مرهونة بوسطاء محايدين ومخلصين
“من يسيطر على السودان يتمتع بنفوذ في المنطقة الأوسع، في القرن الأفريقي، وكذلك في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى”. تصريح للدبلوماسي الأمريكي المتقاعد تشارلز راي، رئيس برنامج أفريقيا في معهد أبحاث السياسة الخارجية، يفسر لنا مبررات الصراع المحموم بين القوى السياسية الداخلية المختلفة والمتقاتلة للسيطرة وبسط النفوذ على الأوضاع في السودان، كما يكشف عن الأسباب الكامنة وراء مواقف بعض الأطراف الخارجية التي وجهت بعض التقارير الأممية التهم لها بلعب دور مؤثر وموجه للأحداث بشكل أدى إلى العبث بأمن السودان، و تهديد وحدة أراضيه. ويرى مراقبون أن الأطراف التي تتعاطى مع الأزمة السودانية كوسطاء، تفتقد إلى الحيادية في مواقفها من صراع الجنرالات الذي ضاع ضحيته أكثر من 150 ألف سودانيا وخلف أكثر من 12 مليون نازح وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتي أكدت أن أزمة السودان سبب حدوث أكبر حالة نزوح في العالم.
في ليلة التاسع عشر من ديسمبر 2018 انطلقت مظاهرات السودانين من ولاية عطبرة ضد الرئيس عمر البشير للتنديد بالأوضاع الاقتصادية، وتحقق حلمهم في الحرية بثورتهم على نظامه الجاثم على صدورهم لعقود طويلة، ونجحوا في إسقاطه. ومع تحقق أول حلم انبثقت عناقيد أخرى من الأحلام والآمال العريضة التي لا تخرج عن إطار الحقوق الطبيعية لأي شعب في العالم، ولكن الأحلام سرعان ما تحولت إلى كوابيس مرعبة خلفت كوارث على السودانيين منذ استيقظوا يوم الخامس عشر من إبريل 2023 على حرب شعواء بين أفراد الجيش السوداني وقوات الدعم السريع اللذين تبادلا الاتهامات عن مسؤولية البدء في القتال وإشعال الأوضاع إلى ما وصلت إليه الآن.
تحالف على حساب الشعب السوداني

العدوان اللدودان؛ قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي كانا في السابق صديقين متحالفين على حساب أحلام الشعب السوداني وثورته، حيث كان الثاني نائبا للأول، وبدا هذا التحالف واضحا في تعاطيهما مع مواقف مختلفة مارسا فيها عنفا شديدا ضد السودانيين المدنيين ودخلوا في صدام معهم.
بعد فترة قصيرة من ثورة السودانيين على نظام البشير، وتحديدا في إبريل عام 2019 تولى عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري المؤقت لإدارة شؤون البلاد، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من الصراعات بين الشعب السوداني من جانب والمجلس العسكري من جانب آخر.
بعدها وفي نفس الشهر، ظهر أول خلاف حول من يفاوض ومن يمثل قوى الحرية والتغيير. وفي شهر مايو 2019 رفض المتظاهرون طلب المجلس العسكري بإجراء انتخابات مبكرة خوفا من أن تؤدي إلى عودة فلول النظام البائد في ظل عجز القوى الثورية على تنظيم نفسها استعدادا للمرحلة الجديدة. وارتفعت وتيرة الخلافات حتى وصلت إلى مستوى الصدام بعد التهديد بعصيان مدني اعتراضا على ما وصفوه بأنه محاولة من المجلس العسكري لتعطيل تسليم السلطة لحكومة مدنية. وفي تلك الأثناء حدثت سابقة خطيرة أطلق عليها مذبحة القيادة العامة وذلك في يونيو 2019، وهي الحادثة التي اتفق فيها كل من قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على شن هجوم عنيف ضد المعتصمين السودانيين أمام مقر القيادة العامة، سقط فيها 150 قتيلا، كما ذكرت تقارير إعلامية عن إلقاء جثة خمسين سوداني وقتها في نهر النيل.
