“هؤلاء المرضى الذين يحكموننا” 

أبحث بكثيرٍ من المنطق العلمي والتاريخي عن ملامح وجذور الهويّة الشخصيّة للبنان هذا الوطن الصغير المسكون أبداً لا بحجمه الداخلي الجغرافي والبشري بقدر سكنه وعدم سكونه في أن يكون ويبقى المُدلّل المُتحرّك في معظم دول العالم الكبيرة والصغيرة. صحيح أنّه وطن يغري أوطان الغرب لا بمهاجريه وحسب بل بقبعته الديمقراطية في هذا الشرق العربي لتحميه بل تعطف عليه وتُريده وتُدافع عنه دول وأنظمة العديد من جغرافيات العالم وأنظمتها وسلطاتها، لكنها حذارٍ تبقى الحمايات والتدخلات الدولية الصغرى والكبرى متعددة الرؤى والمصالح يصعب حصادها وتوضيبها في هذا المقام لأسباب معقّدة لا تنتهي ويصعب تليينها أعني الشخصي والعائلي والوطني والطائفي والمذهبي والتاريخي الداخلي والخارجي. هذه بعض سمات أهل السلطات والفئات اللبنانية المتنوعة التي يتمظهر فيها الخارج أبداً أقوى من الداخل المتحيّر بصيغ المفرد لا بصيغة الجمع.          

أيمكنني الجهر أنّ تصرّفات العديد من أهل السلطات بل عائلاتها تشابه سلوك المدمنين نكوصاً نحو الموت وإشعال الحروب وتخريب لبنان عندما تلوح مخاطر فقدان السلطة لدى أحزاب العائلات من الأجداد إلى الأحفاد وحتى أحفاد الأحفاد؟  

تذكّرني مسألة الإلحاح على توريث السلطة إلى الأبد اللبناني، من الأجداد إلى الأولاد والأحفاد والأصهار وأبناء العمومة والخالات والأخوال وذرية الأحفاد وصولاً إلى آخر الأزمنة، بالكتاب الشهير “Ces maladies qui nous gouvernnent” لبيار رنتشنك أي “هؤلاء المرضى الذين يحكموننا” والذي باع بما يفوق الخبز في فرنسا في السبعينات إذ كنت طالباً للدكتوراه في جامعة السربون 3. إنّه من النصوص الرائعة التي كتبت في أمراض السلطات والسلاطين المتوّجين أبداً من الخارج أوّلاً ثمّ من الهويّات الفولاذية الطائفية والحزبية. المسألة ليست إذن لبنانية تحديداً، لكنها تبدو نموذجية صمغية في لبنان عندما يعبر الوزراء ونواب العائلات المذهبية “العريقة” بياقاتهم المنشّاة وستراتهم المستوردة الباهظة الأثمان، وشعورهم المسرّحة وبسماتهم أو ضحكاتهم غير المفهومة وغير المبرّرة تبرز أسنانهم البيض أو المبيّضة فوق دماء الجرحى والشهداء والمشرّدين والمنكوبين بعد كلّ تفجير أو اغتيال أو حروب مذهبية وطائفية. يعبرون لتمتمة كلمات تشابه كلمات الاستظهار بالعربية التي كان يقف لها أولادنا الصغار في الصفوف يلقونها لتبدو أصواتا فارغةً من معانيها مغلّفة بالأصوات العالية حفاظاً على ملكيات العائلات في الوطن. هذا ما حصل ويحصل اليوم وسيحصل حيث تبدو المداخلات والخطب فارغة لمن هم بأعمارنا محشوّة بل مثقلة بشهوات السلطات المتجددة وروائح الانتخابات البرلمانية المرتقبة في الداخل والخارج حيث ينتخب رؤساء العالم وشعوبها معنا وصولاً إلى الديمقراطيات المذهبية التي لطالما اختلطت بروائح الحروب والخوف وصفّارات الإنذار بحثاً عن طريق للنفاذ. تكرّ خلالها وبعدها عشرات الشاشات والبرامج الطائفية والعائلية حيث لا مخيلة تفوق مخيلات اللبنانيين وتصوراتهم وهم يجرون خلف مخيلات الإعلاميين وتوقهم إلى ممارسة سلطات الإعلام بعدما تمكّن إعلاميو لبنان من قطع رأس مونتسكيو القائل بأنّ الإعلام هو السلطة الرابعة في الأنظمة الديمقراطية بعد السلطات البرلمانية والحكومية والقضائية.  

