ضربات شاملة موجعة طالت قيادات جماعة الحوثي
حين بدأت القوات الأميركية في شنّ هجماتها في اليمن لم تكن واشنطن قد أعطت أي أجواء بهذا الاتجاه، حتى أن المنابر السياسية الأميركية لم تحضّر الرأي العام الدولي لتطوّر من هذا النوع. كشفت الضربات التي بدأتها الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثي (المعروفة باسم “أنصار الله”) في اليمن، عن توجّه مفاجئ لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتعامل بقوة مع الحالة الحوثية التي تتهمها واشنطن بتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب

المندب وممرات المنطقة. ويُعد الهجوم استكمالا، وليس تناقضا، للسياسة التي انتهجتها الإدارة السابقة التي لطالما يحمّلها الرئيس الحالي مسؤولية توريط الولايات المتحدة في حروب الآخرين. ولئن وعد ترامب ناخبيه بإخراج بلاده من حروب العالم، فإنه من خلال حملة اليمن يباشر استراتيجية ما أطلق عليه اسم “السلام عن طريق القوة”.
الأهداف والمقدمات
أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 15 (مارس) 2025 أنه أمر الجيش الأميركي بشنّ عملية عسكرية حاسمة وقوية ضد الحوثيين في اليمن، مشيراً إلى أن الحوثيين “يمارسون القرصنة والعنف والإرهاب ضد السفن والطائرات”. وأضاف أنه “لن تتمكن أي قوة إرهابية من منع السفن الأميركية من الإبحار بحرية في الممرات المائية بجميع أنحاء العالم”. وأشار إلى أن الهجوم يشمل قادة الحوثيين وقواعدهم ودفاعاتهم الصاروخية. وتوجه إلى الجماعة بالقول إنه “يجب أن تتوقف هجماتكم بدءاً من اليوم” وأضاف: “لن نتسامح مع الهجمات على السفن الأميركية، وسنستخدم القوة المميتة حتى تحقيق هدفنا”، مشيراً إلى أنهم إن لم يتوقفوا عن شنّ الهجمات، “ستشهدون جحيماً لم تروا مثله من قبل”.
ويعتبر هذا الإعلان من خارج سياق ما كان وعد ترامب به أثناء حملته الانتخابية بعدم دخول بلاده في حروب جديدة، وسحب أي انخراط لها في الحروب الحالية. وعلى الرغم من أن الهجوم جاء مفاجئا لم تسبقه تهديدات أميركية مبرمجة ومكثّفة لتحضير الرأي العام الأميركي والدولي، إلا أن توقيت بدء الهجمات ليس بعيدا عن استحقاقات ما ترسمه واشنطن للشرق الأوسط، لا سيما مستقبل مقاربتها لملف إيران، بما يكشف عن تحوّل استراتيجي في سياسة الإدارة الجديدة قد تتجاوز أهدافه مسألة أمن الممرات المائية.
كان الرئيس الأمريكي أصدر في 23 كانون الثاني (يناير) 2025، أي في اليوم التالي لتنصيبه رئيسا لبلاده، أمرا تنفيذيا يعيد تصنيف الحوثيين “منظمة إرهابية أجنبية”. وأعاد هذا القرار العمل بتصنيف كانت إدارته قد فرضته سابقا قبيل انتهاء ولايته الأولى. وكان الرئيس السابق جو بايدن قد ألغى هذا التصنيف بعد توليه منصبه في عام 2021. وبررت الإدارة الديمقراطية حينها قرارها بأن أتى استجابة لمخاوف أثارتها منظمات إغاثية بشأن تأثير القرار على عملها في

اليمن. وأشارت تلك المنظمات إلى أن تصنيف الحوثيين سيعيق تقديم المساعدات الإنسانية في مناطق واسعة من البلاد، بما فيها العاصمة صنعاء، التي يسيطر عليها الحوثيون.
