لم يعد الذهب، المعروف بلمعانه الثابت وندرته المتأصلة، مجرد مخزن تقليدي للقيمة؛ بل تحوّل إلى سباق ماراثوني سريع، فاجأت سرعة ارتفاعه غير المسبوقة كبرى المؤسسات المالية والمستثمرين حول العالم. في السنوات الأخيرة، وتحديداً في الآونة الأخيرة، أصبح المحللون الاقتصاديون والخبراء في الأسواق يتحدثون عن ظاهرة “لا تُلاحَق”، حيث يكسر المعدن الأصفر سجلاته التاريخية بوتيرة قياسية، متجاوزاً أعلى التوقعات.
لقد تخطى الذهب مرحلة كونه مجرد مقياس للقوة الشرائية، ليصبح الأصل الذي يلجأ إليه الجميع خوفاً من الفوضى الاقتصادية والجيوسياسية المتصاعدة.
هذا الارتفاع الصاروخي يُثير السؤال الأهم: ما الذي يدفع هذا المعدن ليحطم هذه السجلات التاريخية بسرعة فائقة؟ وما هي الرحلة التي خاضها الذهب ليصبح لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي، حتى بات العالم والمستثمرون لا يجدون وقتاً لملاحقة قفزاته السعرية المتتالية؟ لا شك أن هناك أسباباً عدة وراء هذا “الجنون الأصفر” وتاريخه ومستقبله.
لطالما كان الذهب، المعروف بلمعانه الثابت ونُدرته المتأصلة، أكثر من مجرد معدن ثمين. وعلى مدى آلاف السنين، تحوّل من زينة ملوك الفراعنة وإشارة إلى الثروة إلى حجر الزاوية في النظام المالي العالمي، ومقياس لقوة العملات، وملاذ أمان لا يضاهى في أوقات الأزمات.
مؤخراً، شهد الذهب قفزات سعرية غير مسبوقة، متجاوزاً مستويات كانت تُعتبر خيالاً قبل سنوات، ليُرسخ مكانته كأصل استثماري لا يمكن تجاهله، حيث أنه . بات قريباً جداً من مستوى الـ4 دولار.
في عام 2024، تجاوز المعدن النفيس قمماً قياسية، متجاوزاً حاجز 2900 دولار للأونصة لأول مرة في فبراير (شباط)، حيث تعامل المستثمرون مع تقلبات السوق عقب الرسوم الجمركية الأميركية وتصاعد المخاطر الجيوسياسية. ومن ذلك الحين، راح يقفز بمستويات خيالية وبسرعة لم يكن يتوقعها المستثمرون.
تعود الأسباب الرئيسية وراء هذه الارتفاعات القياسية والمستمرة إلى مزيج معقد من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية والنفسية:
- عدم اليقين الجيوسياسي وتصاعد المخاطر :
يظل الذهب هو ملاذ الأمان الأول بلا منازع. فعندما تتصاعد التوترات الجيوسياسية – سواء كانت حروباً إقليمية، أو صراعات تجارية كبرى، أو عدم استقرار سياسي داخلي في قوى عالمية – يتجه المستثمرون الكبار والمحافظ السيادية إلى بيع الأصول عالية المخاطر، كالأسهم مثلاً، وتحويل السيولة إلى الذهب، الذي يُنظر إليه على أنه يحافظ على قيمته بغض النظر عن موقع النزاع. تجلّى هذا العامل بوضوح في عام 2022 مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وفي 2023 و2024 و2025مع التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط.
- التضخم وتآكل القوة الشرائية:
التضخم هو العدو اللدود للقوة الشرائية للمال. فمع ارتفاع معدلات التضخم عالمياً، تتجه المصارف المركزية والمستثمرون إلى الذهب كوسيلة للحماية من تآكل قيمة العملات الورقية. وبالتالي، فإن الذهب، بصفته أصلًا مادياً محدود العرض، يُعدّ تحوطاً تقليدياً ضد ارتفاع الأسعار، حيث يميل سعره للارتفاع مع انخفاض قيمة العملات.
