من كان يصدق أن اسرائيل ستشن حرب إبادة بهذه الوحشية لمدة عامين متواصلين؟ من كان يصدق أنها ستجسد كل هذه الوحشية بهذا الشكل الغرائزي الذي غادرته البشرية منذ دخلت أولى عصور الحضارة؟ ومن كان يصدق أنها ستفعل كل هذا دون أن يملك هذا العالم ما يكفي من الأخلاق للجمها أو لترجمة كل مقولاته ووثائقه التي تمزقت على أرصفة غزة وسالت كما دماء الغزيين في انكشاف فاضح بعد هذه الحرب لا تشبه ما قبلها ليس في قطاع غزة وعلى الفلسطينيين فحسب بل على العرب والعالم والمؤسسات الدولية التي نشأت لحماية البشر وعدم تكرار هولوكوست ارتكبه النازي ذات مرة فإذا بالضحية تصنع بضحيتها ما حدث لها وتلك واحدة من أغرب تجارب التاريخ المروعة.
على مدار سنتين كانت البنايات تنهار كقطع من الكرتون وكانت الناس تموت بالجملة في مجازر لم تتوقف وكانت الشوارع يتم اقتلاعها من أماكنها ومن جذورها كان يتم تجريف المكان بشكل لم يتوقف على الإطلاق فقد كانت عامين تكفيان لإبادة كل شيء فالنار التي صبتها اسرائيل على غزة كانت كفيلة بتجفيف المحيطات وتحويل الأسماك إلى طائرات نفاثة والصخور إلى هياكل عظمية فما حدث سيكون رواية القرن الحادي والعشرون لمأساة كانت الأكثر قسوة والأكثر خذلاناً من عالم وقف متفرجاً على عملية الذبح بلا رحمة.
عامين لم تترك فيهما اسرائيل أي شيء ولم تترك وسيلة تعذيب إلا وجربتها على جلود الغزيين ولسخرية المأساة كان الموت أكثرها رحمة وكانت الحياة لمن تبقوا مجرد رحلة إلى الجحيم تتجسد إلى ما لا نهاية فقد كانت اللحظة التي أرادت خلالها أن تضرب كل عصافير الأرض بحجر واحد أنهاء الاحتجاجات الداخلية واستعادة قوة الردع المتآكلة والتي بدأت تتحدث عنها الدوائر الامنية بشكل معلن والأهم انهاء واحدة من الإستراتيجيات الكبرى التي فاتتها في النكبة الأولى عندما لم تتوقف الدبابات الإسرائيلية عند الحدود المصرية بعد أن تكون قد دفعت بالفلسطينيين أمامها إلى صحراء سيناء في ظل وضع مصري هش آنذاك تحت حكم الملك فاروق .
كان النداء العسكري الأول الصادر لسكان غزة بالرحيل جنوب الوادي الذي يقسم القطاع هذا في السابع من أكتوبر 2023 يوم الحدث الكبير كيف كانت اسرائيل تعرف بسرعة ما الذي تريده؟ الأمر كيس كذلك بل أنها قامت بإخراج المشاريع التي كانت تنتظر لحظتها المناسبة من الأدراج وتدارك ما كانت قد نسيته أو لتدارك ما اكتشفت أن قطاع غزة الذي ضم الكتلة الأكبر من اللاجئين أصبح كعب أخيلها ونقطة ضعفها الذي انطلقت منه الثورة والفصائل الفلسطينية المسلحة والعمليات الفدائية التي بدأت منذ خمسينات القرن الماضي ولم تتوقف .
كانت الفوضى التي وصل غبارها حد السماء على امتداد عامين منظمة إلى الحد الذي كانت تسير فيه وفق خطط محكمة كان لا بد وأن تسير بالتوازي محطمة كل قطاعات المجتمع وتقوم بإعدام كل ممكنات الحياة كشرط لمغادرة الناس القطاع قسراً أو طوعاً فقد استهدفت قطاعات الصحة والتعليم والبنى التحتية والبيوت تمت تسويتها بالأرض في المناطق التي أجهزت عليها هكذا تموت مدن ومخيمات وأحياء وحواري حتى آخر بيت لأربع وعشرين شهراً لم تتعب آلة الدمار من حرث كل المباني بل واستوردت اسرائيل مائة وخمسين جرافة كاتربيلرD9 من الولايات المتحدة تسلمت أول دفعة منها مطلع يوليو الماضي لتسريع الهدم .
