الكاتب والكتاب… متغيرات تقتضي الدرس والتأمل 

الكتاب لغةً يعني الجمع والضم، وواحده يدلُّ على جمع الشيء الى شيء؛ كما يذهب ابن فارس في معجم مقاييس اللغة. وأوردت المعاجم أن لفظ كتاب مصدرٌ من كَتَبَه كَتْباً وكَتْبَةً وكتابةً بمعنى الجمع والضمّ. وجاء ان كَتَبَهُ بمعنى خَطَّهُ وهو جمع الحروف إلى بعضها. 

والكتاب في دلالته اللغوية اسم جنسٍ يُطْلَق على كتابةٍ ومكتوب. وقد اقترن هذا اللفظ بالقرآن الكريم الذي أطلق عليه لفظ (الكتاب) وهناك الكثير من الآيات يؤيد هذا المعنى مثل قوله تعالى (الم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)؛ وكذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، وغيرها من الآيات. ولكننا يجب أن ننوه بأن لفظة الكتاب في القرآن إنما تدل على جميع الكتب السماوية التي أنزلها الله تبارك وتعالى؛ فالقرآن هو الكتاب والتوراة هو الكتاب والإنجيل هو الكتاب بدلالة الآيات الواردة منها قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا)؛ وربما يكون إطلاق لفظ الكتاب من باب الإحكام في الجمع والتراتبية في الضبط وضم كل ذلك بما يشتمل عليه مضمون الكتاب.فهو مجموع بعناية ومستوفٍ لموضوعاته كلها، يقول تعالى (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وقوله أيضا (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). وقد أورد ابن كثير أنَّ الْكِتَاب اسمُ جِنسٍ يَشمَلُ الكُتُبَ المُنَزَّلة من السَّماءِ على الأنبياءِ، حتى خُتِمت بأشرَفِها، وهو القُرْآنُ المُهيمِنُ على ما قَبْلَه من الكُتُبِ، الذي انتهى إليه كُلُّ خيرٍ، واشتمل على كُلِّ سعادةٍ في الدُّنيا والآخرةِ، ونسخ اللهُ به كُلَّ ما سواه من الكُتُبِ قَبْلَه. 

ويتفرع من لفظ الكتاب لفظ الكتابة وهو لفظ مأخوذ من الضم والجمع، ولذا سمّيت الخيل كتيبة، ويتحصل فيها جمع الحروف بعضها إلى بعض ولذا سميت كتابة. 

أما مفهوم الكتاب اصطلاحا فقد جاء في مقدمة ابن خلدون ان الكتابة والكتاب هي (رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس). وربما يكون هذا التعريف الاصطلاحي هو أفضل التعريفات. ورغم ان هناك تعريفات كثيرة مبثوثة في كتب القدماء والمحدثين لكننا لا نستطيع أن نتخطى ما قاله الجاحظ في الكتاب لأنه أوفاه حقه وقدّره قيمته؛ فهو لم يكتف بتعريف واحد له؛ فمرة عرّفه بأنه (خير جليس وصديق ورفيق)، ومرة قال عنه انه (وعاء للعلم)، وقال أيضا انه (مُلهم للعقل واللسان). بل انه ذهب الى ان الكتاب (لا يعرف الكلل أو الملل) وانه (معلّم أمين ومُعين)، ويختم بقوله ان الكتاب (مصدر للغنى عن الغير). 

ولما كان الكتاب وفق هذه المفاهيم جميعا فقد جرى الاهتمام به وتقديره والحفاظ عليه. ومن جملة الحفاظ على الكتاب ومحتوياته أنهم فكروا في الوسائل المادية التي تحافظ على الكتاب وتبقيه أطول مدة زمنية لغرض الاستفادة منه؛ فعمدوا الى استعمال الألواح في الكتابة والرقم الطينية وحتى الصخور والأحجار انتهاء بالبرديات ومن ثم اكتشاف الورق الذي غير وجه مفهوم الكتاب شكلا ومضمونا. 

ويذكر العلماء والمختصون ان أقراص الطين استُخدمت في بلاد ما بين النهرين في الألفية الثالثة قبل الميلاد. حيث عمدوا لاستعمال ما يسمى ( كالاموس)؛ وهي أداة  مثلثة الشكل تتم فيها الكتابة على الطين الرطب بالاضافة الى اقراص للتجفيف. وقد عُثر على اثنين وعشرينَ ألفَ قرص للتجفيف في نينوى وحدها يعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد؛ وهي تمثل مكتبة ملوك آشور. فيما يذهب المحققون الى ان هذا الأمر يعني وجود نظم تقنية متطورة نسبة لذلك العصر تهتم بالأرشفة وحفظ الكتب وتصنيفها. والجدير بالذكر ان اقراص التجفيف ظلت مستعملة حتى القرن التاسع عشر الميلادي في أجزاء من العالم كألمانيا والفلبين وشيلي وبعض المدن الصحراوية. 

كما أن مصر القديمة عرفت أيضا استخدام الكتابة ووسائلها وأهمها الكتابة على البردي فيما عرف بمصطلح (البرديات) وكانت أكثرها خاصة بالديانة وأحكامها وبالمعتقدات. 