ومثال على ذلك، أنه بعد جائحة كوفيد-19، شهدت الولايات المتحدة وأوروبا أعلى معدلات تضخم منذ عقود. كان رد فعل المستثمرين هو شراء الذهب بكثافة، ما دفع سعره لاختراق حاجز 2000 دولار للأونصة للمرة الأولى بشكل مستدام في 2020/2021، بالتزامن مع طباعة النقود على نطاق واسع لتمويل حزم التحفيز.
- سياسات المصارف المركزية:
لعل العامل الأبرز في موجة الارتفاع الأخيرة هو الطلب القياسي من المصارف المركزية العالمية. فبعد سنوات من سيطرة الدولار الأميركي، بدأت المصارف المركزية – خاصة في الاقتصادات الناشئة والدول التي تسعى لتنويع احتياطاتها – في زيادة حيازتها من الذهب بوتيرة غير مسبوقة، تقليلاً للاعتماد على الدولار. هذا الطلب المؤسسي الضخم يمثل عامل دعم هيكلي وقوي لسعر الذهب.
وتعتبر الصين والهند وتركيا من أكبر المشترين على مستوى العالم. على سبيل المثال، استمر البنك المركزي الصيني في زيادة احتياطاته الذهبية لأشهر متتالية، حيث يُعلن عن شراء كميات ضخمة شهرياً. هذا الشراء المستمر من كيانات ذات ثقل هائل يمتص المعروض من الذهب في السوق ويشكل ضغطاً صاعداً قوياً ومستمراً على الأسعار.
وفقاً لمجلس الذهب العالمي، اشترت المصارف المركزية 183 طناً من الذهب في الربع الثاني من عام 2024 وحده، مسجلةً بذلك الربع الرابع عشر على التوالي من صافي المشتريات منذ الربع الثالث من عام 2020. وباتت المصارف المركزية مجتمعةً تمتلك اليوم ذهباً أكثر من سندات الخزانة الأميركية، لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود.
- توقعات خفض أسعار الفائدة:
تاريخياً، يرتبط سعر الذهب عكسياً بأسعار الفائدة الحقيقية. فعندما تكون أسعار الفائدة مرتفعة، يصبح الاحتفاظ بالذهب الذي لا يدر عائداً أقل جاذبية مقارنة بالسندات أو الودائع ذات العائد الجيد. لكن، عندما تبدأ المصارف المركزية في خفض الفائدة، ينخفض العائد على الأصول السائلة، مما يجعل الذهب أكثر جاذبية ويشجع على ارتفاع سعره.
في هذا الإطار، شهد الذهب ارتفاعاً كبيراً في أواخر عام 2023 وأوائل عام 2024 عندما أشار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأول مرة إلى قرب نهاية دورة رفع الفائدة ومع أول خفض للفائدة الأميركية في سبتمبر (أيلول) الماضي وتنامي توقعات المزيد من التخفيض هذا العام، تحفّز المضاربون والمستثمرون على الدخول في سوق الذهب تحسباً لانخفاض العائد على السندات الحكومية والدولارية.
ووفقًا لأحدث بيانات تكوين العملات لاحتياطيات النقد الأجنبي الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، تسارع تنويع الاستثمارات بعيداً عن الدولار الأميركي في السنوات الأخيرة. وبينما ارتفعت حصة الدولار الأميركي بشكل طفيف في الربع الأخير من عام 2024، فقد أنهت العام عند حوالي 57.8 في المائة، مسجلةً انخفاضاً قدره 0.62 نقطة مئوية.
رحلة الذهب

لم يصبح الذهب مهماً بالصدفة؛ بل تُمثل رحلته التاريخية أساس أهميته الاقتصادية الحالية. ويعود استخدام الذهب كعملة إلى آلاف السنين في حضارات مصر القديمة وبلاد الرافدين. وقد رسخ جاذبيته بسبب ندرته النسبية، وقابليته للطرق، وعدم تعرضه للتآكل، مما جعله مخزناً مثالياً للقيمة.
لقد كانت اللحظة الأكثر تأثيراً في تاريخ الذهب هي اعتماده كـ “قاعدة للعملات” في القرن التاسع عشر. فقد ربطت معظم الدول قيمة عملتها الوطنية بكمية ثابتة من الذهب، وضمَن هذا النظام استقرار العملات وأعطى المستثمرين ثقة بأن العملة قابلة للتحويل إلى أصل مادي.
