في عصر اصبحت تتزايد فيه موجات الأنحسار لعمليات الطبع والنشرو التوزيع وتتزايد في نفس الوقت المواقع المختلفة لألوان متعددة من قنوات ما يطلق عليها قنوات الاتصال الاجتماعي عبر الأنترنت ،وتنشر الكثير من المعلومات،والأخبار،وتروج لما تشاء من افكار واهداف ،بشكل يتنامى ويتسع بسطوة التقدم التكنولوجي دون تدقيق أو تمحيص ،أو حتى مراجعه. وتشكل في النهاية اخطبوط ،له أذرع وامتدادات ،ويعرف باسم الميديا الشعبيه ،وليس شرطا ان تكون كلها من اجل دفع عمليات المعرفة أوالتنوير،ولذلك تتزايد لدي البعض من جانب اّخر الرغبه في التفتيش عن مواقع الفكر والدراسة والتحصيل،. نتنسم من خلالها الأصالة فيما مضى،ونشحذ الهمة لبناء غد مأمول ،ومستقبل واعد .من هنا كانت زاوية ( زياره لمكتبة فلان). وضيفنا في هذه الحلقه المفكر العربي (ساطع الحصري). اما من قام بالزياره وشارك في الحوار فهو كذلك المفكر العربي والكاتب الراحل الكبير ( احمد بهاء الدين)،وقد سبق وان قدمنا في اطار هذا الباب زيارته الى مكتبة الدكتور (طه حسين) وزيارة اخرى لمكتبة (توفيق الحكيم). وقد نشر الراحل الكبير ( احمد بهاء الدين) تفاصيل تلك الزياره في مجلة ( صباح الخير) وقد كان يتولى رئاسة تحريرها في 10 ابريل عام 1958 . يقول الأستاذ بهاء في تقديمه للحوار: اسمه الذي يحب ان يدعى به هو (أبو خلدون) . ذلك لأنه من الذين عشقوا المؤرخ القديم (ابن خلدون) حتى انه الف عنه كتابا ضخما يبلغ (600 صفحه) ولأنه منذ أكثر من ثلاثين عاما ،عندما انجب غلاما أطلق عليه اسم( خلدون)،وقال لنفسه وأصحابه في ذلك الوقت البعيد (سيكبر ابني خلدون ويصبح رجلا ،وسوف ينجب ابنا يسميه ابن خلدون).ثم ينظر ساطع الحصري بعيدا ويقول( سوف تكون الدولة العربيه المتحده قد تحققت ،فيؤرخ لها حفيدي ،كما ارخ (ابن خلدون) القديم للعرب منذ ألف سنه).يستطرد الأستاذ الجليل احمد بهاء الدين فيقول ( قرأت من كتب ساطع الحصري اكثر من عشرة كتب أم الكتب التي ألفها في التاريخ والتربيه والسياسة فهي تزيد علي السبعين كتابا.
مكتبة ساطع الحصري
يقول الأستاذ بهاء،بعد بحث عن عنوانه،وعثوري عليه،كانت في انتظاري مفاجأة كبيره،فقد تصورت انني سأجد لديه مكتبة ضخمه،ولكني وجدته يقيم بمفرده في غرفة بسيطه جدا،في فندق صغير من الفنادق التي تقع في قلب القاهرة ،والغرفة غاصة بدواليب الكتب ورفوفها ،ولم يبق للسرير سوى ركن صغير منعزل. وحين سألته عن مكتبته، ضحك الرجل الذي تجاوز الثامنه والسبعين من العمر،ولكنه مازال يتأجج حركة ونشاطا، وقال مكتبتي الأصليه في حلب! فعندما خرجت مطرودا من العراق عام 1941 عقب فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني ،كانت لدي مكتبه تضم 16000 كتاب ومجلد ،واحترت بها،فبعت في بغداد ما يقرب من اربعة اّلأف كتاب ،اما الأثنتا عشر الباقيه ،فهي الأن جزء من المكتبه الوطنيه لبلدية مدينة حلب،وفي مصر اجتمعت لي مكتبه تضم حوالي الألف كتاب ،فلما أشرفت هنا على تأسيس معهد الدراسات العليا، جعلت هذه الألف كتاب نواة لمكتبة المعهد .بعد ذلك كلما تراكمت عندي الكتب ارسلها الى مكتبة حلب ،فلا احتفظ هنا الا بالكتب التي استعملها في ابحاثي استعمالا مباشرا. يضيف الاستاذ بهاء ( ان قصة هذا الرجل بديعه وممتعه،وتغري بأن نولي ظهورنا رفوف الكتب التي تحيط بنا ،وان نتصفح قليلا هذا الكتاب الفريد الحي. ان اباه وأمه سوريان من حلب، ولكن أين تظنه ولد ؟ لقد ولد في صنعاء باليمن،فأبوه كان قاضيا شرعيا في الشام ،ثم نقل الى صنعاء ،التي كانت كالشام جزءا من الأمبراطوريه التركيه ،وهناك ولد ( ساطع الحصري) سنة 1880 قبل احتلال الأنجليز لمصر بسنتين .