وقد لفت المراقبين قبل 10 أيام من بدء الضربات، إعلانٌ جديد من وزارة الخارجية الأميركية، في 4 آذار (مارس) 2025، بتصنيف جماعة الحوثي، “منظمة إرهابية أجنبية”، في خطوة تأتي تنفيذا للأمر الذي وعد به الرئيس الأميركي ثم وقعه قبل ذلك. وجاء في بيان الخارجية أن “أنشطة الحوثيين تشكل تهديدا لأمن المدنيين والموظفين الأميركيين في الشرق الأوسط، كما تعرض سلامة أقرب شركائنا الإقليميين واستقرار التجارة البحرية العالمية للخطر”. وقد أوحى بيان الخارجية الأميركية بعد 6 أسابيع على الأمر التنفيذي لترامب بالتحضير لإطار سياسي-قانوني يوفّر شرعية للهجمات الأميركية لاحقاً.
سقوف الحملة الأميركية
كان زعيم جماعة الحوثي، عبد الملك الحوثي قد هدد، في 8 آذار (مارس) 2025، باستئناف العمليات البحرية ضد إسرائيل، ما لم تتراجع عن قرارها بمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة خلال 4 أيام. وأوضح الحوثي في بيانه أنه حال استمرار إسرائيل بعد المهلة في منع دخول المساعدات الإنسانية والإغلاق التام للمعابر، “فإننا سنعود لاستئناف عملياتنا البحرية ضد العدو الإسرائيلي”، مضيفاً “نقابل الحصار بالحصار”. وكانت الجماعة أوقفت هجماتها، في يكانون الثاني (يناير) 2025، في أعقاب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين حركة حماس وإسرائيل. غير أن تهديدات جماعة الحوثي، التي غالبا ما تُتهم بأنها تأتي تنفيذا لتوجيهات وسياقات إيرانية، قد تكون قد وفّرت بدورها المسوغ والمبرر لشنّ واشنطن هجماتها.
وفرت تهديدات الحوثي مبررا لعملية عسكرسة أميركية. أعلنت القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم”، مساء 15 آذار (مارس) 2025، أنها شنّت سلسلة عمليات شملت ضربات دقيقة ضد أهداف للحوثيين في اليمن مفتتحة بذلك حملة قصف طالت اهدافا نوعية طالت المواقع والبنى التحتية العسكرية ومراكز لوجيستية ومقرات القيادة في مختلف أنحاء اليمن. وأرجعت الضربات إلى ما اعتبرته “الدفاع عن المصالح الأمريكية، وردع الأعداء، واستعادة حرية الملاحة” البحرية.

وفيما تطوّرت التقارير بشأن خسائر الحوثيين جراء الضربات الأميركية، أشارت مصادر يمنية مراقبة إلى أن كانت أقوى وأوسع من تلك التي كانت تّشنّ في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، وخصوصا أنها استهدفت مراكز قيادية سياسية للجماعة في منطقة “الجراف” في صنعاء، والتي جعلتها الجماعة منطقة لقياداتها منذ ما قبول سقوط العاصمة عام 2014.
وقد تميّزت العمليات العسكرية بأنها أميركية لم تشارك بها بريطانيا كما في السابق (على الرغم من أن بيانات الحوثي الأولى تحدثت عن “عدوان أميركي-بريطاني”). وهذا يعني أن الضربات لا تندرج ضمن عمليات تحالف “حارس الازدهار” لحماية الملاحة الدولية، بل استجابة لاستراتيجية أميركية لها حسابات وأجندات أميركية. ورغم إعلان إسرائيل استعدادها للمشاركة بالعمليات، فإنه من المستبعد أن تسمح إدارة ترامب، في الوقت الراهن، بالمشاركة الإسرائيلية بهذه الضربات.
وكانت مصادر أميركية رسمية وشبه رسمية إضافة إلى تحليلات عسكرية قد وضعت ملاحظات بشأن العملية من أهمها النقاط التالية:
1-استهداف قلب القيادة الحوثية من خلال توجيه أولى الضربات إلى مركز القيادة في صنعاء قبل شنّ ضربات على بقية الأهداف العسكرية.
