أحلام لمسفر تسبر أغوار الأزرق وتكرم والدتها 

في معرضها “زينة، ما وراء الزرقة”

عرف المعرض الفني الأخير “زينة، ما وراء الزرقة” للفنانة التشكيلية والنحاتة المغربية أحلام لمسفر إقبالا مهما في صالتي عرض فيلا الفنون بالدارالبيضاء، وفيلا الفنون بالعاصمة الرباط التي اختتم بها في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي. وهو معرض يجمع بين التشكيل والنحت تعطي فيه الفنانة للأزرق مكانة مهمة وتسعى لسبر أغواره والارتقاء بنوره إلى المدارج العليا بحثا عن السلام والسكينة والخلاص. 

في هذا المعرض الذي يحمل اسم والدة الفنانة أحلام لمسفر “زينة” التي رحلت عن دنيانا في بداية هذا العام، مسعى تكريمي لهذه الأم التي ترك رحيلها فراغا كبيرا في حياة هذه الفنانة التشكيلية، والتفاتة لهذه الأم المعطاءة، التي ألهمتها وأعطتها أشياء كثيرة وبلا حدود، كما تقول الفنانة نفسها في تصريح لمجلة “الحصاد”: “أعطتني حب الآخر، علمتني كيف أنظر إلى الجمال كيف أتعامل مع الحياة”. ولهذا فإن “زينة” في هذا المعرض هي رمز للاشتياق والحب وفداحة الفقد، وارتباطها بالزرقة ما هو إلا دليل على التأمل في هذا الكون والبحث عن السكينة والطمأنينة.  

الأزرق والبحث عن السلام 

لم يكن اختيار اللون الأزرق النيلي اعتباطيا في هذا المعرض، بل هو نابع من اشتغال ذكي ومن حالة نفسية للفنانة أحلام لمسفر، أحد أهم الوجوه الفنية التشكيلية بالمغرب التي تشبه أعمالها إلى حد كبير، امرأة طبيعية لا تهتم بالكليشيهات ولا التصورات النمطية، ولا تغريها الأضواء، تركز على الأساسي في الفن والحياة، معطاءة إلى أبعد الحدود، وفي بحث دائم عن الأفضل والبناء الأصيل للوحة، ولهذا فاختيارها للبحث عما وراء الزرقة في هذا المعرض، هو بحث عن السلام والهدوء والسكينة، وتعبير عن الحزن والفراغ الذي تعانيه بسبب فقد والدتها. كما أن اختيارها لهذا اللون الموثوق به فنيا، والذي يعكس احترافية الفنانين ويمنحهم إمكانيات واسعة على التعبير الفني عن مشاعر وأحاسيس متنوعة، دفعها إلى الارتقاء بهذا اللون مثل المتصوفة بحثا عن الزرقة المشتهاة والانعتاق مما يكبل سفرها الروحاني ورحلة بحثها عن العشق الإلهي.   

وعن اختيارها لهذا اللون الأزرق الذي يحتل مساحة مهمة في معرضها التجريدي الصرف، الذي يشكل نقطة تحول في مسارها الفني المتميز بالغوص في الجوهر، تقول أحلام لمسفر: “صادفت هذا اللون عبر البحث المستمر في أعمالي الفنية، فقد رافقني اللون الأزرق منذ سنوات وبأشكل متدرجة إلى أن أصبح يحتل المساحة بكاملها في اللوحة. إنه لون مليء بالرموز والمعاني، فهو لون يجعلك تنفذ إلى عمقه وتغوص فيه وفي اللوحة ككل، لون يدفعك إلى التأمل وإلى إعمال الخيال، وهو صالح للأسلوب التجريدي الذي يمنح للمتلقي هذه القدرة على التحليق بخياله إلى ما وراء اللون وما وراء اللوحة”. 

فإذا كان العديد من الفنانين التشكيليين عبر العالم مثل بيكاسو وفان غوخ قد اعتمدوا اللون الأزرق في أعمالهم الفنية للتعبير عن الحزن والفقد والرغبة في الانتحار، فإن اعتماد الفنانة أحلام لمسفر على الأزرق في لوحاتها، ولو أن وراءه خلفية محزنة بسبب فقد الوالدة، قد جاء لغايات متعددة منحته تلك الهالة والقداسة التي يتمتع بها، وعلى رأسها التأمل في هذا الكون المغلف بالزرقة، وفي هذا الوجود الإنساني المليء بالقتامة والخيبات والحروب، ومناجاة السماء من أجل الخلاص، وهو ما يظهر على شكل شعاع أبيض متدرج في بعض لوحاتها، يشي بالصفاء الداخلي الذي بلغته الفنانة، والذي من المؤكد سيتمظهر في أشكال مختلفة في لوحاتها المقبلة. 

