لبنان والأزمات السياسية-الميثاقية ورفض سلطة الدولة

يعيش لبنان في وقت عصيب، حيث تتعاظم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي إلى حالة من الجمود السياسي تعوق أي تقدم نحو الاستقرار. في قلب هذه الأزمات تكمن مسألة “الميثاقية”، التي تُعد واحدة من أهم المفاهيم السياسية في لبنان، والتي تُستخدم كذريعة لتبرير رفض تسليم سلاح حزب الله، وهو ما يمثل عائقًا كبيرًا أمام سلطة الدولة. إن استمرار استخدام الميثاقية كأداة لتعزيز الانقسامات السياسية يُهدد الأمن القومي ويعطي فرصة لإسرائيل لاستغلال حالة الفوضى. سنستعرض في هذا المقال مفهوم الميثاقية، تأثير الجمود السياسي، وسيناريوهات الصراع المحتملة مع إسرائيل، مع التركيز على ضرورة تعزيز الحوار والمشاركة في الحياة السياسية اللبنانية.

نعود إلى “الميثاقية” التي تُعتبر أساس النظام السياسي اللبناني، حيث تعكس توازن القوى بين الطوائف المختلفة. يعود أصلها إلى “الميثاق الوطني” لعام 1943، الذي وضع قواعد لتوزيع المناصب في الدولة على أساس الطائفية، حيث تم الاتفاق على تقاسم السلطة بين الطوائف الرئيسة: المسيحيين، والمسلمين، والدروز. ورغم أن هذا التوزيع كان ضروريًا في وقته لضمان الاستقرار، إلا أنه أصبح لاحقًا عائقًا أمام تطور النظام السياسي اللبناني.
في المجتمع اللبناني المتنوع، يلعب الميثاق دورًا حيويًا في الحفاظ على توازن القوى، لكن في الآونة الأخيرة، أصبحت الميثاقية وسيلة تستخدمها بعض القوى السياسية لتعزيز نفوذها. هذا الاستخدام الانتقائي للميثاقية من قبل الأحزاب المختلفة يتسبب في تباين المواقف، مما يجعلها محور جدل دائم، حيث تؤكد كل مجموعة على الميثاقية بما يتناسب مع مصالحها.
قد شهد مفهوم الميثاقية تحولات عديدة على مر السنوات. بعد الحرب الأهلية اللبنانية، جاءت وثيقة الطائف لتعيد صياغة قواعد اللعبة السياسية، معززةً الدور الطائفي في توزيع المناصب والمراكز. وهكذا، أصبح الميثاق الوطني عبئًا يحد من قدرة لبنان على التقدم نحو ديمقراطية حقيقية، حيث تحول من كونه وثيقة عنوانها التعاون إلى مسار حصار للسياسات الوطنية.

تظهر آثار الجمود السياسي بوضوح في القدرة المحدودة للدولة على اتخاذ القرارات الحاسمة. يُعتبر الجمود نتيجة مباشرة للصراعات السياسية حول نفوذ المكونات الطائفية والميثاقية. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية المتزايدة، تتمسك الأحزاب بمواقعها، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع. هذا التمسك بالمناصب يأتي على حساب التنمية الوطنية والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون.
الوزراء من حركة “أمل” و”حزب الله”، على سبيل المثال، يبدون أهمية الانخراط في الحكومة، رغم وجود مخاطر تؤثر على سياسات الحكومة. يعكس هذا التوجه ضرورة التمسك بالعملية السياسية كوسيلة لتجاوز التحديات، حيث تتطلب الأوضاع الراهنة تعاونًا أقوى بين القوى السياسية لمواجهة الأزمة.
في ظل هذه الظروف، تواجه المؤسسات العامة صعوبة جسيمة في أداء وظائفها. وعندما لا تستطيع الحكومة تشكيل مجموعة وزارية فعّالة أو اتخاذ خطوات ملموسة، فإن ذلك يعكس عدم الاستقرار، مما يُعزّز الفوضى. إن عدم القدرة على تجاوز هذه العقبات يُعيق معالجتها للملفات المُلحة كالتوظيف، والصحة، والتعليم، والأمن.
تتفاقم التحديات التي تواجه الحكومة اللبنانية لتشمل استيراد الاحتياجات الأساسية مثل الوقود والدواء، وتحقيق الأمن الغذائي. كل ذلك يتطلب استجابات سريعة وفعالة، لكن الأحزاب السياسية تظل متصادمة بسبب المصالح الطائفية، مما يُفضي إلى مزيد من الاضطراب والاحتقان.

