في الأيام الأولى للحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر كانت الولايات المتحدة الأميركية تستنفر سفنها وحاملات طائراتها وأساطيلها البحرية تجوب المحيطات لتحط قبالة السواحل الفلسطينية التي بدت في السنوات الأخيرة مركز ثقل دولي لما تحتويه من آبار غاز اتضحت أهميتها في الحرب الكونية التي تدور بين روسيا وأوكرانيا بإصطفافاتها البعيدة فهل جاءت السفن وحاملات الطائرات تحمي اسرائيل المدججة بكل الأسلحة البرية والجوية والبحرية أم لتحمي شيئاً آخر ؟
كانت غزة قبل ربع قرن على موعد مع المناسبة أو الحدث الذي سيحدد مستقبلها أو تاريخها الذي ستكتبه بالدم لاحقاً عندما اكتشفت شركة بريطانية ” بريتش غاز ” التي امتلكت حق التنقيب في بحر غزة حقلاً للغاز يبعد حوالي عشرين ميلاً عن المدينة وكان زعيم الفلسطينيين العائد قبل سنوات قليلة من المنفى في العام الأخير للألفية يفتتح حقل مارينا وقد اختلط عليه الفرح وهو يردد ثلاث مرات ” الغاز الفلسطيني ..الغاز الفلسطيني … الغاز الفلسطيني ” بعد أن اعتاد على لازمة ” ثورة حتى التصر ” ثلاث مرات ، كانت لحظة نشوة حين حلق الرجل بحلمه الذي لم يكتمل معتبراً أن تلك واحدة من بوابات النصر والاستقلال الإقتصادي معتقداً أنه اطمأن على شعبه بانه لن يجوع بعد الآن .
حسب التقارير حينها كان يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا على عائد بين ستة إلى سبعة مليارات دولار سنوياً لو بدأت حقول الغاز التي تم اكتشافها نهاية تسعينات القرن الماضي بالإنتاج وهذا الأمر لا يرتبط بإسرائيل ولو كان الامر بيدها لما سمحت بالتنقيب ولما أجازت عطاءاتها لكن أهمية ذلك الدخل لم يكن فقط في تأمين مستلزمات الطاقة وتخليها عن الإعتماد على اسرائيل وموانئها ومعابرها بل تعني استقلالاً اقتصادياً حين تتحول فلسطين إلى مصدرة للغاز بما يعزز من حضورها الدولي ” الحضور والنفوذ القطري نموذجاً ” ما كان يعني آنذاك تخفيف الإعتماد على الدول المانحة وتلك لها استحقاقاتها السياسية وانتهاء وما يرافقها من اشتراطات مرتبطة بتبعية مالية تفرض تبعيتها السياسية.
منعت الانتفاضة الثانية الفلسطينيين من التقدم في استغلال تلك الثروة التي وصفها عرفات بأنها ” هبة الله لشعبنا ” وكانت تلك الانتفاضة فرصة اسرائيل لإعاقة العمل بالمشروع حتى جاء أرئيل شارون عام 2001 رافضاً شراء الغاز من الفلسطينيين كأنه كان يعتبر أن هذا حق لإسرائيل كدولة احتلال حينها لم تكن اسرائيل قد اكتشفت حقول غاز قبالة سواحلها .
يعزو الدكتور مايكل تشودوفسكي كل السلوك الإسرائيلي تجاه غزة إلى مسألة الغاز وكل ما حصل سابقاً وربما هذا يعيد النظر للإنقسام الذي حصل بين الفلسطينيين وضمان ادامته وتدخل دولة مثل قطر المنتجة للغاز بإستمرار دعم حركة حماس التي تدير غزة بعيداً عن السلطة المعترف بها والمخولة بعقد اتفاقيات التنقيب والبيع وبقاء حكم الحركة الإسلامية في غزة وهي الحركة غير المعترف بها والتي تضمن عدم قدرة حركة حماس عقد اتفاقيات تجارية دولية لغياب مشروعيتها بل ضمان تبكيته أو ضمان تواجد البوارج الإسرائيلية لتحتل سواحل ومياه غزة أو بالأحرى لإحتلال حقول الغاز وإبقائها تحت السيطرة العسكرية ففي يناير عام 2008 أي بعد سيطرة حركة حماس على غزة وطردها للسلطة بستة أشهر كانت شركة ” بريتش غاز ” تغلق مكاتبها في تل أبيب مدركة أن هذا الحال سيتحول إلى دائم وأن اسرائيل ستحافظ على هذا الشكل من الإنقسام الفلسطيني لتمنع أي شكل من أشكال الإكتفاء الذاتي وإبقاء الفلسطينيين رهن التسول أو التوسل وتلك لها استحقاقاتها السياسية .
