استُشهد دفاعًا عن وحدة الأراضي السوريّة، واجه الصهيونية وحذّر من خطر توسّعها الداهم، كتاب توثيقي يبحث في سيرة الزعيم “أنطون سعاده”، مؤسّس الحزب القوميّ السوري الاجتماعي، في “شهادة الصورة”، صوَرٌ محورها سعاده، بتاريخ حياته وعمله النضاليّ، صور منها النادر ومنها الذي يُنشر للمرة الأولى، جمع معلوماتها الباحث المؤرّخ بدر الحاج على مدار عمله لثلاثين عامًا في الصحافة، وكتبتها وقدّمت لها الصحافيّة والناشطة غدي فرنسيس، ومن على صفحتها في موقع الفيسبوك كتبت فرنسيس:” ثمرة عمل وجهد عامين متواصلين قطعتهما الحرب لشهرين، بدر الحاج شرفني بمشاركته بكتابة هذا الكتاب العظيم، تعلمت منه ومعه نوعًا جديدًا راقيًا من الانتماء بالعمل والمثابرة…من التاريخ والتصوير والتدوين والأرشفة.. ”
كتاب من الورق الثقيل مدعّم بالصورة والمعلومة، يقع في 392 صفحة، مقسمًا على ثلاثة عشر فصلًا، وعناوين فرعيّة، شملت مراحل حياة الزعيم، من الطفولة والهجرة حتى العودة إلى الوطن، ومن التأسيس حتى الاغتيال، الطبعة العربية الأولى 2025، عن دارfolios limited للنشر أوكسفورد في إنكلترا، إضافة إلى طبعة إنكليزية صدرت بعد وقت قريب.
سعاده في سطور، من الأب إلى الإبن

في الكتاب كلّ ما يمكن أن يحتاجه القارئ لمعرفة تاريخ سعاده، من الشخصيّ حتى العام من تاريخ نضاله الفكريّ والسياسي، حكاية قائد لم يبتغِ المجد لشخصه، ولد في بلدة الشوير جبل لبنان في الأول من آذار 1904، عائلة والدته كانت من التجّار المهاجرين إلى الولايات المتحدة، والده الدكتور خليل سعاده، الطبيب في المستشفى الإنكليزي في صفد وطبريا، كان من أبرز المفكرين السوريين في أواخر القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ20، ينشر مقالاته في الصحف والمجلات، وله مؤلفات في الرواية والسياسة وفي الطبّ، وكان ضدّ الاحتلال، أسّس جريدة “الجريدة” في البرازيل، وكان يرسلها سرًا إلى فلسطين وبيروت.
متدرّبًا على يدّ أبيه، متشرّبًا فكره المشبّع بالفكر التحرّري وفكرة وحدة سوريا، (يذكر الكتاب بأن لوالد سعاده رسائل مع الحركة الوطنيّة السورية)، كانت أولى مقالات أنطون سعاده عن الحركة الصهيونيّة، وكان ضد سلطات الانتداب الفرنسيّة التي حكمت لبنان في تلك المرحلة.
عايش الكثير من الظروف المأساوية من وفاة والدته، حتى معايشته الحرب العالمية الأولى في الشوير، “ورأى منذ تبلور فكره أنّ فقدان السيادة القوميّة هي السبب لما حلّ بالأمّة وما يحل وهو كان فاتحة دراسته للمسألة القومية ومسألة الجماعات عموما والحقوق الاجتماعية”.
يتوغّل الكتاب في الفصل الثالث (النهضة والاعتقالات 1930- 1938) في تاريخ تأسيس الحزب في لبنان بعد العودة من المهجر، ومطامح سعاده في “بعث نهضة قوميّة ترتكز على وحدة الشعب الفعليّة..”. زهده في الحياة، عمله في الكتابة والتعليم لكسب قوت عيشه.
إيمانه بوحدة سوريا، تمكّنه في أواخر العام 1932 من تأسيس أوّل نواة سريّة للعمل العقائدي السياسي، كتاباته المتضمّنة أبرز معالم أفكاره السياسيّة والأدبيّة، ومنها كتاب ” نشوء الأمم” الذي أصدره في السجن، وطُبع في العام 1938، وكتاب “شرح مبادئ الحزب السوريّ القوميّ” الذي نشره في طبعة ثانية أثناء هجرته في البرازيل إضافه إلى تأسيس العديد من الجرائد منها: “سورية الجديدة”، “النهضة”، “الزوبعة”.
عقيدته القائمة (سورية للسوريين والسوريون أمّة تامة)، “فالحزب لم ينشأ خصيصاً لأن الانتداب موجود، بل لجعل الأمة السورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها”.