من التشخيص إلى التجريد 

تجمع الفنانة أحلام لمسفر بين التشكيل والنحت والتركيب الفني والالتزام الكبير بالقضايا الفنية والإنسانية والبيئية، وتؤمن بالدور الكبير للفن في التغيير، وفي إعادة جزء من الإنسانية والحياة لعالم اليوم. تبحث عبر فرشاتها وألوانها عن أسرار الوجود والصفاء، لهذا تجدها تنقي لوحاتها من كل الشوائب لترتقي بها إلى مدارج الروح، مستعينة بدربة وحنكة تراكمت لديها بعد تجربة فنية طويلة، انطلقت منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن، حيث تدرجت في تجربتها الفنية من التشخيص إلى التشخيص الانطباعي، غير أنها لم تقدم الطبيعة أبدا بشكل ميت، بل جعلتها تعيش وتتنفس عبر لوحاتها، لتنتقل إلى التجريد ثم التجريد اللامرئي، الذي تبحث من خلاله عن النفس الإلهي، وتسعى إلى استخراج ذلك الضوء الذي يلامس روح الإنسان ويحس معه بارتعاشة التجلي الروحاني. 

ومن يعرف الفنانة أحلام لمسفر، يعرف أن تجربتها الفنية لصيقة بحياتها وبالمتغيرات التي عرفتها، كما أن علاقتها بالألوان مختلفة جدا، فالألوان هي التي تفرض نفسها عليها، وفي كل مرحلة من حياتها الفنية يظهر لون معين، فاشتغالها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي على الطبيعة والبيئة بشكل عام، منحها القدرة على الاشتغال باللون الأخضر، الذي ميز مرحلتها الأولى، لتنتقل تدريجيا إلى اللون الترابي والأصفر، ثم البني، لكنها في عام 1997 وبعد رحلتها إلى البوسنة ستتغير رؤيتها بالكامل، وبسبب المأساة التي عاشتها تلك المنطقة، ظهر الأحمر والأسود في لوحاتها بشكل كبير، فاشتغلت على مواضيع تتعلق بثقافة السلام، وشاركت في تظاهرات فنية عبر العالم تندد بالحروب والعنف، وتسعى إلى إرساء السلم والسلام ولو عن طريق الفن، فكانت تلقي محاضرات في هذا الإطار عبر العالم، وتؤمن بتحقيق هذا المطمح النبيل والإنساني عن طريق الفن. 

وبعد تلك الفترة، بدأ اللون الأبيض يزحف ويبرز في لوحات الفنانة أحلام لمسفر، إلى جانب الأسود الذي لم يغب عن لوحاتها من ساعتها، وذلك بسبب مراحل عصيبة مرت بها في حياتها. ثم جاء اللون الأزرق بكل بهائه ليحتل مساحة مهمة في لوحاتها، قبل أن تلجأ إلى صباغة ومحو ما تشتغل عليه، بحثا عن الصفاء الروحي والكامن واللامرئي عبر أشكال عمودية على شكل ستائر، كما عبر عن ذلك الشاعر المغربي رشيد المومني، الذي وقف على البعد الروحي والصوفي والارتقاء والتجلي في أعمال هذه الفنانة المبدعة. 

ما وراء الأزرق 

وبعد معرضها المعنون بـ “الأزرق” والمنظم السنة الماضية برواق “دولاكروا” بمدينة طنجة، يأتي معرض هذه السنة “زينة، ما وراء الزرقة”، ليشكل امتدادا لسابقه، ولكنه في الوقت نفسه تذهب فيه الفنانة، كما تقول هي نفسها، إلى أبعد من اللون الأزرق الذي يمثل بحثا روحيا بالنسبة إليها، حيث تغوص في الأبعاد اللامرئية للأزرق، وتدعو إلى تجاوز المظاهر إلى حيث يكمن الجمال بشكل حميمي وداخلي وكوني، وهو ما عبر عنه الشاعر والكاتب المغربي محمد الأشعري في كتاب المعرض، بقوله: “اشتغلت الفنانة أحلام لمسفر دائما على اللون كجسد متحول ومترحل أيضا، وليس فقط كصبغة، ولابد لأن تصل في مرحلة ما من تجميدها وتذويبها للون الذي تحاور به العالم وتفككه به، وتعيد تركيبه بأطيافه المتشابكة، لابد أن تصل إلى التساؤل عما إذا لم يكن هذا اللون قد أصبح ستارة تحجب الرؤية، وها هي أحلام تزيح الستارة، ليراها الأزرق كما يرانا جميعا، كائنات لا ترى إلا إذا اخترقت جدار اللون”.  

