إسحاق نيوتن هل كان ملحدا أم مؤمنا؟ 

شاءت المصادفة أن أقرأ خبرا مفاده أن اسحاق نيوتن كان مهتما بالدراسات الدينية وأنه كتب في اللاهوت أكثر مما كتب في العلوم وأحببت أقف على رأيه في هذه المسائل ورأيه في الوجود والعدم ما وراء الطبيعة 

يعتبر إسحاق نيوتن  (1643–172) واحدًا من أعظم العقول في التاريخ. ولد في منتصف القرن السابع عشر، القرن الذي شهد تحولات جذرية في فهم الإنسان للكون وساهم في مجالات متعددة من العلوم، أبرزها الفيزياء والرياضيات والفلك، كما وضع أسسًا راسخة للعلم الحديث. وقد غيرت اكتشافاته الطريقة التي نفهم بها العالم الطبيعي، لا سيما من خلال قوانينه الثلاثة للحركة وقانون الجاذبية العامة. 

تخبرنا سيرة حياته إنه وُلد في 4 كانون الثاني من العام 1643 في قرية “وولستورب” بمقاطعة لينكولنشاير في إنكلترا، بعد وفاة والده بثلاثة أشهر. عاش في كنف جدّته بعد زواج والدته من رجل آخر. كان طفلاً ضعيف البنية هادئًا، لكنه أظهر منذ صغره ميلًا للعزلة والتأمل.  

عندما كان نيوتن في الرابعة من عمره، تزوجت والدته من رجل دين ثري وانتقلت للعيش مع. تركت والدته نيوتن في رعاية جدته، وبقي معها لمدة سبع سنوات. تسبب هذا الموقف المؤلم في كراهية نيوتن لعائلته، وخاصة زوج أمه. من سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة، عاش نيوتن في منزل ويليام، وهو صيدلاني، حيث أصبح مفتونًا بالكيمياء وابنة زوجة الصيدلاني، الآنسة ستوري. 

عادت والدته بميراث كبير عندما توفي زوجها بعد سبع سنوات. بدأ تعليمه في مدرسة الملك في غرانثام في سن الثانية عشرة وتخرج عام 1661 وهي الفترة من الوقت التي أخرجته والدته فيها من المدرسة ليصبح مزارعًا كأبيه، لكن نيوتن لم يكن مهتمًا بالعمل الزراعي، وكان يدرس السماء والنجوم باستمرار، ويقرأ الكتب ويدون الملاحظات. أخيرًا، اقتنعت والدته بأنه يجب أن يذهب إلى المدرسة ويستعد للجامعة، وهكذا كان. 

التحق بمدرسة الملك إدوارد في “غرانتهام”، وهناك بدأ يظهر نبوغًا استثنائيًا في الرياضيات والعلوم. ثم التحق التحق بكلية “ترينيتي” في جامعة كامبريدج، حيث تلقى تعليمه في الفلسفة الطبيعية، التي كانت آنذاك مزيجًا من الرياضيات والفلك والفيزياء وفي العام 1665، أُغلقت جامعة كامبريدج بسبب تفشي الطاعون، فعاد إلى منزل والدته في الريف، وهناك في عزلته بدأت “السنتان المعجزتان” (1665–1667) وضع خلالها أسس حساب التفاضل والتكامل، وابتكر قوانين الحركة والجاذبية، وبدأ تجاربه على الضوء والبصريات. تقول الأسطورة إن سقوط تفاحة من شجرة ألهمه فكرة الجاذبية، لكن المؤرخين يشيرون إلى أن نيوتن نفسه روى الحادثة لاحقًا كرمز لتأملاته، لا كمصدر مباشر للاكتشاف. 

نشر نيوتن أشهر أعماله “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية  (Principia Mathematicas) وهو من أعظم الكتب في تاريخ العلوم. إلى جانب الفيزياء، ساهم بشكل كبير في تطوير علم الرياضيات، وكان أحد مؤسسي حساب التفاضل والتكامل، بالرغم من الجدل الذي دار لاحقًا حول الأسبقية بينه وبين العالم الألماني غوتفريد لايبنتز كما قدم إسهامات بارزة في الجبر والتحليل الرياضي. 

كان إسحاق نيوتن أكثر من مجرد عالم؛ كان رمزًا لعصر التنوير، ومثالًا على عبقرية الإنسان عندما يقترن الفضول بالمثابرة. لم يكتفِ بإعادة صياغة القوانين الطبيعية، بل قدّم للعالم نموذجًا للعقل التحليلي المنظم وما زال اسمه يتردد اليوم كتجسيد للعلم في أنقى صوره، وعنوانًا للبحث عن الحقيقة في الكون. 

