تهجير غزة والتوأمة بين واشنطن وتل أبيب

         الحديث عن الولايات المتحدة كوسيط للصراعات وخاصة بين الفلسطينيين واسرائيل بات حديثاً يبتعد عن فهم السياسة في الشرق الأوسط وخصوصاً  بعد حرب الإبادة التي شنتها اسرائيل على القطاع والدور الأميركي الشريك فقد طار الرئيس السابق جو بايدن بسرعة يجتمع مع مجلس الحرب في اسرائيل كقائد عام القوات المسلحة الأميركية بعد أحد عشر يوماً من بدء الحرب فقط ويفتح مخازن أسلحته بلا حدود ويراقب كيف تسحق اسرائيل المدن في القطاع وكيف يتساقط الأطفال والنساء كل ذلك تم بدعماً أميركياً واشرافاً مباشراً .

                    وكان  من العبث أيضاً على امتداد فترة الحرب أن يطلب من الولايات المتحدة دوراً في وقفها أو الضغط على اسرائيل لتجنب المدنيين رغم اعتراف بايدن في الأسابيع الأولى للحرب بأنها تؤثر على صورة الولايات المتحدة فلم يكن يهمها سوى إعادة الهيمنة العسكرية الإسرائيلية على المنطقة واستعادة قوة الردع التي انهارت صورتها في السابع من أكتوبر فكان من العبث التفريق بينهما وقد وقفت واشنطن في مجلس الأمن ضد أية دولة حاولت تقديم مشروع قرار يوقف الحرب كانت تتم مجابهته بالفيتو .

                  العلاقة الأميركية الإسرائيلية ليست معقدة للحد الذي يحتاج إلى دراسات لفهمها بل هي أكثر وضوحاً مما يعتقد الكثيرون أو ممن لا يريدون أن يروا الأشياء على حقيقتها فإستقبال ترامب لرئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو مرتين واحدة في الرابع من شباط بعد أيام من تنصيبه وهو موعد استثائي والثانية في السابع من نيسان يعكس ربما طبيعة هذه العلاقة القائمة على التبني والتي لا يخفي دونالد ترامب طبيعتها فهو يصرح في اللقاء الأخير مع نتنياهو مفاخراً بأنه أفضل صديقاً بين الرؤساء الأميركان لإسرائيل .

                وينسحب ذلك أيضاً على مفاوضات الأسرى التي تظهر فيها الولايات المتحدة كوسيط ممثلة برجل ترامب ستيف ويتكوف الذي أدار مفاوضات صفقة يناير الماضي وحين تنصل نتنياهو من المرحلة الثانية لم تعلق الولايات المتحدة على هذا الخرق للإتفاق الذي رعته ولم تحمل اسرائيل المسؤولية رغم وضوح الفاعل الإسرائيلي بل حمّلت بشكل أو بآخر حركة حماس مسؤولية  انهيار الإتفاق وعدم إطلاق سراح الأسرى ليطلق الرئيس الأميركي تهديدات فتح الجحيم على غزة مؤذناً بإستئناف حرب الإبادة التي عادت ضد المدنيين والأطفال .

                صحيح أن كثير من الباحثين تناولوا تلك العلاقة من قبيل الجانب التاريخي وطبيعة التشكيل المتشابهة لكلا الكيانين أي تشابه القيم والمثل فقد قام كلاهما على أنقاض أصحاب الأرض الأصليين بعملية طرد وتهجير وإبادة حتى لسكان تلك الأراضي واستعمل كلاهما الكتاب المقدس بجزئيه العهد القديم والعهد الجديد كواحد من أدوات السيطرة وطبيعة الثقافة المتشابهة بعد التشكيل الكياني واختراع نظريات تُشرعن الفعل الكبير الذي قام به كل منهما كنظريات المنفعة وأحقية إدارة الأرض لمن هو قادر على استغلالها ما جعل تماثلاً حتى في العقل الثقافي وهذا مهم في تفسير عملية التبني من قبل الولايات المتحدة لإسرائيل ولكنه بالقطع لا يكفي تماماً .

                 أقيمت اسرائيل على يد الأوروبيات الحديثة منتصف القرن الماضي سواء بتشريع إقامتها بقرار بريطاني ووعد من وزير خارجيتها وظلت تلك العواصم تتكفل برعايتها وتسليحها وتشريع احتلالها فحتى العام 67 والحرب التي شنتها اسرائيل على الدول العربية كانت حتى ذلك الوقت تتسلح بالسلاح الفرنسي فقد قاتلك بطائرات الميراج وبنت اسرائيل مفاعلاها النووي في خمسينات القرن الماضي بمساعدة فرنسية  لكن بعد ذلك انتقلت للحضانة الأميركية التامة التي ظلت ترعى احتلال اسرائيل للمناطق وتمول حروبها وتوفر لها الغطاء الدولي وبالتالي الحديث عن فارق بين الدولتين هو حديث لا يستوي مع وقائع السياسة وما جسدته في عقودها الماضية .

