ما الذي يثير فضول الشاعر؟ سؤال شائع في في ذهون القرّاء، أو بعبارة أوضح وأكثر واقعية، ما الذي يخطر على بال هذا الشاعر حين كتب هذه الأبيات؟ وفي الحقيقة، أننا لن نحصل على إجابة موحّدة عند الشعراء، فكلّ شاعر يسبح في فلك عالمه الخاص، ذكرياته، وانفعالاته – الأمر الذي أكّده لنا الشاعر والمترجم والإعلامي العماني حسن بن عبيد المطروشي في حديثنا الخاص معه.
الشعر بالنسبة إليه حالة فطرية تخلق مع الإنسان إما يعزّزها أو تتلاشى مع الوقت، لم يكتشف شغفه الشعري وحبّه

للمطالعة إلا حينما كان يتسلّل إلى المكتبة لقراءة الشعر والأدب هرباً من حصة الرياضيات، حيث كانت من أمتع الأوقات بالنسبة إليه.
له في الشعر مجموعات شعرية عديدة، كـ”وحيداً… كقبر أبي”، و”ليس في غرفتي شبح”، وإصدارات في الترجمة ومقالات ومجموعة دراسات وأطروحات.
حاز مؤخراً على جائزة المعلّقة الشعرية لعام 2025 التي أقيمت في السعودية، وهو عضو في العديد من اللجان الثقافية العربية، وكتب عن تجربته العديد من الكتّاب العرب بدءاً من لبنان وصولاً إلى العراق.
كيف بدأ سيرته الشعرية وماذا عايش خلال مراحلها المختلفة، كل هذه الأسئلة وأكثر أجابنا عليها الشاعر حسن المطروشي خلال حديثه خاص مع “الحصاد”.
- “الحصاد”: للبدايات هواجس وأحلام وعقبات.. كيف سارت فترة البدايات نحو الشعر والمعترك الثقافي؟
- البدايات محطّة موغلة في حسابات العمر. أنا أشعر أن بداية الشاعر تبدأ مع لحظة التكوين في رحم الأم وتنمو مع تخلّق الكائن وترافقه عبر أطواره في الحياة المديدة. الفنان يولد في الأصل فناناً، هي فطرة كامنة في الذات وليست صنعة مكتسبة، ولكن الإنسان يعمل على صقلها والاعتناء بها وتطويرها عبر القراءة والإطلاع والاحتكاك، وتتشكّل عبر التجربة. هذا الشعور الفطري المُلِحّ لم يترك لي خياراً لأسلك طريقاً غيره. نعم جربت أشياء كثيرة ولكنها كانت تجارب فشل وخسارات ضاع فيها الكثير. ولكن طريق الشعر والثقافة هو الذي وجدت فيه نفسي
مع الإعلامي زاهي وهبي وشعرت أنني في مكاني الطبيعي. لذلك وصلت في النهائية إلى أن أختصر طرق التيه جميعاً وأغلق أبوابها، وأتمسّك بهذا الخيار الوجودي الذي أسميه شعراً.
- “الحصاد”: في المدرسة، كنت تتسلّل إلى المكتبة لتقرأ للمتنبي، قيس ابن الملوح وغيرهما. هربت من حصة الرياضيات. في ذلك الوقت، ما الذي جذبك إلى هذه القراءات؟ وكيف اكتشفت حب الإطلاع آنذاك؟
- هو ذات الشعور الذي تحدثت عنه آنفاً. لم أتصالح مع أشياء كثيرة، كما أنني لم أشعر بالألفة مع أصناف كثيرة من البشر. كنت أميل للعزلة والعيش في عالمي الخاص، وأبحث عن رفاق من عالم غير هذا العالم. وعندما نموت قليلا ودخلت المدرسة، شعرت بأرواح أخرى تقترب من روحي، قابلت على رفوف المكتبة أبا الطيب المتنبي وأبا نواس وقيس ابن الملوح وأبا فراس الحمداني والنابغة الذبياني وزهير ابن أبي سلمى وعنترة. كما أن طبيعتي الثائرة في العمق قادتني إلى قصص الأبطال والفرسان والمحاربين أمثال خالد ابن الوليد وأبي عبيدة ابن الجراح وطارق ابن زياد والاسكندر المقدوني. كنت أجد في الخلوة مع هذه الأرواح شيئاً مما أبحث عنه، شيئا مما تعشقه الروح، وأشعر أنني سأكون أحد هؤلاء يوماً ما. لا شأن لي بمعلم الرياضايت الفض الغليظ. وهكذا بدأ مشوار القراءة والاطلاع، ولم يتوقف منذ ذلك الحين.