توفي نيوتن في 20 مارس 1727، ودفن في “كنيسة وستمنستر آبي”، وهو تكريم لا يحظى به سوى القلة من أبرز الشخصيات في التاريخ البريطاني. ترك إرثًا علميًا ضخمًا وألهم أجيالًا من العلماء. وقد ظلت نظرياته ركيزة الفيزياء الكلاسيكية حتى مطلع القرن العشرين، حين ظهرت نظرية النسبية لأينشتاين، التي وسعت فهمنا للجاذبية والزمان والمكان. ومع ذلك، لا تزال قوانين نيوتن تُدرّس في المدارس والجامعات حول العالم كأساس للميكانيكا. 

رغم شهرته كعالم تجريبي، كان لنيوتن اهتمامات واسعة في الدين والتاريخ واللاهوت، وقد كرس جزءا كبيرا من حياته لدراسة اللاهوت والنصوص الدينية، بل كتب في هذا المجال أكثر مما كتب في العلوم وكان يؤمن أن قوانين الكون دليل على وجود إله منظم، وعارض الإلحاد بشدة.  

يبقى السؤال: هل كان نيوتن ملحداً؟ هل كان مسيحيا أم مسلماً؟ 

إن أبرز ما ميّز معتقدات نيوتن أنه رفض عقيدة الثالوث التي تقول بأن الآب والابن والروح القدس إله واحد في ثلاثة أقانيم، وهي من العقائد الأساسية في معظم الطوائف المسيحية، وكان يرى أن المسيح ليس إلهاً مساوياً لله، وإنما مخلوق أُرسل من الله، وهذا ما يجعله أقرب إلى الأريوسية أو الموحدين المؤمنين بوحدانية الله، وكان مؤمنًا بخالق إيمانًا عميقًا، يرى أن الكون منظم بدقة نتيجة تصميم إلهي، وأن فهم هذا النظام هو طريق لفهم الله نفسه. كان مهتمًا بتحديد نهاية العالم وتاريخ عودة المسيح. حاول استخدام الرياضيات والتواريخ لفهم النبوءات. تكتم على آرائه لأن رفض عقيدة التثليث وكان يُعتبر هرطقة في إنكلترا آنذاك، وحافظ على سرية معتقداته الدينية ولم ينشرها علنًا، بل احتفظ بها في أوراقه الخاصة التي لم تُكتشف إلا بعد وفاته. 
لم يكن نيوتن مؤيدًا للمؤسسة الكنسية التقليدية، وكان يعتبر أن الكثير من تعاليم الكنيسة قد حُرفت عن المسيحية الأصلية، وقد ذكر النبي محمد في بعض أوراقه الخاصة، خاصة عند تفسيره للرموز الموجودة في سفر الرؤيا وسفر دانيال، حيث حاول فهم التاريخ الديني من منظور نبوءاتي. في هذا السياق، اعتبر ظهور الإسلام جزءًا من التاريخ الديني الذي يتقاطع مع النبوءات لكنه لم يُظهر عداءً شخصيًا للنبي محمد، ولم يكتب عنه كثيرًا، ولم يدرسه بعمق كما فعل مع العقائد المسيحية. كان نيوتن مسيحيًا موحدًا (Unitarian)  يؤمن بإله واحد ويرفض عقيدة التثليث، واهتم كثيرًا باللاهوت ودراسة النبوءات وكان يرى أن العلم والدين ليسا متناقضين بل متكاملين، وأن فهم قوانين الطبيعة يقود إلى تمجيد الله. 

لم يهاجم الإسلام بشدة، كما فعل بعض معاصريه من الأوروبيين، بل تعامل معه كظاهرة تاريخية ودينية مرتبطة بسير النبوات، من منظور مسيحي. ومن المهم أن نذكر أن نيوتن عاش في بيئة ثقافية مسيحية تعتبر الإسلام “بدعة” أو “هرطقة”، لذلك حتى إن لم يكن عدائيًا، لم يكن أيضًا محايدًا تمامًا. لا توجد في أوراقه أي إشادة مباشرة بالنبي محمد أو اعتراف بنبوته لكنه أيضًا لم يتهجم عليه تهجمًا شخصيًا، كما فعل كثيرون من مفكري عصره، ومن المؤكد أن اهتمامه بالإسلام كان ثانويًا جدًا، مقارنة بتركيزه على المسيحية ونقد الكنيسة والتثليث.