في عام 1971، انتهى نظام قاعدة الذهب فعلياً، عندما أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وقف تحويل الدولار الأميركي إلى ذهب ، بما عُرف بـ “صدمة نيكسون”. ومنذ تلك اللحظة، تحولت العملات العالمية إلى العملات الورقية غير المدعومة بالذهب، وأصبح سعر الذهب متقلباً ومحدداً بقوى العرض والطلب في السوق الحرة. وكانت هذه اللحظة هي التي حوّلت الذهب بشكل قاطع إلى أصل استثماري بدلاً من كونه مجرد معيار نقدي.
وبعد إلغاء قاعدة الذهب، تطور سوق الذهب ليصبح سوقاً عالمياً متكاملاً ومعقداً. وبات هذا المعدن الأصفر يدار بشكل أساسي عبر مراكز تداول عالمية، وخصوصاً في لندن التي تعد المركز الأقدم والأهم لتداول سبائك الذهب الخام، وكذلك نيويورك حيث بورصة “كومكس” للعقود الآجلة للذهب.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد الاستثمار في الذهب مقتصراً على شراء السبائك والمجوهرات، بل أصبح يتضمن آليات أكثر سيولة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– صناديق الذهب المتداولة : وهي صناديق تستثمر في الذهب المادي وتُتداول أسهمها في البورصات، مما يتيح للمستثمرين الوصول إلى سعر الذهب دون الحاجة إلى تخزينه فعلياً.
– العقود الآجلة والخيارات: وهي أدوات مالية معقدة تُستخدم للمضاربة على حركة السعر المستقبلية.
– الحسابات المخصصة للذهب: وهي عبارة عن خدمات مصرفية تتيح للعملاء امتلاك الذهب بشكل رقمي دون حيازة مادية فورية.
محطات تاريخية للارتفاع والانخفاض
لا شك أن أسعار الذهب مرت بمحطات وتقلبات حادة عكست الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى، منها مثلاً ارتفاعه الحاد في 1979 -1980 خلال أزمة النفط الثانية وغزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، حيث لامس سعره 850 دولاراً للأونصة في حينه؛ وكذلك ارتفاعه القياسي في 2008 – 2011 إبان الأزمة المالية العالمية حيث وصل إلى 1920 دولاراً؛ وخلال جائحة كورونا في 2020 حين تجاوز سعر 2400 دولار.
في المقابل، سجل الذهب انخفاضاً كبيراً بين 1980- 2000 مع تحسن الاقتصاد الأميركي، وارتفاع أسعار الفائدة، ليصل إلى حوالي 255 – 260 دولاراً؛ وكذلك بين 2011 -2015 مع تعافي الأسواق العالمية وقوة الدولار.
هل يستمر الصعود؟
تُشير معظم التحليلات الاقتصادية إلى أن العوامل التي تدفع سعر الذهب نحو الارتفاع هي عوامل هيكلية وليست مؤقتة، مما يدعم استمرار جاذبيته في المدى المتوسط والطويل. فمن غير المرجح أن تنتهي التوترات الجيوسياسية العالمية والتحولات في النظام الدولي في وقت قريب، مما يُبقي على الطلب على ملاذات الأمان قوياً. كما يُتوقع أن تستمر المصارف المركزية في سياسة “التنويع بعيداً عن الدولار” عن طريق شراء الذهب، مما يخلق أرضية سعرية صلبة للمعدن الأصفر.
وفي ما يتعلق بضغوط التضخم، فحتى لو انخفض، من الصعب العودة إلى مستويات التضخم المنخفضة للغاية التي سادت قبل عام 2020، مما يعني أن الذهب سيحتفظ بقيمته كتحوط.
لكن الذهب قد يواجه انخفاضات كبيرة إذا استقرت الأوضاع الجيوسياسية العالمية بشكل كامل، وقررت المصارف المركزية الرئيسية رفع أسعار الفائدة الحقيقية بشكل كبير ومستدام، مما يُعيد قوة الدولار ويجعل الأصول المدرة للعائد أكثر جاذبية بكثير. فهل سنشهد هذا السيناريو المتفائل؟