الإبادة الصحية :
لم يكن وفقاً للتفكير الإسرائيلي إلا استغلاله للحظة التاريخية بأن يقضي على القطاع الصحي والمستشفيات والمراكز الفرعية وسيارات الإسعاف والأطباء والمسعفين كما حدث في حادثة رفح التي قتل فيها ثمانية مسعفين إذ تشير التقارير بعد عامين على إبادة الصحة والتي كانت تفتقر قبل الحرب للممكنات اللازمة بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة ليصدر تقرير منظمة الصحة العالمية بنداء استغاثة بأن القطاع الصحي وصل مرحلة الإنهيار لكن التقارير التي توثق الخسائر الفادحة للقطاع الصحي تثير الذعر مما فعلته اسرائيل بهذا القطاع الذي يفترض أنه يحظى بحصانة كاملة ويمنع استهدافه وخصوصاً في الحروب لكن اسرائيل بذلت كل الجهود اللازمة للقضاء علية ببنيته التحتية وكوادره العاملة .
فقد نشرت الإحصاءات الرسمية الشهر الماضي مع اقتراب الحرب لعامين أن عدد شهداء القطاع الصحي بلغوا 1203 شهيداً منهم 109 أطباء وقد استشهد في الأسر أربعة شهداء للقطاع الصحي ولا زال في الأسر 181 أسيراً من هذا القطاع فيما تحرر من الأسر 200 من الكوادر الصحية وتلك الأرقام تعكس كارثة في مكان صغير بحجم قطاع غزة أم احصائية المستشفيات الرسمية فقد نشرت بأن عدد المستشفيات التي تعمل بكامل طاقتها بلغت 0 أما المشافي التي تعمل بشكل جزئي فقد بلغت 18 مستشفى فيما خرجت 18 مستشفى عن الخدمة نهائياً وفي إطار نفس الإحصاءات التي نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية مع اقتراب عامين على الإبادة بأن 9 مستشفيات قد تم تدميرها كلياً أما المدمرة جزئياً فقد بلغت 25 مستشفى وأن هناك 7 مقابر جماعية في المستشفيات فيما أبلغ عن 144 سيارة اسعاف قد تم تدميرها
لقد استشهد بسبب المجاعة التي صنعتها اسرائيل بحرمان القطاع من المساعدات والمواد التموينية وإغلاق معابر القطاع وحرمانه فقد سقط 361 شهيداً بسبب الجوع فيما سقط 17 بسبب البرد الشديد أما الأمراض المعدية فقد أصيب بها مئات الآلاف دون أوضاع صحية ونظافة فيما بلغت أرقام المصابين والذين هم بحاجة للإخلاء للعلاج 15600 مصاباً هم بحاجة ملحة لاستكمال العلاج في أسوأ رحلة تعذيب يمر بها البشر الذين ينزفون وجعاً بل أن منع اسرائيل لدخول الأدوية ساهم في رفع نسبة الموت الطبيعي في غزة بشكل كبير فقد قضى ذلك على الكثير من أصحاب الأمراض المزمنة ومع غياب النظافة والإمكانيات تفشت الأمراض وانتشرت الأمراض المعدية واضطر الأطباء خلال العامين الماضيين للعمل تحت القصف وإجراء عمليات في الممرات وبدون مخدر ما فاقم الأوضاع الصحية بشكل سيظل جزء من الذاكرة الصعبة للغزيين الذين تضاعفت آلامهم النفسية والجسدية أكثر في إطار مشروع إعدام الحياة في القطاع الذي امتد وجعاً على امتداد الأشهر الأربعة والعشرين الماضية كانت وكأنها عشرات السنين من الوجع .
مذبحة التعليم :
الآن وبعد عامين على الإبادة الكلية كان حصاد تدمير التعليم الممنهج أكثر فداحة من باقي القطاعات المعلنة فلعامين لم يذهب الطلاب إلى مدارسهم وهذا من أخطر ما حدث في هذه الحرب فمنذ شهر انتهى عامين ودخل العام الثالث للطلاب بلا مدارس ولا جامعات وقد نشرت الجهات الرسمية عن حجم الجريمة إذ كانت الأرقام صادمة فقد تعمدت اسرائيل تدمير 90% من مباني المدارس والجامعات وحرمت أكثر من 785 ألف طالب وطالبة من حقهم في التعليم وقد أدى العدوان الإسرائيلي لمدة عامين إلى إزالة ما يعادل 25 مدرسة بطلبتها ومعلميها .
