أسرار النهضة الهندية

الدكتور إبراهيم الحريري

لندن: 1/2/2019

 »الغضب والتعصب هم أعداء الفهم الصحيح والحقيقة واللاعنف موجودان منذ بداية الزمن« غاندي

 »اذا اردنا دولة خالية من الفساد، وأن تصبح أمة لديها عقول جيدة ومبدعة فلدينا ثلاثة أعضاء اجتماعيين يمكنهم احداث الفرق هم الأب والأم والمعلم« ابو بكر زين العابدين عبد الكلام

نلمسهم ونتحسسهم بكل تطبيقات الكمبيوتر والهواتف الذكية وبعبق رائحة السندل وزحام الطرقات بكل مكان ما بين اشباه حفاة وعراة إلى اغلى الماركات العالمية وناطحات سحاب يجاورها ابنية من الصفيح المتقع وغداء بألاف الدولارات لغداء ببنسات ما بين قمة العبقرية وقمة الجهل وبين قمة الابداع والتقليد الأعمى والخرافات والاساطير وقمة التسامح والتعصب أنها بلد المتناقضات المحمودة التي كل واحدة منها تهدم أمة وحضارة واليكم قصة شعب تحدى كل المتناقضات وانتصر عليها ولا يزال أنها الهند.

ماذا نعرف عن الهند؟

بمساحة 3. 28 مليون كيلومتر مربع وعدد سكان يفوق 1.3 مليار وناتج قومي اكثر من 2.7 ترليون دولار عام 2018 لتحتل المرتبة السادسة عالميا وبايرادات خدمية من برامج الكمبيوتر تفوق 155 مليار دولار عام 2018، وبأعراق وأديان ولغات كثيرة، ففي الهند يتحدثون نحو 14 لغة أساسية وما يقارب من 1000 لغة ولهجة تقليدية وشعبية، ويُشكل السكان الذين ينتمون إلى الدّيانة الهندوسيّة نسبة 82.6، أما السكان المسلمون فيشكلون نسبة 11.4، ويشكل المسيحيون نسبة 3.

الهند موجودة في كل مكان: في نشرات الأخبار، في دور السينما، في المكاتب وفي مبنى كابيتال هيل »مجلس النواب الأميركي« وبكل شركات التكنولوجيا العالمية والبنوك والمستشفيات العالمية.

و من خلال دراستنا للنهضة الهندية سنقسم هذه النهضة إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الاولى: 1947-1990 مرحلة اللاعنف واللاتعاون:

بهذه المرحلة والتي بدأت باستقلال الهند من الانتداب البريطاني وشركة الهند الشرقية وبعد محادثات مضنية بقيادة غاندي وال نهرو واللذين رفعا شعار اللاعنف واللاتعاون لتخلق من الهند بلد يعتمد على نفسه بكل شي وخصوصا بالانتاج الزراعي الذي كان سمت هذه المرحلة بأن تطور الانتاج الزراعي وبعض الصناعات الثقيلة ليتم تأمين شبه القارة الهندية من المجاعة والتي كانت تفتك بها عدة مرات وتؤدي إلى نفوق البشر والحجر من شدتها.

و بلا شك فقد تحقق للزعيمين شعارهم من خلال اعتماد الهند على زراعتها وتامين الامن الغذائي الهندي بالاكتفاء الذاتي وسياسة الصفر مشاكل مع دول العالم.

فالثغرة الأساسية في هذا النموذج أنه لم يكن مصمما على أساس التصدير للأسواق الخارجية، بينما ركز على السوق الداخلية الهندية والوفاء باحتياجاتها من السلع والخدمات، فانصبت بؤرة تركيزه على تحقيق طفرة إنتاجية كمية وليست نوعية عالية للصناعة الهندية، وهو ما أدى إلى ضعف قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية.

بنهاية هذه المرحلة عجزت الهند عن الاستجابة السريعة للتطورات الاقتصادية الدولية وبخاصة ذات الصلة بتغير طبيعة رأسمال الأجنبي والشركات المتعددة الجنسيات، وهو ما قاد لثورة كبيرة في التجارة العالمية حيث تضاعفت نسبة الإنتاج العالمي. لم تستجب الهند لتلك التحولات الاقتصادية العالمية، بل زادت من تشديد إجراءات القبضة الحكومية على نواحي الاقتصاد المختلفة بكل ما حمله من عمليات تأميم وتوسيع للقطاع العام ليشمل إنتاج السلع الأساسية وغير الأساسية.

