شهران مفصليان وخطيران ولبنان امام خيارين كلاهما مرّ
يمر لبنان خلال هذين الشهرين بمنعطفات امنية وسياسية دقيقة وقد تكون نتائجها خطيرة على الحكم والحكومة، مع اقتراب مرور سنة على انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية (كانون الثاني 2025)، واقل من سنة بقليل على تشكيل حكومة الرئيس نواف سلام (شباط 2025)، بحيث لم تهدأ ساحة لبنان نتيجة مواصلة الاعتداءات الاسرائيلية على مناطق الجنوب والبقاع واحيانا على الضاحية الجنوبية لبيروت، ونتيجة الانقسامات والخلافات التي عصفت بالحكومة والمجلس النيابي حول قضايا مصيرية كمثل جمع السلاح والمفاوضات مع الكيان الاسرائيلي، وحول قضايا إجرائية داخلية كمثل الخلاف حول قانون الانتخابات المفترض ان تجري في شهر ايار- مايو المقبل، وبخاصة ما يتعلق بإقتراع المغتربين، ما هدد بتعطيل وشل عمل البرلمان والحكومة.واضيفت اليها مؤخراً حملة عقوبات اميركية على قطاعات مالية بحجة منع تمويل حزب الله ما يؤدي الى تفاقم الازمة.
تكاد تمر سنة على العهد الجديد والحكومة الجديدة، ولبنان ما زال اسير الضغوط الخارجية ومحاولات وضع اليد على قراره السيادي، تدل على ذلك كثرة الوفود العربية والاميركية والاوروبية التي تأتي ليس لإستطلاع الوضع اللبناني عن قرب فهو بات مكشوفاً بصورة واضحة، بل لطرح مشاريع حلول للأزمات القائمة ولا سيما الازمة حول إنهاء الاحتلال الاسرائيلي ووقف عدوانه وتحرير الاسرى اللبنانيين لديه وترتيب الحدود البرية مع فلسطين المحتلة وكذلك مع سوريا، وحول جمع سلاح حزب الله.
وقد أعلن رئيس الجمهوريّة جوزيف عون “إستعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل من أجل إنهاء الاحتلال، لكنّ المفاوضات لا تكون من جهة واحدة، بعدما قابلنا الطرف الآخر بمزيد من الاعتداءات، على أن يحدّد شكل التفاوض وزمانه ومكانه لاحقاً”. وجاء ذلك على أثر توسّع الموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس في مهمّتها، وقد صارت عسكريّة – سياسية، كونها باتت مكلفة بالعمل كمستشارة للجنة الاشراف على اتفاق وقف الاعمال العدائية (الميكانيزم) بين لبنان واسرائيل، تحضر اجتماعاتها الدورية وتطرح افكارها وتوجهات الادارة الاميركية، لتعيد اخيراً تقديم طرحها القاضي بتوسيع اللجنة شكلا ومهمات لتشمل التفاوض على كل الامور العالقة وصولا الى اتفاق سياسي، ولتضم موظفين رسميين مدنيّين لبنانيين(وزراء او سفراء).
وتفيد المعلومات الواردة من واشنطن الى بيروت، إنّ الأميركيين، وتحديداً المحيطين بالرئيس دونالد ترامب، متحمسون لتفعيل المسار التفاوضي، وصارت له أولوية توازي ملف جمع السلاح..لكن تفيد مصادر زوار رئيس الجمهورية لـ “الحصاد” بأن عناوين التفاوض وشكله وشروطه لم تكن واضحة الى حين وصول السفير الاميركي الجديد في بيروت ميشال عيسى (اللبناني الاصل من بلدة بسوس بقضاء عاليه)، الملكف متابعة الملف اللبناني بدل الموفد السفير طوم برّاك، الذي انتهت مهمته في لبنان وزياراته المكوكية بالفشل الذريع نتيجة عوامل واسباب كثيرة منها اميركي ومنها اسرائيلي، ومنها تمسك لبنان بمواقفه حول وقف اطلاق النار والتفاوض العسكري لا السياسي.
تضيف المعلومات الورادة من واشنطن، إنّ المسؤولين اللبنانيين يتعاملون بحذر مع هذا الملف ويفضلون التريث والتدقيق في الاقتراحات المطروحة، قبل توسيع طاولة التفاوض لتتجاوز المسألة العسكرية. أما الإسرائيليون فيصرون وفق المعلومات على التفاوض السياسي والمباشر.
