أخفي عليك أيها القارئ الكريم، أني قد سبق وسافرت مع الشيخ في إحدى رحلاته الطويلة إلى “العتبات المقدسة” وقطعنا الصحاري والفيافي والقفار. لم تكن الرحلة سهلة أبداً. دامت شهراً أو بعض شهر على ما أذكر، ومرت أيام لم تغمض لي فيها عين، لا في الليل ولا في النهار. كثيرة كانت المرات التي أفقت فيها من نومي مرتبكاً، أفكر ما عساه الشيخ قد عنى بهذه الكلمة العويصة، وتلك الجملة التي استغلق علي فهمها، فأعود إلى رشدي، ويعود إلي رشدي، وأتذكر قول الذي سأل أبا تمام مرة: لماذا لا تقل الشعر الذي يفهم؟ فيحيبه أبو تمام: وانت لماذا لا تفهم الشعر الذي يقال؟

 مهما يكن من شيء، فقد كان من حسن حظي أنني اصطحبت في رحلتي حمامة زاجلة صنعت لها قفصاً من خشب ثبته على ظهر ناقتي، وكنت كلما استعصت علي كلمة من كلمات الشيخ، طيرت الحمامة إلى دار إبن منظور، الواقع على الجانب الآخر من الصحراء، فأروي غلتي من “لسانه”. لم أشأ طوال الرحلة أن أسأل الشيخ عن المعاني حتى لا أثقل عليه، يكفيني أنه أحسن الظن بي ساعة كان يتحدث معي بتلك “اللغة العالية” الشبيهة بلغة القديسين، فأشعر بأن من اللازم علي أن أجتهد، لأكون عند حسن ظنه. … (يتبع(