هل يمكن تفسير الزلازل العنيفة التي ضربت غزة من منظور الغاز كما يقول الدكتور تشودوفسكي ؟ الإنتفاضة الثانية تقلب الطاولة وتستدعي البوارج الإسرائيلية لإحتلال البحر ” التقارير تثبت أن اسرائيل كانت تتدرب على مواجهة الفلسطينيين قبل اندلاع الإنتفاضة بشهرين ” ثم الصراع بين حركتي فتح وحماس الذي ينتهي بطرد الحركة الإسلامية للسلطة ما يعني تخزين الغاز واستمرار السيطرة الإسرائيلية على البحر ثم ما علاقة الحرب الحالية بالغاز وهل يمكن ربطها أو على الأقل ربط نتائجها ؟
لا يمكن فصل ما يقوله الرئيس الأميركي الذي اعتاد على الثرثرة عما يحدث في غزة وإذا كانت الحرب الدائرة في أوكرانيا التي يعتبرها ترامب أنها حرب بايدن وهي ما تطلبت ضمان استخراج الغاز في محاولة لتخفيض المداخيل الروسية التي تصب في الجهد الحربي الروسي الذي يعتمد على الغاز ويعيد ذلك للذاكرة اصرار ادارة بايدن على اتفاق الغاز بين اسرائيل ولبنان نهاية أكتوبر 2022 لأنها كنت بحاجة لكل متر من الغاز وهو الذي لم يمس في الحرب الأخيرة بين حزب الله واسرائيل التي استمرت لاكثر من عام قبل أن تتوقف نهاية نوفمبر من العام الماضي .
عام 2000 اكتشفت شركة بريتش غاز البريطانية التي كانت قد حصلت على حق التنقيب في مياه المتوسط قبالة قطاع غزة حقلي غاز الأول مارينا 1 والذي يقع على بعد أكثر قليلاً من ثلاثين كيلومتر إلى الجنوب الغربي لمدينة غزة ويقع على عمق 603 أمتار تحت سطح البحر أما الحقل الآخر مارينا 2 الحدودي فهو أصغر ويمتد عبر الحدود الدولية الفاصلة بين المياه الإقليمية لقطاع غزة والمياه الإقليمية لإسرائيل حيث كان يشكل وقوعه على الحد الفاصل أزمة للفلسطينيين لإدراكهم حجم القوة الإسرائيلية وإمكانيات الإستخراج من الجهة الإسرائيلية وقدرتها على قمع وسيطرة جيشها على المنطقة الحدودية برياً وبحرياً .
منذ اليوم الأول للحرب طالب رئيس حكومة اسرائيل الفلسطينيين الذين يتواجدون شمال وادي غزة الذي يقسم القطاع إلى نصفين بإخلاء الشمال والنزوح جنوب الوادي ولأن حقول الغاز تقع قبالة النصف المطلوب اخلائه ما يعني سيطرة اسرائيل على حقول الغاز كان ذلك أمام اهتمام كثير من المراقبين والخبراء وقد عملت اسرائيل على تدمير كل ممكنات الحياة حتى لا يبق متسعاً للعيش في ذلك النصف الذي يقابل الثروة الهائلة في البحر وعندما لم يستجب مئات الآلاف من الفلسطينيين في الأشهر الأولى للحرب للإنتقال نحو الجنوب رغم السحق والدمار والترويع قامت بخلق مجاعة بلغت ذروتها في مارس 2024 وهو الشهر الذي أعلنت خلاله الولايات المتحدة عن اقامة رصيف بحري للمساعدات والذي لم يجر استخدامه ثم جرى تفكيكه وكانت مأساة المجاعة أشد وقعاً من القتل لأن ألم الجوع ممتد .
بعد انتهاء هدنة يناير الماضي قامت اسرائيل من جديد بالسيطرة على شمال غزة الذي تجمع ساكنوه في مدينة غزة ثم بعد ذلك طلبت من سكان المدينة مغادرتها نحو الجنوب وقامت باجتياح المدينة في سبتمبر الماضي وكادت أن تُرَحِّل ما تبقى من السكان وتكمل سيطرتها وتحقق مشروعها الكبير عندما لم يتبق في المدينة ما يعادل مائتي ألف من مجمع مليون وثلاثمائة ألف هم سكان الشمال لولا موافقة حركة حماس على خطة الرئيس الأميركي ترامب التي قطعت الطريق على استمرار اسرائيل بالحرب والتهجير .