المرحلة الثانية: 1991 -2000 مرحلة الانفتاح والاصلاح والتحول:

بدأت هذه المرحلة العام 1991 وجدت الهند نفسها مفلسة تماما، حيث وجد ما يناهز 120 مليون هندي، أنفسهم في دائرة الفقر، وأدى التضخم، الذي تجاوز 17 إلى تآكل الدخول المنخفضة، وانهارت الموارد المالية للحكومة، أصبح 330 مليون نسمة أو اثنان من كل خمسة هنود يعيشون تحت خط الفقر.

عراب النهضة ومهندس عملية الإصلاح الاقتصادي بهذه المرحلة هو خريج من جامعة أكسفورد وذو توجه ليبرالي رأسمالي براغماتي وهو »مانهومان سينغ«، في فترة رئيس الوزراء »ناراسيما راو«، الذي شغل منصب وزير المالية الهندي (1991 – 1996) واصبحت الهند المحررة ليست نمرا كغيرها من النمور الآسيوية بل هي الفيل الذي بدا يتحرك في تثاقل إلى الأمام، لن يسرع، ولكن لديه دائما قدرة على الاحتمال.

وفي عهد »سينغ« تم فتح المجال للمستثمرين في قطاعات الصناعة الطيران والنفط التي كانت مملوكة للدولة، وإلغاء أحكام التراخيص في وجه الشركات الأجنبية وخفض الضرائب، ولم يكن لجميع تلك الإجراءات الجديدة آثارا اقتصادية وحسب، بل أثرت على الصعيد الاجتماعي والنفسي في المجتمع الهندي، إذ عززت ثقة المواطنين في حكومتهم وبدأ المستثمرون يثقون بمؤهلات السوق الهندية، وبدأت الشركات »في تشغيل العاطلين وانخفض حجم التضخم من أكثر من عشرة إلى ما دون العشرة، وانخفض الدين العام، كما تم استرداد احتياطي الصرف الأجنبي النفيس، وتجنبت الهند أزمة كانت لتكون محققة«.

 توجت هذه المرحلة عام 2000 حيث فتحت الحكومة قطاعات الطاقة والفحم والاتصالات والخدمات البريدية والنقل أمام الاستثمار المحلي والأجنبي مما حفز الشركات العالمية للاستثمار بالهند بمختلف القطاعات والصناعات بدءا من الإنتاج الدوائي، وصولا إلى صناعات التعدين وتكنولوجيا الفضاء، كما أعلنت في مايو/ أيار من ذلك العام الخصخصة الجزئية لشركة الطيران الهندية، وسُمح للأجانب بتملك 26 من إجمالي نسبة الـ60 التي تم طرحها للشركات الخاصة.

المرحلة الثالثة: 2000- 2019 مرحلة الاستقرار والتعاون والنمو:

و يعتبرالرئيس أبو بكر زين العابدين عبد الكلام »مهندس الصواريخ« أو »زعيم الشعب« كما يحب الهنود تسميته والذي ترأس الهند (2002-2007)م والمتوفي 2015 م من أهم عرابين هذه المرحلة والذي لم يتزوج من نساء بل تزوج العلم والمعرفة وخدمة الشعب ولخص رؤيته كرئيس بمقولته: »هناك أربعة أشياء مهمة: أمتلاكك لهدف كبير وعظيم، و اكتسابك للمعرفة و العمل الجاد والمثابرة أذا اتبعتهم فكل شي يمكن تحقيقه«

مع سريان سياسات الخصخصة في قطاعات الدولة المختلفة ودخول الاستثمارات الأجنبية، باتت الهند مع مرور السنوات واحدة من القوى الاقتصادية الكبرى التي تشكل تهديدا للقوى التقليدية في العالم بعد أن تمكنت من التفوق على الصين في النمو الاقتصادي، لتتربع بذلك على عرش أكبر نسبة نمو اقتصادي في العالم وتتجه سريعا لتستحوذ على حصة أكبر من الاقتصاد العالمي.

و تمتاز هذه المرحلة ببزوغ معاهد التكنولوجيا الهندية عالميا التي فاق عددها الثلاثين معهدا تكنولوجيا على أعلى المستويات والتقنيات ليتربعوا على مناصب الابداع والتميز والقيادات بالشركات التكنولوجيا والبنوك والمستشفيات العالمية.

وبات الاقتصاد الهندي ضمن أكبر 20 اقتصادا في العالم حسب منظمة التجارة الدولية واحتل المرتبة السابعة عالميا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة أنها عضو في مجموعة دول البريكس التي تضم بالإضافة للهند الصين والبرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا.