واستحكم الخلاف حتى دخلت البلاد في حالة عصيان مدني، مما دفع بعض الوسطاء للتدخل وتقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف للحيلولة دون دخول السودان في نفق مظلم. كان من ضمن الوسطاء رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، بجانب الجهود الدبلوماسية للإتحاد الأفريقي، والتي أسفرت عن وثيقة تقسيم السلطة وتقاسم الحكم.
وكان من المفترض بموجب هذه الوثيقة أن تكون هناك فترة انتقالية مدتها 39 شهرا، وتشكيل مجلس سيادة من 11 عضوا (5 مدنيين يختارهم الحرية والتغيير، و5 عسكريين يختارهم المجلس العسكري، وعضو مدني يتم اختياره بالتوافق بين الطرفين)، على أن يرأس مجلس السيادة في أول 21 شهرا شخص عسكري. وعلى الرغم من المضي قدما في بعض الإجراءات إلا أن الخلافات ظلت مستمرة لرفض الطرف العسكري مطالبات شعبية بالتحقيق في الأحداث التي راح ضحيتها مئات المدنيين. واشتعل الخلاف بشكل أكبر بعد أن كشف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي عن لقائه بالبرهان في أوغندا للاتفاق بشأن تطبيع العلاقات، وهو الأمر الذي عمق مشاعر عدم الثقة في الطرف العسكري، سيما بعد أن أعلن الرئيس ترامب في أكتوبر 2020 عن التطبيع الرسمي بين إسرائيل والسودان.
بعدها ظهرت الانشقاقات في صفوف التجمعات الشعبية الثورية بسبب انقسامها بين مؤيد ومعارض للحكومة. وفي أكتوبر 2021 وقع خلاف آخر بين رئيس الحكومة عبد الله حمدوك من جانب، وبين البرهان ونائبه حميدتي من جانب آخر لرفض الأول حل الحكومة وتعيين حكومة بديلة. وكانت النتيجة موجة اعتقالات كبيرة في نفس الشهر شملت رئيس الحكومة ومعظم الوزراء وقيادات سياسية ورؤساء أحزاب، إلى جانب السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون. وقام الجيش باختطاف حمدوك، وقرر قائده البرهان حل المجلس السيادي وإعلان حالة الطوارئ في السودان، وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية.
وقد حاول البرهان بث الطمأنينة لدى السودانيين بالتأكيد على التزامه باتفاق جوبا للسلام الموقع مع حركات مسلحة عام 2020 مع تشكيل حكومة مستقلة تحكم البلاد حتى موعد الانتخابات الذي كان مقررا في يوليو 2023.
كان من الطبيعي أن تؤدي هذه الإجراءات إلى مزيد من اشتعال الوضع في السودان خاصة في صفوف القوى الثورية التي رأت فيها انقلابا على الثورة وسطوا على مكتسباتها. ولم تنجح محاولات البرهان في امتصاص غضب الشارع السوداني بإعادة حمدوك من الإقامة الجبرية، التي فرضت عليه بعد اختطافه، لتولي منصبه من جديد. استمر غضب السودانيين مما دفع حمدوك لتقديم استقالته في يناير 2022 وذلك بعد أحداث مؤسفة خلال الاحتجاجات أسفرت عن سقوط قتلى.
من التحالف للعداء ..وبوادر حرب أهلية
في تلك الأثناء تدهورت الأوضاع الأمنية بسبب حالة الفراغ الأمني في البلاد، إلى جانب تدهور الأوضاع الإنسانية، بسبب نقص الغذاء والمستلزمات الطبية في أزمة خطيرة. وظهرت بوادر حرب أهلية من خلال اقتتال قبلي في بعض المناطق بولاية النيل الأزرق بجنوب السودان أودى بحياة المئات.