ساطع الحصري على الفكر القومي ؟
عندما اصبح ساطع الحصري شابا، اشتغل بالتدريس 1900 في جزء اّخر من اجزاء الأمبراطوريه العثمانيه متنقلا بين ثلاث مدن صغيره من مدن البلقان احداهما الأن في بلغاريا،والثانيه في يوغوسلافيا ، والثالثه في اليونان،وكانت فترة عملي في هذه المدن البلقانية هي التي فتحت عيني لأول مره على الحقيقه القومية،فقد كانت هذه الفترة ،هي فترة احتدام الحركات القوميه في اوروبا
وكنا نحن العرب تائهين في عباءة الامبراطوريه العثمانيه التي تحكمنا باسم الاسلام ،وعندما ذهبت الى البلقان ،كنت أظن أن البلقان يحاربون الأتراك فقط ،لأنهم مستعمرون ،ولأنهم من دين غير دينهم ،وهذا ما يظنه أكثر المؤرخين عندنا الى الان مع الأسف ،لكني وجدت هناك حقيقة أخرى،وجدت الى جانب الصراع ضد الأستعمار التركي،صراعا اّخر بين البلقانيين أنفسهم،رغم اتحادهم في الدين و الظروف،وكان صراعا قوميا.ان الفرنسيين يسمون صحن (السلطه) التي تحتوي على مختلف اصناف الخضر والبقول باسم (سلطه مقدونيه) كناية عن تعدد اصنافها،ذلك ان مقاطعة(مقدونيا)في ذلك الوقت كان فيها كل أنواع القوميات البلقانيه،،يونانيون وبلغاريون وألبانيون وصربيون وأروام ..الخ
وكنت اري اليونانيين والبلغاريين في القرية الواحده ،لا يصارعون الحكم التركي بقدر ما يصارعون فيما بينهم على الكنيسة والمدرسة ،وهل تقام الصلاة باللغة اليونانية أم باللغة البلغارية ،وهل يكون التدريس باللغة اليونانية أم باللغة البغارية ،وكانت تقوم حروب أهلية ومعارك مسلحة ومذابح لهذا السبب،رغم انهم من دين واحد ومن مذهب واحد.هنا انتبهت الى الحقيقه القومية ،فهذا هو احتدام القوميات التي كانت تولد وتتنفس وتنتصر في اوروبا كلها، وثبت في ذهني الفارق بين الدين الواحد والقومية الواحده ،وقارنت ذلك بما كان يدور في سوريا في ذلك الوقت .كانت كنيسة الروم الأرثوذكس – مع انها كانت تابعة لكنيسةأثينا – تصارع لكي تقوم الصلاة فيها باللغة العربيه ،ولكي يكون لها بطريرك عربي ،وكان الأهالي يصارعون الأتراك لكي يكون التعليم والتقاضي باللغة العربيه ،لا باللغة التركية .قارنت هذا بذاك وثبت عندي حقيقة الفكرة القومية ومستقبل الحركة القومية العربيه ،وثبت في ذهني أن الأتراك ليس من حقهم ان يستعمروا العرب ،ويسحقوا قوميتهم بدعوى انهم – كأغلبية العرب – مسلمون !
