الغطرسة الإسرائيلية تسقط أمام قوة الرد الإيراني
“حان وقت الانتقام، وسنأخذه بكل وسيلة وبأيّ أداة كانت، لن نترك النظام الصهيوني، وسنُنهي نحن القصة التي بدأوها”. تصريح صارم لرئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف ردا على الإعتداءات الإجرامية التي قام بها الكيان الصهيوني داخل إيران بشكل مباغت واستهدف علماء نوويين وقادة عسكريين ومنشآت استراتيجية أدت إلى تفجير الأوضاع بالمنطقة وتوريطها في حرب خطيرة.
بين عمليتي الأسد الصاعد الإسرائيلية والوعد الصادق الإيرانية ازداد الشرق الأوسط اشتعالا تحت أضواء الصواريخ المتبادلة بين إسرائيل وإيران بعد أن دقت الحرب طبولها وبلغت الخطورة مداها في تصعيد غير مسبوق وذلك بتحول الصراع الكامن والخفي بين العدوين اللدودين إلى حرب ومواجهة مباشرة في ساحة المعركة بعد أن ظلت لعقود طويلة مجرد مواجهات محدودة أو حربا بالوكالة .
فخ استراتيجي
على الرغم من التحذيرات الأمريكية والتهديدات الإسرائيلية ووعيدها المتكرر بضرب إيران والقضاء على برنامجها النووي في فترة سابقة لدفعها للتخلي عنه، إلا أن الضربات القاسمة التي وجهها الكيان الصهيوني للدولة الإسلامية جاءت مباغتة وكارثية النتائج بعد أن استهدفت مواقع استراتيجية وحساسة وقيادات عسكرية رفيعة المستوى وعلماء طاقة نووية بارزين في إيران، وذلك في عملية كشفت خطورة الاختراق الأمني الذي تعرضت له الأجهزة الإيرانية والذي بدت ملامحه مع مجموعة من الحوادث السابقة والتي استلزمت لفت الاهتمام الإيراني لمواقع الثغرات الأمنية وسدها منذ سقوط طائرة الرئيس الإيراني السابق مرورا بعمليات اغتيال لقادة إيرانيين على أعلى مستوى في الحرس الثوري وصولا لاغتيال شخصيات بارزة في المقاومة الفلسطينية وعلى رأسهم القيادي الفلسطيني إسماعيل هنية داخل الأراضي الإيرانية والذي كان يفترض أنه في حماية إيران . كان من المفترض أن تفتش إيران عن المفاصل الضعيفة في هيكلها الأمني وكذلك عناصر التجسس والاختراق التي امتدت خلالها أيادي الغدر الإسرائيلي لتقتل وتدمر وتعيث فسادا في الساحة الإيرانية، لكن الضربات الإسرائيلية التي وقعت ضد إيران مؤخرا في منتصف شهر يونيو أكدت استمرار الاختراق وحجم القصور الأمني الكبير الذي مكن الكيان الصهيوني من إقدامه على جرائمه داخل إيران وإشعال نيران الحرب ضدها.
وهناك من يرى أن إيران تعرضت لما يمكن تسميته بالفخ الاستراتيجي حيث باغتتها إسرائيل بالعمليات العسكرية الواسعة في الوقت الذي كانت تستعد لجولة محادثات جديدة مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي وكانت الأمور تبدو مبشرة للغاية، لكن إسرائيل لم تكن تريد التهدئة وإنما توجيه الأمور نحو التصعيد سواء بالاتفاق مع الولايات المتحدة أو بشكل منفرد لتوريط الأخيرة في الدخول في مواجهة عسكرية ضد إيران وهو غاية ما تسعى إليه الدولة الصهيونية ليخلو لها الشرق الأوسط.
رد إيراني غير مسبوق القوة والمدى
وجاء الرد الإيراني مفاجئا أيضا في قوته ومداه وقاسيا بشكل لم يألفه الشعب الإسرائيلي الذي وجد نفسه فجأة مضطرا لمغادرة بيته أغلب الوقت والبقاء لفترات طويلة في المخابئ خوفا من توابع الضربات الإيرانية الموجعة التي وصلت لمواقع استراتيجية وحققت أهدافها بشكل أكبر مما كانت تفعله في ردودها ضد الاعتداءات الإسرائيلية عليها في فترات سابقة.