على الرغم من اشتراك كل من البرهان ونائبه حميدتي أو الرجل الثاني كما يوصف، في توقيع اتفاق مع قادة مدنيين في ديسمبر 2022 لإنهاء الأزمة في البلاد والتمهيد لتشكيل سلطة مدنية انتقالية، في حضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس ومحمد بلعيش سفير الاتحاد الأفريقي لدى الخرطوم، إلا أن الأوضاع لم تهدأ وسرعان ما انفجرت في تصعيد خطير في شهر إبريل 2023 ليستيقظ السودانيون على أصوات طلقات رصاص ودوي انفجارات في العاصمة، بعد انتشار قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي في أنحاء الخرطوم وإعلانها السيطرة على مطار الخرطوم والقصر الجمهوري ليتحول الحليفان العسكريان البرهان وحميدتي إلى عدوين لدودين يتبادلان الاتهامات حول مهاجمة معسكراتهما. بعد أن كانت قوات الدعم السريع مجرد فصيل عسكري تابع للجيش السوداني، تحول إلى جبهة شرسة للمواجهة والقتال ضد الجيش، لتتحول الأراضي السودانية كلها إلى ساحات للمعارك الدموية والمذابح البشعة التي طالت المدنيين الأبرياء، وكان آخرها مذابح الفاشر في دارفور، وكذلك في كوردفان، وهي المذابح التي يخشى مراقبون ألا تكون الأخيرة من نوعها بسبب تجدد العنف والاقتتال بين أطراف الصراع بشكل أحدث حالة غير مسبوقة من الفوضى الأمنية وضياع ملامح الدولة بمعناها المؤسسي بعد انهيار كل المؤسسات وتوقف كل الأنشطة الحياتية ووصول الأوضاع لحالة الشلل التام، التي دفعت بالسودانيين إلى النزوح خارج بلادهم هربا من ويلات الحرب.
فراغ أمني وجرائم وحشية

على الرغم من الجهود الدولية للوساطة لحل الأزمة ورأب الصدع بين الأطراف السودانية المتقاتلة ونزع فتيل الحرب، إلا أنها عجزت عن فرض حالة أمنية مطمئنة لعودة السودان كما كان والسودانيين لحياتهم الطبيعية. وكيف يحدث ذلك بينما توجد فرق تصارع بعضها البعض على قطعة من أرض الوطن لانتزاعها والهروب بها لبناء مجد شخصي عليها والاستئثار بها وبخيراتها في ظل تكوين حكومة موازية بزعم تسيير الأمور والقيام على خدمة السودانيين!
إن ما حدث أنه بعد أيام قليلة من إعلان هذه الحكومة الوهمية عن تشكيل أعضائها، أن وقعت مجازر الفاشر، وغيرها من مناطق دارفور، وازدادت حدة المواجهات بين المسلحين والمدنيين العزل من سكان هذه المناطق. كما ساهمت الفوضى الأمنية في ظهور أنماط من المجرمين الذي يمارسون أبشع أنواع الجرائم ضد السودانيين، لدرجة انتشار المذابح الجماعية والقتل بالجملة، لفرض السيطرة وبسط النفوذ بقوة السلاح.
في ظل هذه الأوضاع المتردية يثور التساؤل: إلى أين يسير السودان؟
إن السودان بلد عربي زاخر بالموارد والكنوز الطبيعية، كما يتمتع بمزايا استراتيجية تتعلق بموقعه الجغرافي، مما يزيد المخاوف من الأطماع الخارجية فيه واستغلال حالة الحرب، بل وتكريسها، لخدمة مصالح بعض الأطراف الذين يخططون للاستفادة من عدم استقرار السودان، ومن ثم تفشل الهدن هدنة وراء أخرى ويتجدد القتال كلما خبت ناره، بسبب من ينفخون فيها من الخارج ويمدون أطرافه بالسلاح بشكل أدى إلى اتساع أمد الحرب ونطاقها.
سيناريوهات مفخخة!