منحوتات للتحرر 

وإلى جانب اللوحة التشكيلية تحتل المنحوتة مكانة مهمة في هذا المعرض، وهي منحوتة خاصة بالمرأة، تسلط فيها أحلام الضوء على المرأة التي تعاني وتسعى إلى التحرر من كل القيود، حتى القيود الذاتية والنفسية، وذلك من خلال تنصيبات يتجلى فيها دفاع المرأة عن حريتها وبحثها المستمر عن نفسها وعن التوق للحرية ومكان أفضل لها ولكل من يحيط بها. حيث يظهر من خلال تلك التنصيبات منحوتات باللونين الأبيض والأزرق لأجساد نساء في تمظهرات حياتية مختلفة: الأمومة، الخصوبة، وفي حركات مختلفة، أبدعت أحلام في صنعها لتعبر عن رغبة أولئك النساء في الانعتاق من الخنوع والتخلف، والانتفاض في وجه التمييز والعنف الممارس عليهن، وتحريك عجلة الزمن بشكل يحفظ إنسانيتهن وحقوقهن. 

تهتم الفنانة أحلام لمسفر ببنية اللوحة أكثر من الزخرف، وتوظف أدوات كثيرة في الرسم، ولكنها تفضل السكين لأنه يساعدها على خلق الحركات والتموجات والآثار أو الخدوش التي ترغب في أن تخلفها على اللوحة، وهذا طبعا من دون افتعال أي شيء، لأنها كما تقول: “أعمل على اللوحة كما لو أنني أشتغل على منحوتة، فأشكل المادة وبعدها يأتي اللون وتدرجاته وطبقات الألوان الأخرى، التي أعمل عليها بعد ذلك، وأصفي اللوحة من كل الشوائب والزوائد، وأصفي حتى اللون الأبيض بحثا عن شعاع الضوء فيها، لأن اللوحة بالنسبة إلي يجب أن تكون غنية ببساطتها ولا داعي لشحنها بأشياء كثيرة حتى نعطي لها معنى”.     

تختلف أحجام لوحات الفنانة أحلام لمسفر باختلاف فضاءات العرض والمواضيع المتناولة، ولهذا فلوحاتها تختلف من معرض إلى آخر، لكن ما يوحدها هو ذلك الخيط الناظم الذي تشتغل عليه أحلام ويميز أعمالها من معرض إلى آخر، وهي أعمال مجردة من أي اسم أو عنوان قد يقيد قراءة المشاهد لها، فهي تشتغل على لوحاتها بكل بعمق وصدق، وتفرغ كل طاقتها وما يعتمل بداخلها في اللوحة، فاسحة المجال أمام المتلقي لاكتشاف اللوحة التجريدية والغوص في عوالمها من دون أن تفرض عليه أي شيء. 

دار الفن المعاصر 

وعلى الرغم من التزاماتها المهنية في مجال التدريس والتفتيش في سلك التعليم، فهي لم تتخل عن حلمها الكبير في خلق فضاء فني يجمع فنانين من مختلف بقاع العالم للعمل سويا، حيث تمكنت في السنوات الأخيرة من خلق إقامة فنية تحمل اسم “دار الفن المعاصر”، على بعد أمتار من بحر المحيط الأطلسي بشاطئ “البريش”، الواقع بين مدينتي أصيلة وطنجة شمال المغرب، وهي إقامة فنية بيضاء مشرعة على البحر والضوء، وذات تصميم معماري معاصر وصافي من تصميم زوج الفنانة أحلام المهندس المعماري.  

ومنذ إحداثها في عام 2012، تحتضن هذه الإقامة الفنية مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية أبرزها تظاهرة “السامبوزيوم الدولي للفن المعاصر” التي بلغت دورتها العاشرة هذا العام، وهي تظاهرة تتوج أعمال الفنانين المقيمين في دار الفن المعاصر والمشتغلين على تيمة معينة، وتتكلل بمعرض جماعي يتواصل على مدى ثلاثة أشهر. وقد شارك في هذه التظاهرة مجموعة من الفنانين العرب والأجانب والمغاربة، وحظيت بالاهتمام الكبير في المغرب والخارج. 

تنتمي أحلام لمسفر إلى الجيل الثالث من الفنانين التشكيليين المغاربة، ولدت في مدينة الجديدة الشاطئية عام 1950، وكان والدها الفنان التشكيلي لحبيب لمسفر أول معلم فتح أعينها على عالم الألوان والريشة. درست الفن في باريس، وهي تعمل كأستاذة وباحثة في وزارة التعليم المغربية، وعضوة في لجنة الشرف لمؤسسة الفنون الفرانكفونية منذ 1994. 

حصلت خلال مسارها الفني على العديد من الجوائز والميداليات محليا وعالميا، من بينها الوسام الرفيع للأكاديمية الفرنسية للعلوم والآداب عام 2008، والميدالية الفضية في الصالون الدولي “ملوك الفن” عام 1995، وجائزة الاستحقاق التي منحت لها في “مولان دوركون” عام 1996، كما شاركت في العديد من المعارض والمؤتمرات والندوات الوطنية والدولية. كما تحظى أعمالها بالتقدير في العديد من المجموعات الخاصة والعامة، وفي معاهد وفعاليات الفن المعاصر داخل المغرب وخارجه.