الخسائر التي منيت بها إيران أثارت جدلا حول استمرارها كدولة قوية بالمنطقة خاصة مع تظاهر الكيان الصهيوني أمام الشعب بالاحتفاء بضرباته، لكنها في الحقيقة ليست إلا محاولة لتزييف الحقائق وخداع شعبه لاحتوائه وصرفه عن التبرم من الأوضاع الخانقة التي فرضتها الحرب عليه وحجم الخسائر المهول الذي يتحمله دافعو الضرائب الإسرائيليون والذي يبلغ في بعض التقارير مليار شيكل يوميا.
لقد بدت الدولة الصهيونية المزروعة كالنبت الشيطاني في قلب العرب مترنحة لأول مرة منذ سنوات طويلة بسبب حجم الدمار غير المسبوق الذي أصابها مع استمرار أصوات صفارات الإنذار التحذيرية لفترات طويلة على مدار اليوم بشكل يعكس استمرارية الرعب من الخطر الإيراني طوال الوقت.
على الرغم مما أسماه الكيان الصهيوني نجاحا في فتح ممر أو “كوريدور” في سماء إيران مكنه من السيطرة الجوية وتدمير كثير من المواقع ومنصات الصواريخ والضرب من الداخل بالمسيرات وإجراء عمليات تشويش وهجوم سيبراني، إلا أنه في المقابل كانت الضربات الإيرانية قوية متدرجة من عملية إشباع وإغراق جوي للنفاذ إلى الداخل الإسرائيلي مع استخدام صواريخ متنوعة وذات قوة تدميرية كبيرة داخل أماكن حيوية وحساسة في الأراضي المحتلة كانت أكثر إيلاما. وسرعان ما استعادت إيران توازنها بعد تلك الضربات العميقة ونجحت هي الأخرى في بسط نفوذها على الأجواء الإسرائيلية وفتح ممرات بالمثل فوق تل أبيب والأراضي المحتلة. بل فاجأت إيران العالم كله بما حققته من تفوق استراتيجي باستخدام صواريخ وأسلحة لأول مرة ذات قدرات عالية على التمويه والتخفي مما أفشل أجهزة الإنذار الإسرائيلية وأخرج قبتها الحديدية من الخدمة وهو ما أكدته تصريحات إسرائيلية عسكرية أفادت بالعجز عن التصدي لكثير من الصواريخ القادمة من إيران.
حرب استنزاف لا يتحملها الإسرائيليون
في ظل هذا المشهد تبدو الأوضاع الإسرائيلية الداخلية صعبة كما أن الشعب لم يعتد تحمل متاعب الحرب بهذه الصورة ولن يتحمل حرب استنزاف طويلة قد تجرهم إيران إليها ردا على العدوان الصهيوني الغاشم عليها. فهم يشهدون حربا جديدة من نوعها لأول مرة في مواجهتهم لدولة سيادية حيث انخرطت فيها الجبهة الداخلية بشكل غير مسبوق. وفي المقابل يتمتع الشعب الإيراني بإرادة صلبة وروح انتحارية وقوة تحمل لمختلف أنواع الشدائد بدافع عقيدتهم الإيمانية ودفاعهم عن وطنهم.
ورغم محاولة القيادة العسكرية الصهيونية تهيئة شعبها للرد الإيراني القاسي وحجمه لكنه مع ذلك جاء مفاجئا لكل التوقعات المبنية على الردود الإيرانية السابقة، حيث أنها تسببت في شلل كامل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالداخل بشكل يجعل إصرار الحكومة الإسرائيلية المتطرفة على استمرار الحرب بمثابة أمرا صعبا في ظل الضغوطات الداخلية مما قد ينعكس على قراراتهم السياسية والعسكرية خوفا من خروج الأمور عن سيطرتهم، وهو ما بدت ملامحه من خلال تناقضات في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تشي بوجود خلاف كبير فيما بينها بسبب خطورة الموقف الذي وضعوا أنفسهم فيه.
الخبير الإسرائيلي في الشؤون الأمنية والعسكرية، يوسي ميلمان يعترف قائلا: “النشوة كانت قصيرة، وأتساءل هل كان من الضروري أصلًا الدخول في هذه الحرب، وخصوصًا ضد الإيرانيين؟ أنصح بأن نُقلّل الخسائر، وأن تتوجهوا إلى ترامب ليوقف هذا الجنون من خلال اتفاق معقول، وإلا فسنجد أنفسنا في النهاية نتوسّل لوقف إطلاق النار، وإيران سترفض!.”