الرحله في ربوع العالم العربي
يستطرد ساطع الحصري في سرد رحلته بين دروب الحياة ،فيتحدث عن رحلته الى استانبول،وكان يعمل في التدريس حتى انه عمل على تأسيس (دار المعلمين) وأدخل نظم التعليم الحديثه في التعليم التركي،و كان له نشاطه في الحركات السريه التي كانت تعمل ضد نظام السلطان عبدالحميد،واستبداله بنظام ديموقراطي عصري،ثم نشبت الحرب العالمية الأولى،وتمزقت الأمبراطوريه ، وقامت الثوره العربيه بمساعدة الأنجليز،ودخل الملك فيصل الأول الى دمشق،وتشكلت الحكومه التي رأسها الركابي ثم هاشم الأتاسي ،وكان ساطع الحصري وزيرا للمعارف في الحكومة الأولى ،وكانت سوريا التي يحاولون بنائها تشمل (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)وللحصري كتاب اسمه (يوم ميسلون)، وتجري الأحداث بناء على التقسيم بين بريطانيا وفرنسا ،ويغادر الملك فيصل دمشق، اثر انتصار الفرنسيين ،على يوسف العظمه ،ويذهب الى حيفا ثم الى اوروبا،وبعد عامين يتقررتأسيس العراق ويوافق الانجليز على تولي الملك فيصل عرش العراق عوضا عن سوريا ،ويذهب ساطع الحصري الى بغداد ،وهو الذي ولد في اليمن من ابوين سوريين يحمل الآن الجنسيه العراقيه.هو بالفعل وطنه الحقيقي كل بلاد العرب ،وجنسيته الحقيقيه هي العروبه. كانت الحاله في العراق مترديه مثل سوريا ،اذ لا توجد دوله . العمله في العراق هنديه ،والقوانين هنديه ،لأن العراق كانت تابغه لمستعمرة الهند ،حتى ان طبقة المثقفين التي كانت موجوده في سوريا لا يوجد لها مقابل في العراق .،ثم ان هناك تركيا تطالب بالموصل،وايران تطالب بشط العرب ،وبغداد نفسها قريه صغيره متخلفة ،واذا أمطرت السماء عبرنا الشوارع على ظهور الشيالين.
بدات حياة الحصري في بغداد مختلفة،فهو الأن يعمل في اطار التعليم ،ولا دخل له بالسياسة ،ومن ثم دخل في صراع مع الأنجيز،فهو يتطلع الى نوع من التعليم يقوم على أسس قومية عربيه،والأنجليز يريدونه ومن يتعاونون معهم على اساس ( عراقي اقليمي). يقول بقيت في العراق عشرين عاما ،وحين قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني ،كان للثورة اتجاه عربي قومي ،لا عراقي محلي.،ولما اخمدت الثورة ودخل الأنجليز بغداد ،اعتبرني عهدهم الجديد مسؤولا عن عقيدة الثورة ففصلوني من العمل وسحبوا منى الجنسيىه العراقيه ،وطردوني من العراق. ،ولكننى كنت قد انجبت هناك ولدا وأسميته خلدون وبقي ابني هناك .
انتهت الحرب العالمية الثانيه ،وعادت الابتسامه الى وجه (أبي خلدون) .ثم هاهي دمشق تناديه بعد ان تحررت من اخر جندي فرنسي ،لكي يضع من جديد اسس التعليم والتربيه القوميه التي هدمها الفرنسيون بعد ان طردوه منذ اكثر من ربع قرن. ثم يجيء الى مصر ،حيث يؤسس معهد الدراسات العربيه العليا، ويستقر فيها .ثم يقول منذ سنوات طويله وانا اتمنى ان اعيش في مصر ،فقد اقتنعت عبر تلك السنوات الطويله ،أن العروبه لن تقوم لها قائمه بغير مصر،هنا مركز الثقل وقلب البلاد العربيه ،ونقطة الأنطلاق الحقيقيه الى المستقبل . لكنه في مصر يواجه ايضا معارك ثقافيه .انه كما صارع في سوريا فكرة القومية السوريه ،وفي العراق الفكره العراقيه الأقليميه ،فانه في مصر يصارع فكرة مصر الفرعونيه. لقد مرت بمصر بلبله عجيبه . االبعض يقول انها فرعونيه ،والبعض يقول انها تتبع ثقافة البحر الابيض المتوسط كاليونان ،والبعض يقول انها عربيه وما اكثر الأنحرافات الذهنية التي تثير اعصابه ،كان يقول لأنصار الفرعونيه ( لو فرضنا جدلا ان الفراعنه الراقدين في دار الآثار قاموا ودبت فيهم الحياة،فاي صلة تجدها بينك وبينهم لا شيء، لا اللغة،ولا الدين،ولا العادات ولا الشخصية،لا شئ قط . المهم في القوميه ليس السلاله ،ولكن التفاعل والأنصهار الأجتماعي. لقد حكم العرب مثلا بلاد الفرس ثلاثة قرون ،اعتنق فيها الفرس الأسلام ،وتكلموا اللغة العربيه وتولوا مناصب الحكم في عاصمة الأمبراطوريه العربيه ،وكتب شعراؤهم مثل عمر الخيام بعض شعرهم باللغة العربيه ،ولكن عملية التفاعل الأجتماعي لم تتم ،فانحسر الموج بعد ثلاثة قرون وعادت اليهم فارسيتهم .