2-استخدام صواريخ باليستية وصواريخ توماهوك إلى جانب المقاتلات الأميركية كما اعتماد الكثافة النيرانية، وهي مؤشرات تختلف عن تلك في عهد بايدن، مع توقّع أن تستمر الضربات الأميركية ضد الحوثيين لأيام أو أسابيع.

3-عدم وجود أي قرار أو خطط بأن تغزو الولايات المتحدة اليمن برياً، أو إرسال قوات على الأرض، والاكتفاء بشن سلسلة من الهجمات على أهداف استراتيجية.
4- تستهدف العملية رادارات ودفاعات جوية وأنظمة صواريخ وطائرات مسيّرة، في محاولة لفتح ممرات الشحن الدولية بالبحر الأحمر
5-الكشف عن أن ترامب “لم يوافق بعد” على استراتيجية شن حملة عسكرية مكثفة بغية تجريد الحوثيين من سيطرتهم على مناطق بشمال اليمن.
سجالات طهران
يجمع المراقبون على أنه لا يمكن فصل قرار توجيه هجمات ضربات ضد جماعة الحوثي في اليمن عن سياق الاستراتيجية التي ستنتهجها إدارة ترامب في التعامل مع الملف الإيراني. ويرى خبراء أن ضرب جماعة الحوثي، كذراع مفترض من أذرع إيران في المنطقة (على الرغم من تأكيد طهران استقلالية قرار الحوثيين)، لا يبتعد عن مسار بدأ منذ اندلاع الحرب في غزّة في تكثيف الضربات الإسرائيلية، بدعم أميركي كامل، ضد أذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق، كما ضد الداخل الإيراني أيضا. ويرى المراقبون أنه في ظل ضعف حزب الله في لبنان، وانكفاء الفصائل الولائية في العراق، وسقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، فإن جماعة الحوثي تبقى السند الخارجي الأساسي لإيران في المنطقة،. ويعني ذلك أن النيل من قوة الحوثيين في اليمن، ينال بشكل غير مباشر من موازين القوى الإيرانية وأوراقها على طاولة أية تسوية مقبلة.
وقد نقلت الصحافة الأميركية عن مسؤولين أميركيين أن الضربات الجوية ضد الحوثيين تهدف أيضاً إلى إرسال تحذير إلى إيران التي تدعم الحوثيين. وذكّر مراقبون في واشنطن بأن الهجمات الأميركية جاءت بعد أيام من تسليم المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، في 12 آذار (مارس) 2025، رسالة من الرئيس الأميركي إلى المرشد الإيراني، علي خامنئي، تتعلق باستئناف المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني.
ولم تخل تصريحات ترامب بشأن العملية العسكرية في اليمن من رسائل واضحة، فقال إنه إذا هددت إيران الولايات المتحدة، “فإن أميركا ستحملكم المسؤولية الكاملة، ولن نكون لطفاء في هذا الشأن”. واستدعى هذا الموقف ردود فعل في طهران ما يؤشّر إلى اندلاع سجال بين البلدين. وقد ردّ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في 16 آذار (مارس) 2025، بالقول إن الولايات المتحدة “ليس لها الحق في إملاء” سياسة إيران الخارجية، بعدما دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب طهران إلى وقف دعم الحوثيين في اليمن “فورا”. وأوضح عراقجي أن “الحكومة الأميركية ليست لديها سلطة ولا حق في إملاء سياسة إيران الخارجية”، داعياً إلى “وقف قتل الشعب اليمني”.