               حرب الإبادة على غزة هي  أكثر الحروب وضوحاً ووضاعة تشارك فيها الولايات المتحدة أو توفر لها الغطاء وكل متطلبات القتل فحجم ما قتلت اسرائيل من النساء والأطفال وهو ما يساوي ثلثي عدد من قتلتهم من ضحايا الإبادة يشكل إدانة تاريخية لأكثر الحروب بشاعة وللمشاركين فيها قبل الحديث عن الذين صمتوا على هذا الفعل الذي يشكل جريمة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة البشرية وليس من المبالغة القول أن هذه الحرب أسقطت معها المنظومة القيمية الكونية لصالح منظومة أكثر انفلاتاً من عصر حاولت فيه البشرية بعد حروبها الطاحنة أن تُرَشّد عمليات القتل والقتل الجماعي ومحاولة ضبط السلاح في الحرب على شكل قوانين انهارت جميعها في هذه الحرب .

                عادت اسرائيل لمشروعها الذي بدا أنه توقف لحظة وقف الحرب المؤقت بفعل الهدنة التي تمت في يناير الماضي حين عادت الناس إلى شمال قطاع غزة بعد أسبوع من وقف إطلاق النار وهو مشروع التهجير والرغبة بتفريغ سكان قطاع غزة كما فعلت في المدن والقرى الفلسطينية عام 48 وبينما كانت نصوص التهدئة تنص في مرحلتها الثانية على التفاوض على نهاية الحرب ووقف العدوان وبدء إعمار قطاع غزة كانت اسرائيل تجهز خياراتها بتفريغ غزة وتتواصل مع دول على سبيل استقبال سكان القطاع بعد أن شكلت مديرية خاصة لتهجير الفلسطينيين صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية في الثالث والعشرين من مارس الماضي تتعاون فيها عدة وزارات تشكل وزارة الدفاع عمودها الفقري ومع استئناف الحرب بدأ الجيش الإسرائيلي العمل بشراسة في منطقة رفح المدينة والمخيمات والتي تشكل 17% من مساحة قطاع غزة وطرد سكانها وأثناء ذلك قتلت اسرائيل 15 مسعفاً في فضيحة تكشفت أكثر بعد العثور على هاتف أحد المسعفين الذي كذب الرواية الإسرائيلية التي حاولت أن تشرعن فيها الجريمة ليقول بعدها الجيش في رواية أخرى أن الجنود كانوا مشوشين ولكن الأمر لم يكن كذلك .

              رفح المدينة التي تقع أقصى جنوب القطاع التي تحادي مصر وبالتحديد تجاور سيناء وهي المنطقة التي رددت كثيراً اسرائيل اسمها كخيار لترحيل الفلسطينيين إليها وكذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أشار لها كخيار أولي في بدايات الحديث عن التهجير مطلع شباط الماضي ولمصادفات التاريخ أو مكره فقد ظهر مشروع سيناء منذ عهد الملك فاروق في مصر وتجدد مطلع خمسينات القرن الماضي تعاونت فيه الولايات المتحدة واسرائيل للضغط على مصر وها هو التاريخ يعيد نفسه وهو يسبح في بركة من الدم الفلسطيني .

                 في الإجتماع الذي ضم ترامب نتنياهو في البيت الأبيض في السابع من ابريل عاد ترامب لهوايته العقارية في رؤيته لقطاع غزة بعد أن أشار مسؤولين من البيت الأبيض خلال الأسابيع الماضية بأن اقتراح الرئيس ترامب بترحيل سكان غزة قد أصيب بالفتور ولم يعد الرئيس يتحدث كثيراً حول الأمر لكنه عاد بقوة من جديد إذ كان أكثر وضوحاً من المرة السابقة مطلع شباط وأكثر حدية  ليقول بشكل جلي ما يعيد الخطر والقلق الذي كاد أن يتبدد فقد قال “أن دول أخرى مستعدة لإستقبال فلسطينيين من غزة لتجنيبهم ما يتعرضون له من قتل وبؤس…لا أفهم لماذا أقدمت اسرائيل في السابق على التخلي عن قطاع غزة ….كل ما نسعى إليه هو تمكين سكان قطاع غزة من أن يكون لديهم خيار الخروج إلى بلدان أخرى ……قطاع غزة أشبه بمصيدة للموت هو ومكان خطر للغاية ويحتاج سنوات لإعادة إعماره ….ثم يختم بالأشد خطورة قائلاً سنسمي غزة منطقة الحرية بعد نقل السكان منها ” .