يقوم الاستاذ بهاء بسؤاله :هناك من يرى ان الحركات القومية شئ قد فات اوانه ،واصبح موضة قديمه . انفعل ساطع الحصري ،وقال هؤلاء يعيشون في اوروبا ،ولا يعيشون في بلادهم .نعم لقد انتهت في اوروبا القضايا القومية ،ولكن كيف انتهت،انتهت بحل مشكلة القوميات وبالخضوع لمنطقها ،انتهت بأن قسمت الدول فيها على اساس القوميات،وليس على اساس اّخر ،وهذا طبيعي لأن الأنسان يكف عن المطالبه بالشئ بعد ان يحصل عليه . لكننا هنا في مرحله أخرى .نحن مازلنا في مرحلة الصراع القومي .الأستعمار لم يسلم بمطالب حركتنا القوميه بعد ،وهي لذلك لم تزل قائمه .
كان السؤال الأخير ماهي ابرز العيوب التي يقع فيها بعض المؤرخين المعاصرين ؟ ما الذي يبعدهم احيانا عن الفهم الصحيح للتاريخ ؟
أولا بعض المؤرخين لا يعتمدون ولا يصدقون الا الكتب الاوروبيه المكتوبه عن تاريخنا ،ودراسة التاريخ تعلمنا ان كل دولة تكتب تاريخ العالم بما يناسب مصلحتها وكبرياءها فالمراجع الاوروبيه فيها فائده عظيمه ،ولكن فيها ايضا ضلال كثير ومن الخطأ البلغ ان نصدقها على علاتها
ثانيا ان ينسي المؤرخ الفكرة الاساسيه في غمرة التفاصيل فلا يعثر مثلا على خط اتجاه الحركة القوميه لانه قد اضطرب في خضم التغيرات والتقلبات والاحداث المختلفة
ثالثا اذا نظرنا الى الجبل من بعيد، سوف تجد منظره ساحرا جميلا ،ولكنك اذا سرت في حناياه وجدته مجموعة من الأحجار والتراب ،ومنحنيات ومنخفضات ،ونحن ننظر الى تاريخ أوروبا من بعيد ،نقرأ كلياته فقط ،فنراه جميلا رائعا ،اما تاريخنا فلأننا قريبون منه ،غارقون في ثناياه ،فاننا لا نري منظره العام الجميل ،لا نرى الا الصخور والأحجار والكهوف ،وهذه غلطة أخرى يجب أن يتجنبها المؤرخ.
رابعا نحن أحيانا نستهين بأبطالنا ،اننا نسمع عن مونتسكيو مثلا فنشعر بالخشوع والأجلال ،لأننا نعرف فقط ،ماأضافه منتسيكيو الى الانسانية ،ولا نعرف السخافات الكثيرة الاخرى التي تحفل بها مؤلفاته ،ولكننا لا نخشع ولا نجل مؤرخا عربيا مثل ابن خلدون ،لأننا نقرأ الطيب والردئ في أعماله.
كل مفكر عظيم أضاف للأنسانية شيئا ،وأخطأ في أشياء ،وعلينا أن نقيس رجالنا أيضا بهذا المعيار .
خامسا وأخيرأ ،ان أكثر المؤرخين يفتقدون النظرة الأجتماعية ،أنهم يهتمون مثلا بأن الدولة الفلانية فتحت مدينة كذا في سنة كذا ،ولكنهم لا يدرسون الأهم ،لا يدرسون ماذا حدث بعد هذا الفتح في هذه المدينة من تغير وتفاعل بين اللغات والعادات والأديان ،في حين أن هذا هو الحادث التاريخي الهام .
وقبل ان ينهض الأستاذ بهاء الدين سأل أبا خلدون :هل لك حفيد ؟هل هناك طفل اسمه (ابن خلدون) ؟
ضحك ساطع الحصري وقال : ابني خلدون في العراق ،لقد كتب عدة مقالات عن (الجمهورية العربيه المتحده ) والظاهر ان السلطات هناك ضايقته بسببها فقدم استقالته منذ اسابيع ،ان له طفلين ،واحد اسمه عمر والثاني اسمه علي ،ومن يدري ربما اصبح أحدهما ( ابن خلدون )ا ّخر.