ومن عرزاله المطل في ضهور الشوير كانت تنظّم التجمّعات الحزبية، “واستمر العرزال مزرا لمحبيه حتى بعد استشهاد القائد، حتى جاء بطش السطلة وأحرقته بشجره ومقتنياته العام 1962.”
كانت التُهم والافتراءات تُكال بحقّه وبحقّ أنصاره من كلّ حدب وصوب، حتى أنّ سفارات دول بأكملها وضعته على سلّم أولوياتها، وبتحريض من حكومات الاحتلال وأبناء جلدته الذين رأوا في رؤيته الإصلاحيّة تهديدًا لمصالحهم. حتى الأميركيين كانوا يراقبونه، ووظفوا مخبرين لهذه الغاية، ومنهم أكاديميين كانوا يقومون بترجمة مقالاته ومنشوراته للإنكليزية، وترجمة مفصّلة عن نشاطات حزبه، ومنهم أكاديمي جامعي اسمه نبيه فارس عمل على شيطنة سعادة، ووصفه العام 1942 “فاشي ديني عرقي”. اتهامات باطلة استسهلت قذف سعاده بما ليس فيه وشكلت رواية مغرضة بحق الزعيم.

يثابر الكتاب على ذكر أهم محطّات حياته، ويُفصّل في ذكر الأحداث التي سطّرت تاريخه النضاليّ، العودة إلى الوطن في 2 آذار 1947، خطابه المسمى بـ “خطاب العودة” خطاب التأكيد على المبادئ والرؤيا الإصلاحية، ومنذ اليوم الأول لعودته يصف الحاج عودته” بداية الجلجلة المديدة”.
يذكر الكتاب أنه بتاريخ الثاني من تشرين الثاني 1947 قرر القوميون تنظيم تظاهرة في بيروت تنديدًا بوعد بلفور المشؤوم الذي أعطى حق استيلاء اليهود على فلسطين قبل حدوث النكبة. وحين علمت وزارة الداخلية لدى السلطة اللبنانية بأمر التظاهرة، شرعت في إلغاء جميع التظاهرات.
يقول الحاج : “وما بين آذار وتموز، كان سعاده قد بدأ يجابه الصهاينة بشكل واضح، وبدأت خطبه وجريدة حزبه «الجيل الجديد» تدعو للمقاومة المسلّحة، وأعلن جهارًا في خطاب برج البراجنة في نهاية شهر أيار أنه يريد القتال للتحرير. وما إن خرج هذا النبض وبدأ الفعل يقترن بالكلام، اتخذت السلطة اللبنانية قرار التخلص منه بوضوح بحسب أوراق فريد صباغ فكانت حادثة الجميزة المفتعلة، وتبعها اعتقال القوميين وملاحقتهم، وإتلاف وثائق كثيرة، وإغلاق مكاتب الحزب وجريدته وشيطنته”.
تمكنت السلطات بموجبها من اعتقاله في ليلة السادس من تموز العام 1949، وإعدامه فجر الثامن من تموز، وذلك بعد محاكمة صورية خلال ساعات، ولكنه كما قال لقاتليه: ” أبناء عقيدتي سينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقامࣧا لموتي”.
ما أصدق ما قاله سعادة عن الخطر الصهيوني، وتمدّد الكيان المصطنع: “إنّ محق الدولة الجديدة المصطنعة هو عملية نعرف جيدًا مداها. إنها عملية صراع طويل شاق عنيف، يتطلب كل ذرّة من ذرّات قوانا لأنّ وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمد الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها.”
من كلماته الأخيرة على مذبح الإعدام :” … يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد».
درسٌ للتاريخ
وأنت تقرأ في سيرة سعاده يُداخلك شعور أنك تقرأ تاريخ اليوم، وتشعر بالخيبة من تاريخ يُكرّر نفسه بأخطائه وجحوده اتجاه الشرفاء البررة، وكيف يمكن أن يُكرّر الحكّام أنفسهم في كل زمان، يبيعون فينا ويشترون، ويُتاجرون بقضايانا، كيف يمكن أن يُخلّد أسماء على أنهم أبطال، ويرذل أسماء على أنّهم خونة! وإذ بسيرة حياة تنسف كلّ الصورة الذهنيّة الزائفة التي عاشت في خيالنا من على مقاعد الدراسة، ويتكشّف الجزء الأسود من التاريخ الذي يكتبه المنتصرين دومًا وهم يدفنون أصحاب الحقّ بين طيّات صفحاته، وينسون من أن “لا صوت يعلو فوق صوت الحقيقة” وأنّه مهما كثّر الزيف هناك من يجدّ ويبحث ويرفع الصوت عاليًا كمثل المؤرّخ “بدر الحاج”.