وقد بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي 2025 ترليون دولار بحسب البيانات الرسمية عام 2016 عن موقع انفستوبيديا الاقتصادي عن بيانات صندوق النقد الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2016، فاحتل الاقتصاد الهندي المرتبة السادسة على مستوى العالم بناتج محلي قدره 2. 45 تريلون دولار. وقدر الموقع أن حصة الخدمات من الاقتصاد الهندي تقدر بـ57 والزارعة بنسبة 17 فيما تقدر الصناعة بنسبة 26 من الناتج المحلي الهندي، وبلغ حصة الفرد من الناتج المحلي 1850 دولار في السنة، ويتوقع البنك الدولي أن تقفز الهند إلى المرتبة الرابعة على مستوى العالم في العام 2022. ويُذكر أن الهند تمكنت من إخراج 137 مليون فقير بحلول العالم 2014، إذ بلغ عدد الفقراء 270 مليون فقير متراجعا من نحو 400 مليون في العام 2005.

ماهي اسرار النهضة الهندية؟

نلخص أهم الاسباب للنهضة الهندية بما يلي:

اعتماد اللغة الاتجليزية لغة رسمية وتعليمية مما ميزهم عن الصين.

الاهتمام والاعتماد على الجيل الجديد الشاب والذي يشكل النسبة الاكبر للشعب.

الاهتمام بالتعليم وخصوصا المواد العلمية الرياضيات والفيزياء والكيمياء

القيادات المسؤولة من غاندي ونهرو وسينغ وعبد الكلام.

الديمقراطية والمواطنة والتسامح واللاعنف.

التنوع الاقتصادي الزراعي والصناعي والخدمي.

العمل الشاق والاندماج الكلي في العمل،

وسرعة التكيف مع المتغيرات،

وتحقيق إنجازات عظيمة بموارد محدودة،

والتركيز على المجتمع والأسرة والموظفين أكثر من حملة الأسهم.

الهند والعالمية:

الهنود يديرون أمريكا ويقودون العالم أصبح الأمر واقع لا خيال وتكهنات فلا يوجد بلد بالمعمورة يخلو من الجالية الهندية قلت أم كثرت !

و قد عملت ألمانيا على استقطاب 360 الف مهندس وفني هندي بالتسعينيات ضمن خطة المستشار هلمت كول انذاك وكان جلهم من اختصاصيي التكنولوجيا وتم توطينهم بألمانيا واعطاؤهم حق المواطنة، و هم يشغلون مناسب برلمانية ووزارية وأقتصادية وإدارية بكل الدول الغربية، ومن المتوقع أن يفوز أحد أبناء المهاجرين الهنود بمنصب رئيس الولايات المتحدة خلال 20 سنة القادمة، أي خلال جيل واحد من الآن. فمع تعيين »سوندار بيشاي« رئيسا تنفيذيا لشركة »جوجل« أصبحت كل الطرق تؤدي إلى القمة أمام أبناء أكبر دولة ديموقراطية في العالم.

يعمل »سوندار« في »جوجل« مديرا تنفيذيا، وكان مديرا لقسم »أندرويد« الذي يشغِّل 80 من موبايلات العالم. وعندما حاولت شركتا »ميكروسوفت« و »تويتر« اختطافه في عام 2014، رفعت »جوجل« راتبه إلى 150 مليون دولار في العام2015، وبثروة تجاوزت مليار دولار، ليتجاوز راتب رئيس »ميكروسوفت« المهندس الهندي »ساتيا ناديلا« الذي يتقاضى 85 مليونا.

على الرغم من أن صعود »سوندار بيشاوي« إلى قمة هرم »جوجل« يثير الدهشة، فإنه ليس فردا وحده. فقد أشرنا إلى »ناديلا« الذي يقود »ميكروسوفت«، وهناك السيدة »إنديرا نويي« رئيسة شركة »بيبسي«، و »شانتاو نارايين« رئيس »أدوبي«، و »أجاي بانجا« رئيس »ماستركارد« و »فيكرام بانديت« رئيس »سيتي جروب«، ويقابله »آنشو جين« رئيس »دويتش بنك«، وغيرهم العشرات.

و نستنتج مما سبق انه بالعلم والعمل ترقى الامم وليس بمساعدات الاعانة للعاطلين عن العمل ولا بمساعدات الدول المانحة ولا بالواسطات والمحسوبيات بالتعينات والترفيعات ولا بالتوريث بل بالجد والمنافسة الشريفة والمتساوية بين جميع أفراد المجتمع.