وقد تطورت الكتابة ووسائلها عبر العصور رغم ان الادلة التي تفصّل لنا ذلك قليلة، الا ان الواقع يؤيد هذا الأمر. فقد عرفت الكتابة قيمة كبيرة في زمن اليونانيين في حدود القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد. وقد نقل المؤرخون انتشار الكتب ومحلات بيعها مع الاهتمام بفهرستها وظهور ما اصطلح عليه لاحقا بـ(النقد الأدبي) الذي تطور مع نشوء المكتبات الضخمة كمكتبة الاسكندرية التي أنشأها بطليموس وتحتوي على أكثر من تسعمئةِ ألفِ مجلد، ومكتبة بيرغاموس التي تضم أكثر من مئتي ألفِ مجلد، ومكتبة أثينا ومكتبة رودس وأنطاكية وغيرها. لكن يجب أن نبين أهمية مكتبة (الحكمة) أو (مكتبة بيت الحكمة)؛ ذلك الصرح الكبير بإطلالته على نهر دجلة بطرازه المعماري الشامخ وسقوفه المزدانة بالنقوش وبآيات القرآن الكريم؛ حيث كانت شاهدا على المخزون الثقافي والمعرفي الذي تنوع بين الطب والفلك والرياضيات والمنطق والطبيعة وجميع فروع العلوم الأخرى. 

وفي عصرنا الحاضر وتحديدا في القرون الثلاثة الأخيرة مع التقدم العلمي المتسارع والتطور التقني ظهرت المطابع وظهر معها الكثير من الوسائل المهمة التي ساهمت في إظهار قيمة الكتاب الذي دخل كل بيت وأصبح لا يُستغنى عنه. 

وبالاضافة الى الاهتمام بالكتب جرى الاهتمام بالكتّاب والمؤلفين وتكريمهم وتخليد سيرهم ونقل القصص والمآثر والنوادر عنهم؛ كونهم الأسباب الرئيسة لوجود الكتب. ومن أمثلة الاهتمام برجال العلم والترجمة على سبيل التبيين لا الحصر؛ قال بعض المؤرخين أن المأمون كان يدفع ثمن الكتاب المترجم ذهبًا من شدة اهتمامه بالعلم والكتب وبالمؤلفين والمترجمين. وكان يؤثر العلماء على الوزراء. وقد قيل إنه كان لثمامة بن الأشرس وهو من أبرز رجالات العلم والأدب مكانة عند المأمون فوق مكانة الوزراء.  

وقد تجلت قضية الاهتمام بالكتب في الشعر والنثر وصولا الى العصر الراهن؛ ومن الشعراء الذين جسدوا هذا الاهتمام أبو الطيب المتنبي الذي يقول عن الكتاب: 

أعزُّ مكانٍ في الدنى سرجُ سابحٍ 

وخير جليس في الزمان كتابُ 

وقبله قال شاعر المعلقات عنترة بن شداد: 

 الخَطّ يَبْقى زَمَانًا بَعْدَ صاحِبِهِ  

وصاحِبُ الخَطّ تَحْتَ الأرْضِ مَدْفُونُ 

بينما ذهب أحمد شوقي في عصرنا الحديث الى القول  

أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا  

لَم أَجِد لي وافِياً إِلّا الكِتابا 

وهو لا يبتعد كثيرا ن اعتقاد الكاتب العربي الكبير عباس محمود العقاد الذي قال: 

(لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة ولكنى أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني). 

ومن أجمل ما قيل في الكتاب أبيات أبي البشر: 

وصلَ الكتابُ وكان آنسَ واصلٍ 

عندي وأحسن قادمٍ ألقاهُ 

لا شيء أنفَسُ منه مُهدَى جامعاً 

شَمِلَ المنى إلاّ الذي أهداهُ 

فَفَضَضْتُهُ وجعلتُ ألثمُ كُلَّ ما 

كتبتهُ أو مرَّت عليه يداهُ 

وفهمت مودَعَهُ فرحت بغبطة 

جذلان مبتهجاً بما أدّاه 

وعجبتُ من لفظٍ تناسق فيه ما 

أعلاه ما أجلاه ما أحلاه 

الى أن يقول: 

دُرُّ تَرَفَّعَ قَدرُهُ عن قيمةٍ 

منظومةٍ صُغراهُ مع كُبراه 

وقد أجاد الشاعر الفلسطيني أحمد عبد الفتاح في مدح الكتاب بقصيدة له يقول فيها: 