كما نقلت منافذ إعلامية إيرانية عن حسين سلامي، قائد “الحرس الثوري” الإيراني، إن أي تهديد يأخذ طابعاً عملياً سيُقابَل برد مُدمِّر. وأكد سلامي أن جماعة “أنصار الله، بوصفها ممثلةً لليمنيين تتخذ قراراتها الاستراتيجية والعملياتية بنفسها”. غير ان مصادر يمنية شكّكت باستقلالية قرار الحوثيين في ظل وجود عبد الرضى شهلائي، وهو ضايط كبير في الحرس الثوري عينته طهران سفيرا لها لدى جماعة الحوثي. وتأتي الضربات التي تستهدف أحد “أذرع” إيران في المنطقة بعد أيام من كشف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن إدارة ترامب لن تكتفي بالتفاوض بشأن البرنامج النووي فقط، بل فرض شروط وقف دعم إيران لبعض الجماعات في المنطقة، ما قد يؤشر بأن إدارة ترامب تريد إخراج “الأذرع”، بما فيها الذراع اليمني، من أية مفاوضات.
اللافت في تصريحات ترامب ومواقف إدارته هو إطلاق سردية بشأن إيران تخلّط ما بين تحميلها المسؤولية ودعوتها للحلّ بوقف تقديم الدعم للجماعة في اليمن. وفي تلك السردية تعتبر واشنطن أن طهران هي صاحبة قرار وبيدها الحلّ وقد يتطلّب الأمر تعاونها، وإن راحت بعض التصريحات تهدد بتوجيه ضربات إلى إيران نفسها. ولئن تكاد طهران تُقسم على لسان حسين سلامي، قائد “الحرس الثوري”، بأنها بريئة من قرارات “مستقلة” تتخذها الجماعة في اليمن، فإن

الحدث اليمني يفتح ملفات التفاوض المؤجل بين طهران وواشنطن، بحيث تعوّل الولايات المتحدة على “سحق مميت” لورقة إيران اليمنية، فيما تعوّل إيران على عبثية الحالة الحوثية وسريالية قائدها، عبد الملك الحوثي، في الذهاب إلى تحدٍ يكاد يكون انتحاريا لأسطول ترامب في المياه المواجهة اليمن.
السلام عن طريق القوة
تمثّل الجماعة اليمنية تحديا لاستراتيجية يعتمدها ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط. وتقوم تلك الاستراتيجية على منطق “القوة” كمفتاح لأي “سلام”، سواء ذلك الذي يريده لـ “المسألة الفلسطينية” خططا لمستقبل قطاع غزّة، أم ذاك الذي يطمح إليه تمدّدا لاتفاقات أبراهام، أم ذلك الذي ينشده لإغلاق ملف إيران. لكن “القوة” أيضا هي مفتاح ما يرسمه لتقديم بلاده كقوة جبارة كبرى تفرض على الحلفاء في أوروبا قبل الخصوم في روسيا الصين الخرائط المثلى للاصطفافات الجديدة في العالم. فمن يريد الإمساك بالعالم عليه السيطرة على البحار. فهل يعرقل الحوثيون خطط ترامب؟ طبعا لا.
فالجماعة ليست إلا ظاهرة ميليشياوية مهما اشتدّ عودها وامتلكت وسائل لتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وما أنجزته الجماعة في برّ اليمن وبحره، لا سيما منذ استيلائها على العاصمة صنعاء عام 2014، لا يقوم على فائض قوة، بل على ارتباك وتخاذل المجتمع الدولي، بما في ذلك إدارات البيت الأبيض في التعامل مع حالة لطالما اعتبرت من الأعراض الجانبية للتعامل مع الحالة الإيرانية. ولئن تجنّبت إدارات باراك أوباما وجو بايدن الصدام مع صنعاء من أجل اتفاق مع طهران، فإن إدارة ترامب في ولايته الأولى لم تحدّ عن ذلك المسار، ولم تصنّف الحوثيين منظمة إرهابية، إلا بشكل صوري ركيك، وقبل مغادرة ترامب البيت الأبيض بعدة أيام.
يطلّ ترامب في الولاية الثانية على ملف اليمن وفق تحوّلات أنتجتها حرب غزّة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بالرعاية والدعم الكاملين لإدارة سلفه، بايدن. أنتجت التحوّلات تحوّل الصراع بين إيران وإسرائيل إلى مستوى مباشر شهد تبادل ضربات مباشرة، وأطاحت بامتدادات طهران في المنطقة، لا سيما في سوريا ولبنان بعد غزّة. الأمر يجعل من جماعة الحوثي حالة نافرة، وخارج سياق، نكتشف يوما بعد آخر أن الولايات المتحدة سهرت على رسمه لمحاصرة الظاهرة الإيرانية التي التبس دائما التعامل معها منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979.