الجميع يطال بالحوار اليوم وقد أدمن اللبنانيون في السنوات الماضية، العديد من جولات الحوار بين زعمائهم وممثلي طوائفهم وأحزابهم المتقاتلة الأبديين. كانت تأتي حلقات الحوار في أعقاب جولات من العنف الدامي لتضع حدّاً له بقرارات لوقف النار، أو بتأليف لجان أمنية مهماتها كانت محصورة بوقف القتال الذي كان هشّاً في أغلب الأحيان سرعان ما يخرق بمعارك متجددة. إنهم يشهدون للمرّة الأولى مناخاً معقّداً في الحوار لأنّ العدو الإسرائيلي لم يقرع الأبواب بل هو في الداخل اللبناني بعد غزّة التي قرعت الأبواب في العالم، وإذا كانت النصائح العربية والدولية المكثّفة حريصة كم يُشاع اليوم على أن تبقى مناخات الحوار الإيجابية هي السائدة في لبنان ريثما يزور البابا لبنان، ولو لم يتم التوصل إلى نتائج حاسمة أو اتفاق، كما هو الواقع، فإننا بقينا مجمّدين عند دم الحقيقة التي كانت وما زالت مرتبطة أساساً بصراحة باغتيال الرئيس رفيق الحريري والحقائق المتسلسلة والتي طال سلسالها في الخرائب والانهيارات بل الحروب المتلاحقة حول بحيرات النفط والغاز. يبدو الحوار واضحاً برعاية بل بمشيئة دولية على ارتباط وثيق بمستقبل المنطقة والصراع التاريخي العربي الإسرائيلي. ولا أظن أن أحداً من جهابذة لبنان مهما علا شأنه وانتماءاته الغربية والشرقية وتطلعاته أو مراهناته، قادر بعد على مجانبة مستقبل لبنان خارج الإرادات الدولية والعربية ومصالحها ومصالح المستقبل اللبناني من أميركا إلى فرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر وغيرها. وسينسحب الوضع قطعاً على مستقبل لبنان ولا ننسى أنّ المصالح الدولية التاريخية كانت تاريخياً في صلب تكوين لبنان تأسيساً متجدّداً كما يظهر، لوطن في مجموعة لا يتعرّض عند كلّ خلاف إلى أزمات وحوارات تكاد لا تنتهي وتهدد كيانه وتضعه ريشة في مهبّ العاصفة. الحوار اليوم يتجاوز لبنان والأطراف التي تحاورت في الدوحة وقبلها في الطائف لوضع دستور جديد لم يُطبق بعد ويخلع محاورات أجداد المتحاورين وأبناء العائلات في باريس وغيرها من العواصم والدوائر الغربية. تتطلّع الأجيال الجديدة في تمثيلها إلى المناخات اللاطائفية التي تتجاوز في تطلّعاتها المصالح الطائفية الضيّقة، وهؤلاء يمثلون أغلبية اللبنانيين في الداخل والخارج لا يملكون السلاح ولا الثروات لكنهم يملكون كما أهل الخليج والعرب والعالم نوعاً من هذا العشق الغريب بلبنان. 

لربما يكون مفتاح الخروج من التخبط المتعفن إصدار قانون عادل للانتخابات البرلمانية يفتح أبواب البرلمان للنساء والشباب والتجديد أوّلاً، لا سيّما أن أخباراً سمجة غير مكدرة تنذر بمحاولات حرمان لبنان المغترب من المشاركة عبر تهريب القوانين وقُل تهريب الانتخابات أو تأجيلها، إذا كان هناك شبه احتمال من سقوط نائب أو حبّة نائب من سبحات الكتل النيابية التي….. ليملأ قارئي الحبيب الفراغ عنَي.