تُعتبر الميثاقية اليوم عائقًا أمام قدرة الدولة اللبنانية على فرض سلطتها. تتحول الأحزاب السياسية، بدلاً من العمل معًا لتحقيق استقرار البلاد، إلى التركيز على تعزيز نفوذها من خلال تحصين مواقفها الطائفية. في ظل هذا الوضع، لا تملك الدولة سوى القليل من القدرة على ضبط الأمور، مما يزيد من احتمال استفادة القوى الخارجية، مما يفاقم الوضع الهش.
كان من المفترض أن تُرسل جلسة مجلس الوزراء في الأسبوع الأول من شهر آب إشارة معينة. هل كانت مجرد اهتزاز سياسي، أو لمحة عن الحياة المؤسساتية، أو لفتة سياسية في بلد لم يعد يعرف حقًا ما تعنيه مثل هذه الأمور؟ لكننا شهدنا في المقابل قوة الخلاف المحتدم في غرفة العناية الفائقة. بين جلسة أولى باردة، ومقاطعة علنية للجلسة الثانية، وجدت هذه الحكومة، التي من المفترض أن تتعامل مع أزمة وجودية، نفسها في وضع “نعم ولكن” يرافقه “لا ولكن” في الوقت نفسه.
الأمر الأسوأ هو أنه بينما كان الوزراء في منازلهم يُضيعون الوقت، كان بعض القادة يصورون أنفسهم في مشهد مختلف: مشهد الشتائم على شاشات التلفزيون. كان الشيخ نعيم قاسم بحاجة إلى أن يُسمع، بينما كان في حالة غضب يكاد يُختنق، ليذكّر الجميع بأن حزب الله يقبل، على مضض، بما قدّم له على مر السنين، وكأن المرء يمكن أن يُؤخذ رهينة ويُعاني في الوقت ذاته.
ومثل كل مرة يُحاول فيها إخماد لحظة سياسية، استخرجنا الوصفة القديمة: هجوم من رئيس كتلة نواب حزب الله في المجلس النيابي، محمد رعد، رافضًا تسليم سلاح الحزب إلى الجيش اللبناني. كما شهدنا مسيرات في ضاحية العاصمة، وقليل من ركوب الموتوسيكلات في الشارع، وبعض الشعارات المعلبة، وغضب مُنسق بعناية، والاتهامات والتهديدات المعهودة على وسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك يكفي لتغيير الأمور، لكنه ليس كافيًا لتوليد الخوف. إنها وهم الرفض الشعبي، ولكن دون الشجاعة لخوض مواجهة حقيقية.
لذا، يمكن القول بكل أمان إن حزب الله عارض ذلك. لكن لنكن جادين، لأن هذه معارضة سطحية، تمثيلية لمقاومة واقع ساهم هو نفسه في صنعه. لأن الاتفاق الذي يتم رسمه اليوم، بغض النظر عن كونه “أمريكياً”، ليس نزوة دبلوماسية؛ بل هو إنذار دولي. صفعة جيوسياسية تُخبرنا بشكل أساسي: توقِّع أو اقفز!
في هذا السياق، ليس أمام حزب الله خيار. يمكنه الاستعراض، التذمر، أو الرفض لدخول الغرفة؛ لكن العالم، هو، قد قلب الصفحة بالفعل. لقد انتهى زمن التفاوض الذي لا نهاية له، وكذلك زمن الغموض البطولي. لأن هذه هي جوهر المسألة: حزب الله يتصرف كما لو أنه غير معني بما يحدث، وكأن خياراته العسكرية، تحالفاته الإقليمية، ومنطق الردع الأحادي الجانب ليس لها أي تأثير على انهيار الدولة.
هو يقف ضد ما تسبب به، يُنكر عواقب أفعاله الخاصة، ويريد البنادق والكلمات والبراءة. ولكن هذه الأمور قد انتهت.

طوال هذا الوقت في السلطة التنفيذية، كان الرئيس نواف سلام يسير على حبل مشدود، متوترًا بين صرامة القاضي والمستنقع السياسي اللبناني. كرئيس وزراء، دائمًا ما جسد فكرة معينة عن الشرعية، المنهجية، والاعتدال. ومع ذلك، فإن الوضع الحالي يتطلب أكثر من مجرد تجسيد للقيم، بل يتطلب مواقف جريئة وحقيقية تساهم في تجاوز الكارثة الحالية.
وبينما يعاني لبنان من أزمات متفاقمة، فإن الحاجة إلى بناء أسس جديدة من الميثاقية التي تعزز الحوار والتفاهم بين جميع الأطراف السياسية أمر ملح. إن الميثاقية يجب أن تصبح وسيلة لتعزيز الوحدة وليس لتبرير الانقسام. يتعين على جميع الأطراف السياسية، بما في ذلك حزب الله، التفكير في مستقبل البلاد ووضع الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق الاستقرار.
إذا أردنا حقًا أن نرى لبنان ينتقل إلى مرحلة جديدة من الفهم والتعاون، فإن الحوار يجب أن يكون مفتوحًا، ولا يمكن أن يستمر استخدام الميثاقية كأداة للتقسيم. على اللبنانيين أن يكونوا على استعداد لمواجهة الحقائق المرة، وتجاوز الأحقاد والخلافات من أجل بناء وطن مستقر ومزدهر. ولا بد من ان يؤدي اي حوار جدّي لتحديد استراتجية الدفاع الوطني وسط المتغيرات في الواقع اللبناني وفي الشرق الأوسط الذي يستعد لبناء أنظمة جديدة لن يكون لبنان بعيداً عنها.