يا خير من حفظ العلوم ببطنه  

وحوى لأسرار المعارف كلِّها 

فالشعر والآداب والقصص التي  

تُروى لنا أنت الحفيظُ لأصلها 

والطب للآلام فيك مسجَّل  

وموضّح نوع الدواء ومصلُها 

والعرف والأرقام والقول الذي  

قد صار أمثلة يقاس بعدلها 

وبك التواريخ التي تُروى لنا  

ما كان مجهولاً لنا من قبلها 

وإذا تساءلنا ونحن نعيش واقعنا المزري الذي تراجع فيه الاهتمام بالجوهر وجرى التركيز على الشكل والمظهر فأصبحت الكتابة والكتب مجردة من فاعليتها. وأصبحنا نقتفي أثر القديم متعافين عن الحديث وكأن الأخير لا يزيدنا في شيء. فكثير من المؤلفين أصبحت مؤلفاتهم تجارية الغرض؛ ولعل منهم من يطلب الشهرة بغير بضاعة وكثير منهم يصارع هواه ليحقق ذاته المجروحة من دون علم أو خبرة. وإذا بنا في سوق ضخمة تتنوع بين الكتب الورقية والكتب الرقمية بأشكال ووسائل اعلامية واعلانية مكثفة نكاد نصاب بالتوهان والضياع. ولعل من أراد ان يسجل تعليقا على هذا الأمر فانه سيقول ما أكثر الكتب وما أقل العلم. الأسف والحسرة والألم يعتصرنا ونحن نطّلع على كثير من الكتب يجهل أصحابها قواعد اللغة العربية فينصبون ما هومرفوع ويرفعون ما هو منصوب ويشكلون عبارات بما هو غير مفهوم ويطرحون أفكارهم بما هو غير مستساغ وأغلبه منقول ومكرر ومأخوذ عن آخرين؛ بل أن أكثرهم من غير ذوي الاختصاص فيخوضون في أمور لا يجيدونها بل لا يعرفون حتى مبادئها البسيطة. فأين هي قيمة الكتاب الذي تغنى به الشعراء والكتاب والعلماء؟ هذا الكنز العظيم الذي كان من المفترض مع تطور العلم والتكنولوجيا أن يتطور أكثر ويأخذ أشكالا أشد عمقا وتركيزا!  

أكثر من ذلك أن منهم من يملك مكتبة وافرة العلم والموضوعات لكنه لا يقرأ وإذا قرأ لا يفهم. يقول أحدهم في ذلك: 

اذا لم تكن حافظا واعيا  

فجمعك للكتب لاينفعُ 
تحضر بالجهلِ في مجلسٍ  

وعلمُك في البيت مستودَعُ 

من أجل ذلك يذهب الشاعر محمود الأسمر الى ان الكتب على عدة أنواع منها الرديء ومنها الجيد فيقول: 

من الكتب وردٌ له نـفحةٌ  

ومنها الهشيم ومنها الحَطَب 
فتلك لها ما لزهرِ الرُبى  

وتلك لها النار ذاتُ اللهب 
ولذا نجد السري الكندي يدعو بقوة الى الكتابة والتأليف فيقول: 
كن للعلوم مصنفا أو جامعا  

يبقى لك الذكر الجميل مخلَّدا 
كم من أديبٍ ذكرُهُ بين الوَرى  

غضٌّ وقد أودى به صرفُ الردى 
وأرى الاديبَ يهابه أعداؤه  

ويعدّهُ الساداتُ فيهم سيدا 
ينسى أواخرُنا الاوائلَ كــلَّهم  

الّا أخا العلمِ الذي جازَ المدى 
ولعل من النادر والقليل جدا من ركز من الشعراء على تصوير مدى ارتباط المؤلفين أنفسهم بالتأليف والكتابة وكيف يجدون هذا الأمر. وعليه نجد الشافعي نفسه هو الذي ينبري ليرسم لنا هذه الصورة التي تجسد شعور المؤلف وعلاقته بكتبه وبالتأليف بوجه خاص فيقول: 
سهري لتنقيح الــعلوم ألذَّ لي  

من وصل غانيةٍ وطيبِ عناقِ 
وصريرُ اقلامي على صفحاتها  

أحلى من الدَوكاء والعشّاقِ 
وتمايلي طربا لحل عـويصةٍ  

في الدرس أشهى من مدامة ساقِ 
ومن المحزن أن نقرأ ان كثيرا من الشعراء والمؤلفين والعلماء بدأوا يتندرون على سوء ما وصل له الكتاب وما وصل له بعض المؤلفين؛ فقد تندر أحدهم على عبارة (حقوق الطبع محفوظة) التي ترفق في مقدمة طبعة الكتاب، ليبين أنها تشير في الأساس لقضية الانتحال والسرقة التي شاعت فيقول: 

كتاب قد حوى دُرراً 

بعين الحسن ملحوظة 
لهذا قلت تنبيهاً  

حقوق الطبع محفوظة 
فيما يلمح آخر بشيء من التصريح فيقول: 
لصوص النشر قد كَثُروا  

ودُور السطو ملحوظة 
لهذا قلت تحذيراً 

حقوق الطبع محفوظة 

ورغم ان (حقوق الطبع محفوظة) نرى كماً هائلا من السرقات والانتحالات للكتب والأقوال والأشعار والكلمات بل وحتى الجهود العلمية والأكاديمية. وهذا ان دل على شيء فهو يدل على ان أزمة العقل العلمي أضحت مستعصية عن الحل وقد انتشرت في جسد الثقافة العامة وأصابته إصابة بالغة قد لا تقوم له قائمة أبدا إن لم يكن هناك عمل وجهد للعودة بالكتاب والمؤلف لسابق عهدها.