- “الحصاد”: حزت مؤخراً على جائزة المعلقة للعام ٢٠٢٥م، التي تنظمها وزارة الثقافة السعودية. كيف كانت هذه المشاركة؟ وما الأثر الذي تتركه في نفسك كل جائزة تحصل عليها؟
- كانت المشاركة في جائزة المعلقة مختلفة بالنسبة لي على شتى الأصعدة. المسابقة في صيغتها مختلفة، وهي تتطلّب السفر إلى المملكة العربية السعودية، وتبث فضائياً في كل مرحلة من مراحلها، ويخضع المتنافسون إلى بروفات وتدريبات مكثّفة في الإلقاء والحضور والأداء والوقوف على المسرح ومواجهة الكاميرا والاستماع إلى مداخلات أعضاء التحكيم والإعلان عن الفائز وغير الفائز مباشرة. كل ذلك يضع المتنافس في موقف نفسي صعب للغاية. ولكن لها متعتها الخاصة، وتنطوي على الكثير من التحدي والجلد والإرادة والإثارة. وهي في الوقت ذاته تسهم في صياغة الشاعر النجم كما قلت أكثر من مرة. فالشاعر بعد المعلقة يصبح وجهاً عاماً ومألوفاً ويكتسب شهرة غير عادية.
أما الأثر الذي تتركه الجوائز فهو بكل تأكيد كبير على مستوى التجربة، فأنت حين ترى في رصيدك عدة جوائز محلية وعربية وعالمية تشعر بالرضا والامتنان لما تحقق على صعيد التجربة والحياة. لقد كانت كل جائزة نقلة إضافية في

حياتي. لأن أغلب الجوائز التي فزت بها كانت ذات أهمية كبيرة. لذا لا يمكن أن أنظر إلى تجربتي الشعرية بمعزل عن الجوائز التي أحرزتها عبر السنين.
- أيهما يضيف للآخر، المبدع أم الجائزة؟
- كلاهما يضيف للآخر، فالجائزة تمنح المبدع الكثير من الحضور والشهرة وتكسبه مزيداً من الأضواء وفرص النجاح وتقرّبه من الجمهور. إلى جانب ذلك فهي تعد تكريماً عملياً لمنجزه الإبداعي، بالإضافة إلى دور بعض الجوائز في تحسين الوضع المعيشي للكاتب.
أما الإضافة التي يمنحها المبدع للجائزة فهي تعتمد على أهمية المبدع ومكانته. فكلما ارتفعت أهمية المبدع الذي يحصل على الجائزة شكل ذلك إضافة إلى رصيد الجائزة وتعزّزت مكانتها بين الجوائز العالمية. لذا فإن الإضافة مشتركة بين المبدع والجائزة وكل منهما يستفيد من الآخر علي صعيدي الأهمية والمكانة.
- كتبت للحب، للوطن، للطفولة، وللإنسان. كيف تزاوج بين كل هذه الفضاءات في القصيدة؟
- هذه الفضاءات جميعها أشبه بينابيع سحرية تتدفق من الروح، وتتوحد في مصب واحد يفضي إلى القلب. أنا أكتب ما هو جوهري ولصيق بالذات والوجدان. وأجد القصيدة هي الكيان الذي يستوعب كل ما يختلج في الذات من آلام وأحلام وآمال، وهي التي تحتضن كل ما يدور في القلب من المشاعر وصخب وحنين وجنون. أجل .. كتبت للطفولة ونزقها وطيشها، كتبت للأم ودمعها وسهرها وغيابها، كتبت عن الأب وسطوته وفقده، كتبت عن الوطن وأرضه وسمائه، كتبت عن الإنسان همومه وعذاباته وأشواقه، كتبت عن الحب وعذوبته ولوعاته وزيفه أيضاً. وكتبت عن
كتابه الأدبي شبابيك الكلام الجمال وفيوضه، ورفعت القصيدة درعاً عالياً في وجه القبح وقسوة الحياة والإنسان حينما يتحوّل إلى كائن دموي مفترس ينهش لحم أخيه.
- في قصيدة “الغائب”، حين قلت فيها:
“وما افتقدوه من البيت
من يومها لم يعد
منذ مرت عليه القصيدة هاربا
وأشارت إليه: تعال.
هل كنت تقصد نفسك؟”
- ليس بالضرورة أن يكتب الشاعر تجربته الخاصة، أو يسرد سيرته الشخصية عبر القصيدة. هو كثيراً ما يكتب الآخر، ويرصد أحداث الحياة عبر عدسته اللاقطة، ثم يحيل كل تلك المشاهدات والصخب الدائر في الوجود إلى قصائد تحطّ على كفوف الناس كالفراشات المرفرفة بألوانها الزاهية.