ان لبنان بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في مفاهيمه السياسية، وذلك من خلال دمج الميثاقية في نقاشات حساسة وصادقة لتحقيق تغيير حقيقي بعيداً عن الفدراليات التي ارتفعت بها أصوات اعتاد لبنان سماعها كلما اشتدّت الأزمات. وقد يكون هذا هو السبيل الوحيد للحد من الأزمات الحالية وترسيخ الاستقرار والسلام في البلاد.

( ضمن إطار)

لبنان والاستراتيجية الدفاعية: نحو رؤية وطنية شاملة.

إن الحوار حول الاستراتيجية الوطنية الدفاعية اللبنانية، أو ما يُعرف باستراتيجية الأمن القومي، يمثل خطوة أساسية نحو بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات. هذه الاستراتيجية تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، ويُتوقع أن تُحسن العلاقات مع المحيطين الإقليمي والدولي. في هذا السياق، يسعى الحوار إلى تحقيق الأمن الوطني والأمن القومي اللبناني من خلال مواجهة الأخطار الخارجية والتهديدات الداخلية.

تسعى الاستراتيجية الدفاعية إلى مواجهة التحديات الأمنية من خلال تضمين بعدين رئيسيين:
1. البعد الخارجي: يتعلق بمواجهة التجاذبات السياسية والاضغوط العسكرية من الدول المجاورة أو من قوى خارجية تهدد الأمن الوطني. يتضمن هذا البعد تطوير قدرات الدفاع الوطني والتعاون مع الدول الصديقة لتعزيز الأمن الإقليمي.
2. البعد الداخلي: يتصل بالإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه لبنان، خصوصاً التعقيدات الناجمة عن الخلافات السياسية والطائفية. يُعتبر هذا البعد الأكثر أهمية، لأنه يعكس كيفية تأثير الانقسام الداخلي على الاستقرار.

لتفعيل الاستراتيجية الدفاعية، يُعتبر الحوار الوطني ضرورياً. يجب أن يتكون هذا الحوار من قادة الرأي ونخب وطنية تمثل مختلف القطاعات، وليس فقط أحزاب السلطة. ويتعين أن تكون هناك هيئة وطنية متوازنة، تستفيد من انتفاضة العدالة التي شهدها لبنان في 2019، والتي تهدف إلى إصلاح النظام ومكافحة الفساد.
رئيس الجمهورية هو الجهة المعنية بالدعوة لهذا الحوار. يجب أن يُركز على تحديد المخاطر الحالية والتحديات المستقبلية، وتقديم مقومات الاستراتيجية التي لا بد من مناقشتها لوضع خطة أمن قومي عامة للبنان. من المهم أن تُحدد الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن أطر واضحة لا تقبل اللبس.

تتطلب الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية تحديد خمس مقومات أساسية منها:
1. المقومات السياسية: تحقيق استقرار نظام الحكم الميثاقي وفق الدستور اللبناني. يتطلب هذا التوجه وجود رؤية استراتيجية واضحة للتعامل مع أي خلافات قد تطرأ. يجب أن يكون هناك التزام بالمؤسسات الدستورية وقراراتها.
2. الالتزام بالشرعية الدولية: يتوجب على لبنان الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وعدم الانحياز لأي محور من المحاور الإقليمية والدولية، مع استثناء الحالة الفلسطينية والعداء للاحتلال الإسرائيلي.

تختلف وجهات نظر الأطراف المعنية حول طبيعة الحوار الوطني ومدى فاعلية رئيس الجمهورية كحكم. إذ يتطلب الأمر فهمًا عميقًا حول ما إذا كانت القوى السياسية مُستعدة لقبول دور رئيس الجمهورية في الدعوة للحوار وتنفيذ مخرجاته. نحتاج أيضاً إلى تحديد كيف تنظر انتفاضة العدالة إلى هذه القضية.
إن التجارب السابقة في الحوار تُحتّم على المكونات السياسية تقديم أفكار مكتوبة وواضحة خلال فترة محددة، للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالمقومات الأساسية للاستراتيجية.

في ظل المتغيرات المستمرة والمعقدة في منطقة الشرق الأوسط، يُصبح من الضروري التوصل إلى إجماع وطني حول الاستراتيجية الدفاعية. فالوحدة في الرؤية الاستراتيجية تعزز من قدرة لبنان على مواجهة التحديات الخارجية، وتضمن تضافر الجهود لمواجهة الأزمات الداخلية.
إن التوافق بين القوى السياسية على استراتيجية دفاعية واحدة يُعتبر ضروة ملحة لتأمين البلاد وحماية استقرارها وسط مخاطر جديدة تتزايد يومًا بعد يوم. إن بناء هذا الإجماع يتطلب شجاعة سياسية وتضحية من جميع الأطراف، لضمان مستقبل أفضل للبنان وشعبه.