تمثّل الحالة الحوثية نموذجا لقدرة الميليشيا، ليس على الاستيلاء على الدولة فقط، بل تهديد الأمن الإقليمي والدولي أيضا. والأمر يجري بأكلاف متواضعة إذا ما قورنت بأكلاف وضع منطقة الخليج، كمصدر أساسي للطاقة في العالم، وممرات مائية دولية حيوية لاقتصاد العالم تحت مرمى مسيّرات وصواريخ تُهرّب أو تُصنع في ورش خلفية. ولم تهتم الإدارات الأميركية، حتى تلك الحالية، بالصراع اليمني إلا حين بات يمسّ “لعبة الأمم” وأصبح يمثّل الذراع الإيرانية الضاربة الوحيدة والأكثر “إزعاجا” لقواعد تلك “اللعبة” وتقاليدها. والواضح أن الضربات الأميركية تدفّع الحوثيين ثمن مخالفة تلك القواعد ولا تهدف إلى تهديد سطوتهم على اليمن.
يخبرنا وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، بحدود العمليات العسكرية ويَعِدُ بأنها تنتهي حال إعلان جماعة الحوثي أنها ستتوقف عن إيذاء السفن وتعطيل الملاحة الدولية داخل المياة التي يطل عليها اليمن. يقدم وزير الخارجية، ماركو روبيو، رواية أدقّ تقول إن العملية تهدف إلى إجبار الحوثيين على وقف تهديدهم للملاحة أو حرمانهم من القدرات على فعل ذلك. ويقدم للرأي العام الأميركي جردة حساب تقول إن الحوثيين تعرضوا لـ 147سفينة حربية و 145 ناقلة تجارية تابعة لبلاده خلال 18 شهراً، بمعنى آخر أنه يخبر أنصار ترامب بأن الضربات تجري دفاعا عن “أميركا أولاً” ومصالحها في العالم.
أوراق الحوثيين
سيكون مستبعدا استسلام جماعة الحوثي واستجابتهم لشروط واشنطن بإعلان وقف تهديد الملاحة الدولية، ليس لأن الجماعة تملك وسائل ردّ الهجمات والقدرة على استيعابها، بل لأنها، في بطانتها العقائدية وشبكة مصالحها في حكم ما تحكمه في اليمن، لا تملك دهاء التراجع والمناورة. بالمقابل سيكون مستبعدا أيضا أن لا تعالج واشنطن المعضلة التعامل مع جذورها اليمنية بما يتطلّب مقاربة تشارك بها الحكومة الشرعية في اليمن وحواضنها الإقليمي.
والحال إن ترامب في خوضه هذه المعركة يورط الولايات المتحدة بصراع عملت كافة إدارات واشنطن على تجنبّه. ولئن تُسرّب إدارته أن لا خطط لهجوم بري أو عمليات على الأرض، فإن الحوثي وجماعته يشعرون بالاطمئنان وحدود “القطوع” الحالي، بما يتيح له الإعلان عن قصف “أرمادا” أميركا أمام ناظريه، فيما تبقى المغاور في الجبال حامية لزعامته.
بعد أيام من بدء الضربات الأميركية باشرت جماعة الحوثي إطلاق صواريخ استهدفت أصولا بحرية عسكرية أميركية في البحر الأحمر وأهدافا داخل إسرائيل، بعد توقف تزامن مع اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة في كانون الثاني (يناير) 2025، ما أثار تساؤلات حول قدرة استمرار الحوثيين في تحدي أهداف الضربات الأميركية، وقدرة العملية العسكرية الأميركي على إجبار الحوثيين على وقف هجماتهم.