                  بعد سنة ونصف من الخراب والدمار لم تكتف اسرائيل بما فعلته في القطاع وبات واضحاً أن تل أبيب راهنت على الرئيس الأميركي الجامح  في محاولة منها لوضع ما تعتبره حلاً نهائياً للقطاع بمساعدة هذا الرئيس ترامب المستعد للذهاب بعيداً نحو تحقيق الغرائز الإسرائيلية المتوحشة والتي تصل أقصاها بمشروع تفريغ غزة من سكانها وهو يمثل أقصى درجات العنصرية فكيف يمكن إزاحة مجموعة سكانية ما من أرضها من أجل ضمان أمن مجموعة سكانية مدججة بجيش لحمايتها بدل حل المسالة سياسياً يجري الإنتصار للقوي ومن يملك أعتى الأسلحة على حساب مجموعة من البسطاء العزل ؟ هكذا جرى للهنود الحمر أو قبائل المايا والإزتيك .

                    في محاولاتها التاريخية لإخماد ثورة الفلسطينيين المشتعلة لم تتورع اسرائيل وجيشها عن استخدام كافة الوسائل التي تمثل أدوات القوة أبرزها في سبيل إسكات الفلسطينيين وتحديداً كان قطاع غزة الذي لم يتوقف يوماً عن الكفاح ضد المحتل ميداناً لتجارب الأسلحة وتجارب السياسة فحتى ما قبل احتلالها للقطاع منذ أن كان في عهدة الإدارة المصرية كانت اسرائيل تشن حملات ضد القطاع وقد تكثفت تلك بعد احتلالها عام 67 وسيطرة اسرائيل على المنطقة حتى اندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى عام 87 التي سميت بإنتفاضة الحجارة التي كثفت فيها اسرائيل بطشها للفلسطينيين بسياسة كسر العظام التي انتهجها وزير الدفاع آنذاك ورئيس وزراء اسرائيل بعدها الجنرال اسحق رابين لكن النضال الفلسطيني كان يتصاعد مع تلك القوة .

                 وبعدها جربت اسرائيل أن تخدع الفلسطينيين بعملية سلام وهمية تلتف خلالها على حقوقهم الوطنية لكنهم لم يبتلعوا الخديعة مصرّين على عدم التفريط بحقوقهم ليستمروا في تشكيل أزمة مستمرة للدولة المحتلة وهكذا فإن اسرائيل بعد السابع من اكتوبر عندما تقدم قراءة للقطاع فهي تعتبر أن قطاع غزة عصي على الحل بل قدم في السابع من اكتوبر نموذجاً لتهديد وجودي لأركان الفكرة الإسرائيلية كوطن آمن للجاليات اليهودية في الخارج لكنه لم يكن كذلك .

             هنا جاءت فكرة التهجير مع اعتقاد اسرائيل استحالة تطبيع أو تطويع فلسطينيي غزة بالحرب أو بالسلم ولأن العقل الإسرائيلي المسكون بأسطرة الأيدلوجيا وكراهية الآخر المستندة لتقديس التنكر للأغيار يجد أن لا حل بالحرب أو بالسلم وأن الحل الوحيد هو بإقتلاع كل شيء في غزة وتحويله لمنطقة خالية من السكان وهكذا ممكن أن يتحقق الأمن لإسرائيل طالما لا يوجد فلسطيني فقد اعتقد سابقاً أنه يمكن أن يحتوي هذا الشعب ليتفاجأ بأن هذا الشعب يصنع له مشكلة وجودية فالأرقام التي تنشر في اسرائيل عن الهجرة العكسية وهروب 1700 مليونير عام 2024 وحدها حسب صحيفة يديعوت أحرونوت  وهجرة وشركات التكنولوجيا تشي بأزمة للمشروع وهنا معضلة قادته ومعهم نشأت معضلة أميركية لا تقل لأن اسرائيل الإبن القريب هكذا يظهر الأمر عبر التاريخ ويجسده أكثر اللقاءات بين ساكن البيت الأبيض وبين بنيامين نتنياهو .

             هل تنجح اسرائيل في مشروعها ومعها الولايات المتحدة ؟ سؤال برسم إجابة القدرة والرغبة قدرة اسرائيل من ناحية ورغبة الفلسطينيين على جانبها الآخر وتلك جرى اختبارها مراراً فالفلسطيني يفضل الموت على الرحيل ولديه تجربة النكبة والشتات والمؤمن لا يلدغ من اسرائيل مرتين أما القدرة فهي تتعلق بتل أبيب وواشنطن وفي مقابلها قدرة العرب على المواجهة والتصدي لأخطر ما تفكر به اسرائيل من مشاريح تحسم فيها ما عجزت عنه لثلاثة أرباع القرن فهل تستطيع ؟ تلك سيحددها الفارق بين السلاح والإرادة …!