في رسالة الشكر الواردة في الكتاب، إشارة إلى أنّ عمليّة جمع الصور كانت عملًا جماعيًّا، بمبادرة مواطنين وقوميين، وثناء على معاونة كريميتَي سعاده صفية وأليسار في تقديم المعلومات إضافة للصور،
وتنويه بدور مروان أبو جوده وتدقيقه وتصحيحه للبعض المغالطات التي لم تسلم منها الكتب السابقة الصدور عن حياة سعاده، وتأكيد على أنّ الكتاب يتوخّى الدقّة في تقديم المعلومات، ولا يُغفل شُكر الأشخاص الذين كانت لهم مساهماتهم.
منذ المقدّمة يصرّح الكتاب عن غايته، وهي كسر الصورة الظالِمة القديمة وغير الحقيقيّة التي قُدّم وفقها سعاده، وإعادة التعريف “بحقيقة رجل استثنائي بكلّ المعايير الإنسانيّة خرج من هذا الشرق..” هذا الرجل ضحيّة التأليه الذي أغدقه عليه بعض محازبيه، ويبدو أنّ موقف الدفاع هذا ليس في وجه أعدائه بل أيضًا، في وجه المقربين الذين قدّموه في صورة مغايرة: “وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة..”
الكتاب في صورة
والكتاب كما يقرّ القيّمين عليه” ليس في السيرة من جديد” وأنّ “الصورة والوثيقة هما المادة الجديدة المضافة” بجهود المؤرّخ والباحث بدر الحاج الذي بذل من وقته وماله بحثًا عن الصور، ويعيب تقصير قيادات الحزب السوري القومي الاجتماعي في تقديم جهد كافٍ لحفظ ما يجب حفظه وتوثيقه، من أوراق سعاده، ” فالكثير من الوثائق والأوراق تعرضت لهجمات من السلطات اللبنانيّة والشاميّة، في زمن انشغلت فيه السلطة بأشكالها بعزل سعاده في حياته. تقول فرنسيس في التقديم: “هذا الكتاب هو تعريف بمفكر سياسي وقائد قومي من الشرق، حذّر من الحركة الصهيونيّة وعمل ضدها قبل احتلال فلسطين. “وهو أوّل القائلين: ” سنقاتلكم لأنها أرضنا”.
هو سيرة مصوّرة وتوثيق لما توافر من صور فوتوغرافيّة التُقطت لأنطون سعادة، مصادر هذه الصور متنوعة، بعضها التقطها مصوّرون محترفون في الوطن أو في المهجر، أما معظمها فلمصورين هواة من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، وصور التقطها سعاد بنفسه….
يشير الكتاب إلى تلف العديد من المصادر والوثائق والمخطوطات والصور والمحاضرات والخطب والمقالات. ومنذ إعدام سعادة والمشهد يتكرر اقتحامات لبيوت القوميين مصادرات لصور ووثائق وكتب.. وفي إشارة إلى أنّ معظم الوثائق المصوّرة وصلت من الرفقاء في المهجر الأميركي الجنوبي.
فما الذي كان يُخيف السلطات بأشكالها محتلّة للبلد (الانتداب الفرنسيّ) وقائمة (حكومة الاستقلال)، من فكر سعاده،حتى كان كلّ هذا الإصرار على توقيفه مرارًا وسجنه، وملاحقته، والتضييق عليه، وصولا إلى إطلاق الشائعات حوله، والتآمر عليه لتنفيذ حكم الإعدام الظالم بحقّه!
الكتاب مقسم إلى عدة فصول بحيث يشمل مراحل حياة سعادة موثّقة بالصور والمعلومات؛ من الطفولة حتى الهجرة إلى البرازيل، العودة إلى الوطن وتأسيس الحزب، السفرإلى أوروبا.. ثم الأرجنتين، العودة إلى الوطن…، مذكرة توقيف تم إلغاؤها، نشاطات بين عامي 1947- 1948، نشاطات السنة الأخيرة من حياته 1949.. الإعدام والفصل الأخير مجموعة من الصور الشخصية لسعادة التقطت في فترات مختلفة من حياته..
يفيد بدر الحاج الكتاب ثمرة جهد استمر عدة سنوات شارك فيه ” العديد من القوميين الذين زوّدونا بالكثير من الصور، وهو مقاربة جديدة للموضوع” ويشرح “كيف تكالبت على الرجل قوى المستعمر المحتل ورجال السياسة الطائفيون المتحكّمون في لبنان. وكيف حاولوا منعه من العودة إلى الوطن وحولوا برجوعه حياته إلى جحيم المطاردة والتعطيل والمنع والتهديد والاتهامات الباطلة”.
كتاب يستحق القراءة، سواء كنت مع أو ضدّ أفكار أنطون سعاده، لا بدّ أن تُعاين التاريخ برؤية مختلفة، رؤية موثّقة ومتّسعة، ولو كانت منحازة، بحيث لا تقع في ضيق الفكرة.