ويقول خبراء يمنيون في الشؤون العسكرية إن الضربات التي توجهها القوات الأميركية هي الأكثر شمولا وتركيزا ضد الجماعة منذ بداية الصراع في اليمن، ويعتقدون أن بنك الأهداف يعتمد على معلومات تزودها الوسائل التقنية عبر مراقبة جوية تساهم فيها الاقمار الاصطناعية ومراقبة شبكة الاتصالات، وأن نسبة العامل البشري في جمع المعلومات متوفرة لكنها تبقى محدودة بالنظر إلى الإجراءات الأمنية المشددة التي يتخّذها الحوثيون، وبالنظر إلى تعقّد شبكة المواقع والإنشاءات العسكرية التابعة لهم.
وتلفت مصادر يمنية إلى صعوبة الطابع الجغرافي لانتشار الحوثيين في اليمن، لا سيما داخل الجبال والوديان، ما يجعل من القضاء على القوة العسكرية للجماعة أمراً يحتاح إلى وقت طويل وقصف مستمر قد يستغرق شهوراً وربما سنوات. وتلفت إلى أن إعلان الصحافة الأميركية نقلا عن مصادر الإدارة في واشنطن عن عدم وجود أي خطط لتدخل بري أميركي في المواجهة مع الحوثيين، يعطي الجماعة في اليمن رسائل اطمئنان إلى الحدود القصوى للعملية العسكرية الأميركية والتي لن تشكّل تهديدا وجوديا جذريا.
وترى بعض التحليلات أن إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي، مايك والتز، بأن الضربات الأميركية ضد الحوثيين ستتوقف فور إعلانهم التوقف عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، أعطى الجماعة في اليمن معطى عن محدودية الهدف السياسي للخطة الأميركية وخلوها من أي تهديد لسطوتها داخل اليمن ونفوذها هناك. كما أشار باحثون إلى عدم وجود أي معلومات عن تنسيق يجري بين واشنطن والقيادة الشرعية في اليمن، برئاسة رشاد العليمي، أو تنسيق مع القوات العسكرية التابعة لها، ما يقسّر غياب أي تحركات عسكرية للشرعية اليمنية باتجاه المناطق التي يسيطر عليها الحوثيين.
ومن الملاحظ أن الضربات الأميركية تجري وسط صمت دولي، حتى من قبل الدول المطلة على البحر الأحمر. كما أن هناك غيابا لأي تنسيق بين واشنطن والدول المعنيّة بأمن اليمن، لا سيما الدول التي شكّلت التحالف العربي في عام 2015 بقيادة السعودية، ما يعني أن دول المنطقة غير معنية بأي عملية عسكرية جراحية أميركية لا تتناول حلا جذريا للأزمة في اليمن.
بالمقابل يرى خبراء في العلوم الاستراتيجية أن العملية العسكرية الأميريكية قد تؤدي إلى اضعاف الهياكل والبنى العسكرية لجماعة الحوثي، بما يجعلها آيلة إلى السقوط في حال تطوّر الأمر إلى هجمات برية من قبل القوات اليمنية الشرعية، على منوال الخسائر التي أنزلتها الضربات الإسرائيلية بقوات النظام السابق في سوريا ومواقع إيران وميليشياتها التابعة. ويلفتون إلى أن الجغرافيا السورية هي أسهل من الجغرافيا اليمنية، وأن الضربات الإسرائيلية استغرقت سنوات وليس أسابيع أو أشهر كما هو متوقّع بالنسبة للضربات الأميركية في اليمن.
وتقارن بعض المصادر العسكرية بين استراتيجية القصف الجوي في اليمن مع قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحملة قصف جوي ضد دولة صربيا والجبل الأسود الاتحادية خلال حرب كوسوفو التي دامت من 24 آذار (مارس) 1999 حتى 10 حزيران (يونيو) 1999. واستمر القصف حتى الوصول إلى اتفاق أدى إلى انسحاب القوات المسلحة اليوغوسلافية من كوسوفو، وتأسيس بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو. غير أن هذه المصادر تشير إلى تبدّل في التوازنات الدولية ًبين الزمنين، واختلاف في الثقافة السياسية بين الحالتين المستهدفتين.