في قصيدة “الغائب” اشتغلت على لعبة لغوية معروفة لدى الكتاب والشعراء، وهي استخدام ضمير الغائب بدلاً عن ضمير المتكلم، وكأنني أتحدث عن شخص آخر، وهذا يعطي النص بعدا أوسع ليشمل الآخر، وإن كانت التجربة ذاتية. وقد استخدمت هذه الحيل اللغوية في الكثير من القصيدة، وكثيراً ما ألجأ إلى استخدام ضمير المخاطب، وكأنني أتحدث إلى ذات أخرى. ولكنني لا أنكر أنني كنت أتحدث عن ذاتي وإلى ذاتي. الذات الغائبة أو المفقودة والكتابة عنها يشكّل هاجساً لدي حتى بات ذلك ملمحاً من ملامح تجربتي الشعرية. كتبت كثيراً عن تشظي الذات وانشطار الكينونة وتماهيها في ذوات كثيرة هائمة في الوجود، وكل ذات تبحث عن الأخرى في ضجيج هذا العالم المزدحم. نحن ذوات مهشّمة، هائمة، مفقودة، فأين أنا الطفل البريء؟ أين أنا الصبي الشقي؟ أين أنا الفتى النزق؟ أين أنا الشاب اليافع؟ أين كل تلك الأنوات التي فارقتني وضاعت مني على رصيف الحياة الطويل؟ .. لا أدري أين توارت؟ كلّ ما أعرفه أن في لحظة ما مرّت عليّ القصيدة هاربة وأشارت إلى أن أتبعها فتبتعتها وها أنا ما زلت أمضي في ظلام الجهات.
- كيف ترى إقبال الجمهور على الشعر؟
- الشعر لصيق بمشاعر الإنسان على الدوام منذ بدء الخليقة. فالشعر هو الوسيلة التعبيرية الأقرب لنا للتعبير عن خوالجنا وهمومنا. وهو رفيقنا في دروب الحياة فرحاً وحزناً. لذا لا يمكن أن يتخلّى الإنسان عن الشعر في كل الأحوال. شخصياً شاركت في العديد من المهرجانات والفعاليات الشعرية خلال أكثر من ربع قرن من الزمان، داخل الوطن العربي وخارجه. وشاهدت توافد الناس وحضورهم وتفاعلهم مع الشعر. ومن تجربة شخصية أيضاً طرحت مؤخراً أعمالي الشعرية في معرض مسقط الدولي للكتاب، وقد أكد لي الناشر أنها حظيت بإقبال كبير، وقد بيع منها نسخاً كثيرة.
وإذا كان هناك نفور لدى البعض فأنا دائماً ما أقول إن الأزمة أزمة شعراء وليست أزمة شعر. هناك الكثير من الشعر الرديء تقذف به دور النشر والمهرجانات والبرامج الشعرية، وهذا هو المسؤول الأول عن تشويه صورة الشعر. يجب محاربة الرداءة الشعرية، وجميعنا شركاء في هذه المهمة.
- لك أعمال عديدة مترجمة، أين تكمن أهمية الترجمة للمنجز الأدبي والثقافي؟
- دور الترجمة محوري ومهم جداً، فهي تسهم في نقل صوت المبدع والتعريف به في ثقافات ولغات أخرى. وأشعر أننا كعرب مطالبون بإيلاء الترجمة أهميتها التي تستحق، لا سيما في الوقت الذي لا يعرف عنا العالم إلا الحروب
الشاعر والمترجم العماني حسن المطروشي والصراعات الدموية والطائفية المقيتة والإرهاب. إننا أصحاب منجز حضاري وثقافي عظيم. وقد أنجبت الحضارة العربية أعلاما أسهموا في بناء الحضارة الإنسانية بعلومهم ومخترعاتهم وما تركوه من إرث ثقافي كبير. ونحن إذ ندخل عصر الذكاء الاصطناعي، يتوجّب علينا اليوم أن نعي خطورة المرحلة وأن نكون على وعي بمجريات العالم من حولنا، حتى نكون مواكبين لركب الحضارة الإنسانية، ولكننا وللأسف دون ذلك بكثير. إننا مشغولون بخلافاتنا السياسية والدينية وأمور أخرى هامشية.
- ما هي مشاريعك الثقافية المقبلة؟
- ليس لدي الكثير من الخيارات سوى الكتابة. لدي مشروعي الشعري المفتوح، فأنا أكتب باستمرار، وحين أشعر أن لدي ما يكفي لطباعة مجموعة شعرية أقدّمها للطباعة. لدي أيضاً مشروع كتاب عن الشعر العماني القديم. فنحن في عمان لدينا إرث شعري عظيم، منذ عصور ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا. وقد واكب الشعر العماني جميع التحولات الثقافية والأدبية والشعرية والسياسية التي شهدتها عمان والعالم من حولنا. كما كان الشعر العماني مواكباً لحركات التجديد الشعري في العالم، فأنتج مشهداً شعرياً حديثاً مهماً.
أقوم الآن بتصفح مدونة الشعر العماني عبر عصوره المختلفة، بهدف البحث عن الظواهر اللافتة في هذا الشعر، والكتابة عنها في الصحافة الثقافية، بغية جمع هذه المقالات البحثية لاحقاً في كتاب عن جوانب مما أنتجته العبقرية العمانية من شعر عظيم.