لكن اسرائيل بعد خطة ترامب بقيت تسيطر على 53% من قطاع غزة والتي نصت الخطة على انسحابها منها بعد مفاوضات المرحلة الثانية والتي ترتبط بنجاح تفاصيل أخرى منها ما يتعلق بسلاح حماس وتجريدها منه أو موافقتها على ذلك وهو موضوع لا أحد يضمن نجاح تلك المفاوضات وبالتالي هي مقدمة لتواجد اسرائيلي دائم وهو ما سقط سابقاً من بعض المسؤولين الإسرائيليين منذ بداية الحرب وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو بأن اسرائيل ستبقى مسيطرة على غزة إذ تشكل النسبة الكبيرة التي تحتفظ فيه اسرائيل في الأماكن الأكثر أهمية فالخط الشرقي يعتبر السلة الغذائية التي لا يمكن لقطاع غزة الحياة بدونها على الإطلاق حث الشريط الزراعي يقع شرق شارع صلاح الدين لان المنطقة الغربية غرب الشارع هي مناطق سكنية وكذلك المنطقة الشمالية بالإضافة لأهميتها الغذائية حيث المياه الأفضل للقطاع والفواكه التي تنتج هناك بالإضافة للخضروات والفراولة التي تشتهر بها غزة وتصدرها تتم زراعتها وانتهاجها في منطقة بيت لاهيا التي تقع تحت السيطرة لكن الاهم من ذلك أن حقل غاز مارينا 2 يقع قبالة تلك المنطقة ما يعني أنه إذا قررت اسرائيل إدامة السيطرة على بيت لاهيا بحجة أنها منطقة حدودية هذا يعني الإستيلاء على حقل الغاز الصغير أما الحقل الكبير مارينا 1 فالبوارج الإسرائيلية تحتله بكل الظروف ولنا أن تقدر أن اسرائيل التي بدأت تتحول إلى دولة مصدرة للغاز منذ حوالي العقد أن التقديرات تقول أن الآبار الإسرائيلية للغاز ستنضب بعد ثلاثين عاماً من بدء الإنتاج …!
جاءت الحرب على غزة لتفتح على ما هو أبعد من الصراع الدائر منذ ثمانية عقود فإسرائيل لا تتصور في أسوأ كوابيسها أن الفلسطيني يصبح مصدراً للغاز وصاحب نفوذ اقليمي باعتباره يمتلك واحد من ممكنات القوة الإقتصادية في العالم ولا يتصور أن هذا الغاز الموجود على بعد كيلومترات قليلة من مناطق سيطرته على شعب آخر ممكن أن يتركه ليتصرف به الفلسطيني ويصنع نفوذه هنا جاءت الأحداث التي حولت الغاز الفلسطيني من نعمة إلى نقمة أو هكذا حوّله الإسرائيلي ليكون سبباً لمزيد من الاطماع في غزة بعد أن قرر في ثمانينات القرن الماضي أن يتخلى عن غزة لأن لا شيء يغريه في تلك المنطقة الفقيرة البائسة .
هنا جاء دور الأميركي فإدارة بايدن كانت تبحث عن كل سنتيمتر من الغاز وفرضت اتفاقاً في منطقة شهدت استعصاءاً لسنوات طويلة بين اسرائيل ولبنان ثم جاءت بعدها إدارة ترامب الرئيس التاجر القادم من عالم المال والأعمال والعقارات الذي يدير سياساته الخارجية فقط بالإعتبارات المالية والصفقات والأرباح ، جاءت وسط حرب إبادة يشنها الشريك الإسرائيلي على غزة التي تعتبر منطقة واعدة بالمعنى الإستثماري ويقوم الشريك بمسحها تماماً ما يؤهل لبدء مشاريع على اليابسة تضاف للإستثمار في المياه .
في اعتراف ترامب ب ” أن نتنياهو سينهي العمل في غزة وسنتسلمها منه ” ما يشي بوضوح كيف تفكر الإدارة الاميركية والتي نصبت نفسها لرئاسة ما أسمته مجلس السلام لإدارة غزة أي ادراة إعادة الإعمار والشركات والاموال وإدارة الغاز وكان صهر ترامب جاريد كوشنير الذي ينهمك الآن بقوة في الملف بعد أن غاب بداية تشكيل الإدارة الجديدة حيث للحظة بدا أنه تم استبعاده يعود بقوة فيعلن أن لغزة شاطيء جميل ينبغي استثماره وهكذا تتقاطع الرؤى المحمولة على إبادة شعب الرؤيتان الإسرائيلية التي تقوم بالتطهير العرقي لتسلم الإدارة الأميركية غزة نظيفة لتبدأ مشاريعها فهل هذا يكفي لتفسير غزة من منظور الغاز ؟ المتابعون منذ سنوات والمتخصصون في ملف الغاز يجيبون ب ” نعم “….!