يعتقد مراقبون للشؤون الإيرانية أنه رغم تكرار إيران أن قرار جماعة الحوثي مستقل ولا علاقة لطهران به، ورغم زيارة قام بها رئيس وزراء العراق الأسبق، عادل عبد المهدي، المقرّب من طهران، إلى صنعاء في 20 آذار (مارس) 2025، والتي قيل إن هدفها خفض التصعيد، فإن إيران مستفيدة من استنزاف عسكري أميركي لا يطالها، ومن احتمال استمرار الحوثيين في إطلاق الصواريخ ما يقوي أوراق طهران على طاولة المفاوضات التي يطالب بها ترامب. وعلى الرغم من أن واشنطن في حالة تفاوض غير معلن من خلال تبادل الرسائل الرسمية بين ترامب وخامنئي ومن خلال السجال المندلع بين العاصمتين وتبادل التهديدات، غير أن أمر حرب اليمن بات متعلقا بمستقبل الملف الإيراني وشرطا من شروط الحرب والسلم. ولئن يضغط ترامب على طهران من بوابة اليمن، فإن طهران بالمقابل ترى من تلك البوابة خلاصا لمأزقها غير المسبوق منذ قيام الجمهورية الإسلامية قبل 46 عاما.
لا يمكن فصل قرار توجيه هجمات ضربات ضد جماعة الحوثي في اليمن عن سياق الاستراتيجية التي ستنتهجها إدارة ترامب في التعامل مع الملف الإيراني. ضرب جماعة الحوثي، كذراع من أذرع إيران في المنطقة لا يبتعد عن مسار بدأ منذ اندلاع الحرب في غزّة في تكثيف الضربات الإسرائيلية، بدعم أميركي كامل، ضد أذرع إيران في لبنان وسوريا والعراق، كما ضد الداخل الإيراني أيضا.
تمثّل جماعة الحوثي تحديا لاستراتيجية يعتمدها ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط. وتقوم تلك الاستراتيجية على منطق “القوة” كمفتاح لأي “سلام”، سواء ذلك الذي يريده لـ “المسألة الفلسطينية” خططا لمستقبل قطاع غزّة، أم ذاك الذي يطمح إليه تمدّدا لاتفاقات أبراهام، أم ذلك الذي ينشده لإغلاق ملف إيران. لكن “القوة” أيضا هي مفتاح ما يرسمه لتقديم بلاده كقوة جبارة كبرى تفرض على الحلفاء في أوروبا قبل الخصوم في روسيا الصين الخرائط المثلى للاصطفافات الجديدة في العالم. فمن يريد الإمساك بالعالم عليه السيطرة على البحار.
صعوبة الطابع الجغرافي لانتشار الحوثيين في اليمن، لا سيما داخل الجبال والوديان، تجعل من القضاء على القوة العسكرية للجماعة أمراً يحتاح إلى وقت طويل وقصف مستمر قد يستغرق شهوراً وربما سنوات. وتلفت إلى أن إعلان الصحافة الأميركية نقلا عن مصادر الإدارة في واشنطن عن عدم وجود أي خطط لتدخل بري أميركي في المواجهة مع الحوثيين، يعطي الجماعة في اليمن رسائل اطمئنان إلى الحدود القصوى للعملية العسكرية الأميركية والتي لن تشكّل تهديدا وجوديا جذريا.
من الملاحظ أن الضربات الأميركية تجري وسط صمت دولي، حتى من قبل الدول المطلة على البحر الأحمر. كما أن هناك غيابا لأي تنسيق بين واشنطن والدول المعنيّة بأمن اليمن، لا سيما الدول التي شكّلت التحالف العربي في عام 2015 بقيادة السعودية، ما يعني أن دول المنطقة غير معنية بأي عملية عسكرية جراحية أميركية لا تتناول حلا جذريا للأزمة في اليمن.