في هذه الحرب خلال عاميها قتلت اسرائيل أكثر من 19 ألف طالب وطالبة وأصيب نحو 29 ألف من الطلاب كما استشهد أكثر من ألف معلم وأصيب منهم 5 آلاف كما أشارت المصادر الرسمية إلى مقتل أكثر من 230 أكاديمي في القطاع فيما بلغت الإصابات بينهم 1420 أكاديمياً أما الجامعات فقد عملت على تدميرها بشكل منظم ومتعمد منذ البدايات ولم تبق جامعة أو كلية قائمة في غزة ويشكل هذا تحدياً كبيراً ربما لن يتمكن القطاع لسنوات من استعادة العملية التعليمية التي تحتاج إلى مبان وإنشاءات كثيرة لا يمكن اتمامها بسنوات قليلة ما يعني الحكم بتجهيل الغزيين وأبعد من ذلك إذ أن التعليم كان الوسيلة الوحيدة للغزيين ككتلة لاجئين للوقوف على أقدامهم من جديد واستئناف حياتهم بعد النكبة وإعادة بعثهم وهويتهم الوطنية وقد أدركت اسرائيل ذلك وها هي تعود لتعالج بوحشية استنتاجات التاريخ لتحول قطاع غزة أو من يتبقى به إلى مجموعات وأجيال من الجهلة أو أن يرحل الآباء حرصاً على مستقبل الأبناء باحثين عن دول أخرى تمكنهم من تدريس أبنائهم .
تفكيك المجتمع:
عمدت اسرائيل منذ بداية الحرب إلى تشتيت الغزيين وإعادة خلط المجتمع الذي أعيد ترتيبه في عقوده الاخيرة فعمليات النزوح لم تتوقف وجرى خلط كل السكان من جديد بعد أن استقر بين مخيم ومدينة وقرية بتنوعه المديني والمتصل الحضاري الذي يحدد شكل العلاقة كما كل المجتمعات ولكن فجأة يتم حشر كل سكان تلك المناطق في مكان واحد في المواصي التي تقع على الشريط الساحلي لمنطقتي رفح وخانيونس والعيش في خيام فلم يعد أي من معالم المجتمعات المدينية ولا الريفية التي تحدد سوية وتراتبية ومعالم المجتمعات فقد تم تفكيك المجتمع وغابت ملامح استقراره ولم تبق مدينة ولا مخيم ولا قرية إلا ودمرها الاحتلال ومع تجريف البنايات والشوارع والبنى التحتية كان يتم فكفكة المجتمع .
لقد كانت عملية التجويع التي مارستها اسرائيل في القطاع ومع آلية التوزيع السيئة دوراً لا يقل فداحة في إعادة سكان القطاع لصراع الغرائز الأولى ” صراع البقاء ” بما يحمله من متطلبات ذلك الصراع التي تخلو من السمات الحضارية وعمدت إلى التعاون مع الإدارة الأميركية بالتوزيع في نقاط محددة حيث التزاحم والعراك أو وسيلتها بالسماح بإدخال الشاحنات الشحيحة من مسارت معينة ينتظرها المتزاحمون وتلك ساهمت بتفكيك المجتمع ولم تكن مصادفة ولا شيء مصادفة مع احتلال يلعب علماء الاجتماع دوراً هاماً في صراعها مع الفلسطينيين وهم يعدون أوراق العمل للمؤسسة العسكرية لتدمير وتفكيك المجتمع الفلسطيني .
التركيز على الجوانب الثلاثة كحصاد لوحشية تمددت على مدار أربعة وعشرين شهراً لا ينفي كل جوانب المجتمع بل جاء من باب الأهمية التي تكفي وحدها لانهيار المجتمع وهو ما فعلته اسرائيل مع سابق اصرار وترصد لعقود سابقة وهي تترصد الفلسطيني منتظرة إنهاء وجوده على هذه الأرض ككتلة بشرية باتت في عقودها الأخيرة تشكل أزمة تعتبرها الدولة العنصرية المحتلة أزمة وجودية حيث زيادة الكتلة الخاضعة للإحتلال وتحول الكتلة المحتلة إلى أقلية لتصبح دولة ابرتهايد عنصري كما جنوب أفريقيا ما يهدد بعزلتها وتفكك هذا الإبرتهايد فكان الحل الأمثل بالتخلص من كتلة سكانية وكانت غزة ليكون أوسلو ثم تكون سيطرة حماس فتعلن اسرائيل الانفصال مع غزة أي ككتلة بشرية .
ولكن السابع من أكتوبر أعاد خلط الأوراق وقلب الطاولة على رأس اسرائيل لتعاود السيطرة على غزة ليعود شبح الديمغرافيا من جديد وحلها بإخراج السكان من غزة بالقوة أو بتحويل القطاع إلى منطقة محروقة لا تصلح للحياة فهل تنجح بعد عامين على الإبادة ؟ التركيز على التعليم من الجانب الاجتماعي والصحة بالمعنى الحياتي والنزوح واللجوء والجوع بالمعنى الإجتماعي أرادت من خلالهما تفكيك المجتمع كخطوة على الطريق في ظل هذا الصمت العالمي العالي كشاهد على خلل الضمير وخلل المواثيق والمؤسسات وترك الإسرائيلي يفعل هولوكوست لإبادة قومية أخرى في ذلك المكان الصغير؟ … والفقير …. عامين على الموت الأسود بطبعته الإسرائيلية.