وهو ما حدث بالفعل عندما استشعرت الدولة الصهيونية افتضاح فشلها أمام شعبها في ظل الخسائر الكبيرة التي منيت بها نتيجة الرد الإيراني الصارم والمختلف كما ونوعا عن المرات السابقة، حيث لجأ مجلس الحرب الصهيوني كالعادة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الدعم والمساعدة بلا حدود.
تحول استراتيجي خطير
في بداية اشتعالها، استهدفت الحرب الإسرائيلية منحى إضافيا تجاوز هدف القضاء على برنامجها النووي إلى هدف إسقاط النظام الإيراني في إطار استكمال المخطط الأمريكي الإسرائيلي في تكوين شرق أوسط جديد يتناسب مع مصالحهم وأهدافهم الأصيلة في السيطرة وبسط النفوذ. وهو ما فشل فيه العدو الصهيوني بشدة لأنه لا يدرك أن أزمة تعرض الوطن لحرب في إيران تدفع الإيرانيين نحو الاصطفاف والوقوف بجانب جيشهم دعما له في المعركة المصيرية التي يخوضها في مواجهة عدو غاشم وأن الخلافات الداخلية تتراجع في أوقات الأزمات.
بعد التطورات الأخيرة تحولت الأمور لمواجهة مفتوحة وسط تضارب خفي في المواقف بين ترامب ونتنياهو الذي يرغب في الاستمرار لعدة أسابيع لتدمير البنى التحتية الصناعية والعسكرية الايرانية بينما يسعى ترامب إلى الضغط لتقليص أمد الحرب وإملاء الشروط الأمريكية على إيران.
في ظل هذه المعطيات شهدت الحرب الإيرانية الإسرائيلية تحولا من عمليات محدودة تستهدف شخصيات أو مواقع بعينها إلى معركة صاروخية معلوماتية ذات مدى واسع وغير محدود تستهدف مواقع حساسة بشكل متبادل بين الطرفين لتعميق الخسائر. وخرجت القضية من الحسابات العسكرية الى حسابات الانتقام مدني مقابل مدني وعسكري مقابل عسكري ومنطقة مقابل منطقة وتحولت مستويات الحرب من مرحلة عض الأصابع إلى كسر العظام وأصبح الأمر يرتبط بمن يستسلم أولا بينما تتدحرج الكرة نحو معركة وجود ومصير ومن ثم صار الدخول في مفاوضات أمرا لن يتم الا بعد استيفاء ايران لعملية الرد وأن تكون هي صاحبة الضربة الأخيرة. ويثور التساؤل عن الفائز في هذه المعركة المصيرية. ربما قد تربح إسرائيل عسكريا بدعم الغرب لها ولكنها لا تستطيع ترجمة ذلك إلى ربح سياسي وهنا تكمن أزمتها، على عكس إيران التي نجحت في استقطاب اهتمام العالم واحترامه لقدراتها القوية على الرد والدفاع عن أرضها والردع الذي جعل حلفاء إسرائيل وعلى رأسهم الولايات المتحدة تتريث كثيرا دون أن تتخذ أي قرار بالتدخل في الحرب لإدراكها خطورة نتائج ذلك.
الدور الأمريكي والقناعة الإسرائيلية
لقد أثبتت يوميات الحرب الإيرانية الإسرائيلية أن حسم المعركة غير موجود بيد اسرائيل بل بيد الولايات المتحدة الأمريكية وهي قناعة موجودة لدى كل الإسرائيليين باختلاف توجهاتهم من خلال تجاربهم السابقة في الحروب الإقليمية مع الجيران. وهو ما يفسر لنا محاولات الإدارة الصهيونية المستمرة لتوريط الولايات المتحدة ودفعها لدخول الحرب لتضع بصمتها الأخيرة حتى ينتهي كل شئ بقنبلة يتم تحميلها على قاذافات تمتلكها هي فقط لاستهداف المواقع النووية في إيران والقضاء عليها.