ويثور التساؤل الملح: متى تنتهتي الحرب في السودان؟ وعلى أي حال ستنتهي؟ وكيف سيكون المستقبل؟
هناك 3 سيناريوهات محتملة أولها نجاح الهدنة بين الأطراف المتقاتلة والجلوس على مائدة المفاوضات برعاية دولية وأممية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح السودانية التي تباد كل يوم. وثانيها استمرار حالة الصراع المفتوحة وبقاء الوضع على ما هو عليه من التشرذم والتفتت والانقسام في ظل سعي كل فصيل للسيطرة على جزء من الأرض وبسط نفوذه عليها. وثالثها حسم الحرب لصالح أحد الأطراف المتصارعة بتحقيق انتصارات على أرض المعركة والسيطرة بالقوة على كل السودان.
المثير في الأمر أن السيناريوهات الثلاثة كلها مفخخة لا تخلو من توابع مقلقة لما يمكن أن تسفر عنه من أزمات تنزع عن السودانيين حالة الهدوء والاستقرار المأمول. ففي ظل السيناريو الثاني تتعرض وحدة البلاد للخطر الذي يهددها بالانقسام إلى كيانين مختلفين ومتصارعين على النفوذ والموارد والثروات وهو الوضع الذي بدت ملامحه بمقدمات تمثلت في إعلان زعيم قوات الدعم السريع عن تشكيله لما أسماه بالحكومة الموازية، وهو وضع خطير ثبتت كارثيته بما شهدناه من أحداث في الفاشر وغيرها، واستمراره يعني القضاء على السودان الموحد وإضعافه، واستنساخ نسخة جديدة من النموذج الليبي الذي أعجز المجتمع الدولي عن معالجته بما يعني انتفاء الاستقرار والأمن في البلاد. وفي ظل السيناريو الثالث فإن خيار حسم الحرب لصالح أحد الأطراف محفوف بالمخاطر على المدى المتوسط والطويل خاصة إذا لم تكن هناك حالة توافق وطني حول السلطة المسيطرة وملامح النظام السياسي الذي سيصبح مفروضا بموجب سياسة الأمر الواقع، ومن ثم العودة لما كان عليه الحال قبل الثورة السودانية بكل ما فيه من أزمات سياسية واجتماعية.
لم يبق سوى السيناريو الأول الذي يحمل توقعات بالهدنة ووقف القتال وإعادة بناء ما دمرته الحرب تمهيدا للعودة للحياة الطبيعية. وهو أكثر السيناريوهات المستقبلية تفاؤلا وأفضلية للحفاظ على وحدة السودان وأرواح شعبه. لكن هذا السيناريو مفخخ أيضا ومحفوف بالمخاطر التي يحمل بذورها، حيث يرتبط تنفيذ هذا السيناريو بدور فعال ومخلص للقوى الدولية والإقليمية للضغط على كل الأطراف لوقف القتال، وهو الأمر غير المضمون في ظل وجود تدخلات من بعض الأطراف الخارجية وتحيزها لطرف على حساب طرف من أطراف القتال، بل وإمداده بالسلاح مقابل تحقيق مصالحها. كما أن هذا السيناريو يتطلب تسوية معقدة مرتبطة بتحقيق دمج وإصلاحات لكافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات الأمنية والعسكرية لاستعادة الدولة لهيبتها وسيطرتها، وهو أمر قد يصطدم بالإرادة السياسية والشعبية لبعض الأطراف التي ترفض الهدنة وتفضل القتال للقضاء تماما على خصمها في المعركة.
وعليه فإن الوضع السودان مرهون بحسابات المصالح الخاصة بالأطراف الإقليمية والدولية، ولكن تبقى إرادة الشعب السوداني هي الأقوى في التأثير والقدرة على رسم المستقبل إذا ما اتحد كل السودانيين وتخلوا عن المطالب الشخصية والفئوية وتحركوا في إطار من الوعي بخطورة الوضع على وحدة بلادهم والالتفاف على محاولات التقسيم ودحضها من خلال بث روح التحاور والتفاوض بدلا من لغة العنف والصراع.