وهنا يأتي الحديث عن دور الولايات المتحدة التي أعلنت في بداية الحرب أنها ليست طرفا في الحرب بين إيران وإسرائيل ثم عاد ترامب يهدد بالرد على أي تهديد للمصالح الأمريكية والتلميح بإمكانية مساعدة إسرائيل للقضاء على البرنامج النووي الإيراني ثم التصريح بمطالبة إيران بالإذعان الكامل والاستسلام بدون شروط. جاء ذلك وسط تكهنات متضاربة عن حقيقة مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في حرب إسرائيل ضد إيران بشكل مباشر وهو الأمر الذي اعتبره كثير من المحللين صعب الحدوث لما في ذلك من توابع خطيرة على السلام العالمي خاصة في ظل التهديد بدخول أطراف أخرى من الدول النووية على الخط وإعلانها عن استعدادها لدعم إيران كما فعلت باكستان وكوريا الشمالية وكما هددت روسيا، وبالتالي فإن إقدام الولايات المتحدة على مشاركة إسرائيل في حربها على إيران تعد مخاطرة غير محسوبة ولها انعكاساتها الكارثية على الأمن الأمريكي وسلامة الجنود الذين ينتشرون في القواعد العسكرية حول العالم والبالغ عددهم ما يقرب من 41 ألف جندي بجانب سلامة مواطنيها في أرجاء العالم. كما يضاف إلى ذلك حالة الجدل الشديد داخل المجتمع الأمريكي والصراع في المواقف بين فريق أمريكا أولا الذين انتخب ترامب بناء على هذا الشعار، وبين الفريق الذي يدعو للتخلص من إيران بتوجيه ضربة أمريكية إليها. ولذلك نجد تغيرا في التصريحات الأمريكية على مدار الساعة يتراوح ما بين التهديد الصارم لإيران بإمكانية التفكير في دخول الحرب مع إسرائيل ثم العودة للحديث عن إعطاء مهلة للرجوع للمفاوضات وهي ردود أفعال تأتي في شكل شد وجذب وجس نبض للمجتمع الدولي يقوم بها الرئيس ترامب على طريقته الخاصة من خلال تغريداته التي تأتي صادمة وصارمة أحيانا قبل أن يتراجع عنها بطرح أفكار أخرى. ورغم تهديداته بقتل المرشد الإيراني إلا أن هناك تسريبات أفادت أنه استخدم حق الفيتو مؤخرا ضد خطة إسرائيلية لاغتيال المرشد علي خامنئي وفق ما نشرته صحف غربية. كما أن القرار الأمريكي بانتظار أسبوعين كمهلة للعودة لطاولة المفاوضات يعني أن الإدارة الأمريكية لا تريد الانخراط في حروب لا تعنيها. لكن الخوف من الضغط الصهيوني عليها ومحاولات توريطها للزج بها في المعركة فهل يمكن أن تسقط أمريكا في هذا الفخ؟!
الموقف الإيراني
بافتراض أن الوضع العسكري لإيران صار أكثر سوءا في ظل الدعم الغربي للحليف الصهيوني، فهل يعني ذلك خضوعها الكامل وإذعانها للشروط الأمريكية واستسلامها لتهديدات ترامب؟
لاشك أنه من الصعب وصول إيران لهذه المرحلة خاصة في ظل نجاحها في الضغط على العدو الإسرائيلي بجره لحرب استنزاف أطول مما كان يتوقع، تكبده الكثير من الخسائر وهو ما أكدته تصريحات المرشد الأعلى الذي رفض تهديدات ترامب وقابلها بصرامة وإصرار على الانتقام من إسرائيل على جرائمها. كما أن إيران ليست حماس أو حزب الله ولكنها دولة كبيرة وذات سيادة وهي تواجه لحظة مصيرية. صحيح تعرضت لاختراق أمني عميق ولم تكن متيقظة للحرب الإسرائيلية عليها ما جعلها تتعرض لصدمة صاعقة تسببت في خسارة علماء وقادة وعسكريين ومقدرات للدولة الإيرانية، لكنها سرعان ما استعادت التوازن ونجحت في المقابل هي الأخرى في السيطرة على المجال الجوي الإسرائيلي باستخدامها نوعية جديدة من الصواريخ مثل خيبر وفتاح الذي نجح في الهروب من المراقبة والوصول لأهدافه متخفيا في العمق الإسرائيلي ومعها صاروخ سجيل الذي تجاوز وزن رأسه الطن ما جعله أكثر تدميرا.
وفي ظل ترك أمريكا الباب مواربا للتفاوض تأتي أهمية دور الوسطاء والشركاء الإقليميين والدوليين في التدخل للتهدئة بشكل يحفظ ماء وجه الطرف الإيراني المعتدى عليه في بداية الأمر ويكفل إمكانية العودة لطاولة المفاوضات وتوقف الحرب وإلا سوف يتسع مداها إقليميا ويمتد ليشمل أطرافا أخرى أكثر جنونا بشكل قد يهدد بنشوب حرب عالمية غير محمودة العواقب.