شروط التفاوض
في لبنان، تقول مصادر معنيّة إنّ الكلام عن المفاوضات لا يزال مبدئيّاً. بمعنى أنّ لبنان وافق على التفاوض غير المباشر عبر “لجنة الميكانيزم” ليرمي الكرة في الملعب الإسرائيليّ لكي لا يُحمَّل مسؤوليّة رفض الحلول. لكنّه وبرغم كثرة الوفود لم يتبلّغ (جتى كتابة هذه السطور) الموقف الإسرائيليّ. ومن هذا المنطلق، ترى المصادر أنّ استعداد لبنان للتفاوض لا يعني الذهاب مباشرة إلى الطاولة، ولا يعني تذليل العقبات التي تحول دون انطلاق هذا المسار، بسبب الشروط التي يضعها لبنان وجوهرها العودة الى اتفاق الهدنة لعام 1949، ورفض وجود سياسيين رسميين في لجنة الميكانيزم، بل أنّ لبنان قد يوافق على ضمّ اختصاصيّين وتقنيين ومساحي خرائط أو مستشارين إلى اللجنة، لكنّه يرفض ضمّ وزراء أو دبلوماسيّين أو أيّ مسؤول له صفة رسميّة.
ويرى لبنان أنّ الهدف من توسيع “الميكانيزم” هو البحث في الأمور العالقة، وأهمّها تثبيت الحدود البرّيّة بعد الانسحاب الاسرائيلي من النقاط المحتلة. لكن من وجهة نظر إسرائيل ان يكون هدف التفاوض البحث في ترتيبات أمنيّة وصولاً الى ترتيبات سياسية ما لا يزال لبنان يجهل تفاصيلها.
لكن كشفت مصادر لبنانية مطلعة، أن الولايات المتحدة الأميركية قدمت مقترحاً إلى لبنان يقضي بتوسيع صلاحيات لجنة الرقابة الخماسية “الميكانيزم” لتشمل جميع الحدود اللبنانية، بما فيها الحدود السورية، وأن من شأن قبول لبنان بالمقترح الأميركي تعزيز السيطرة الأميركية الإسرائيلية على جميع الحدود اللبنانية وليس الحدود الجنوبية فقط كما هو الوضع في الوقت الراهن.
ومن الواضح أنّ هناك ضغطاً أميركيّاً لكسر حاجز التفاوض السياسيّ مع إسرائيل، خصوصاً أنّ هناك وجهة نظر تقول إنّ ما تتمتّع به إسرائيل من حرّيّة حركة عسكرية منحتها إيّاها واشنطن مع إعلان وقف إطلاق النار، يغنيها عن أيّ تفاوض مع لبنان لا يحقق شروطها، لا سيما أنّها تتّهمه بالتلكّؤ في تنفيذ قرار حصريّة السلاح.
زيادة الضغوط

بعد رفض لبنان اي مفاوضات سياسية مباشرة مع اسرائيل ازداد الضغط الاميركي وغير الاميركي على لبنان، فغابت لجنة الميكانيزم التي يرأسها جنرال اميركي عن السمع، ولم تتخذ اي إجراء لوقف الغارات الواسعة التي نفذتها اسرائيل على مناطق كثيرة في الجنوب والبقاع وادت الى ارتفاع عدد الشهداء والجرحى وحجم الاضرار المادية. وبدأت المواقف الاميركية العلنية تلوّح بتصعيد الوضع وتطلق التهديدات والتحذيرات بأنه “ما لم ينهي لبنان جمع سلاح حزب الله خلال هذين الشهرين فإن اسرائيل ستتكفل بالموضوع بالقوة”. وذهب الموفدان اورتاغوس وبرّاك الى تبني الموقف الاسرائيلي بأن ” لبنان لم يلتزم بتعهداته لجمع سلاح حزب الله ولن نضغط على اسرائيل”! كمانقلت اورتاغوس وغيرها من اسرائيل مزاعم لتبرير تصعيد عدوانها بأن “حزب الله يعيد التسلح وبناء قدراته العسكرية استنادا الى التقارير الامنية الاسرائيلية مؤخرا التي تحدثت عن تمكن الحزب من ادخال كميات من الصواريخ والاسلحة الى لبنان عن طريق سوريا”.
كتاب الحزب
وبعد كل هذه التطورات المتعلقة بجمع السلاح والتفاوض، جاء كتاب حزب الله مطلع الشهر الماضي الذي وجهه الى رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة والى الشعب اللبناني، وخرج فيه عن صمته وحدّد موقفه من المستجدات المتصلة بوضع الجنوب وما يُطرح حول تسليم سلاحه والتفاوض مع كيان الاحتلال، حيث اعلن “إن لبنان معني راهناً بوقف العدوان بموجب نص إعلان وقف النار والضغط على العدو الصهيوني للالتزام بتنفيذه، وليس معنياً على الإطلاق بالخضوع للابتزاز العدواني والاستدارج نحو تفاوض سياسي مع العدو الصهيوني على الإطلاق، فذلك ما لا مصلحة وطنية فيه وينطوي على مخاطر وجودية تهدد الكيان اللبناني وسيادته”…
وبرغم انتقاد خصوم الحزب لمضمون هذا الكتاب وتفسيره على انه رفض لخيار لبنان التفاوضي، فبرأي المقربين من الحزب، ان موقفه هذا يزيد من متانة موقف الحكم والحكومة، لجهة تمسكهما بثوابت ومواقف – كي لا يُقال عنها شروط – في مواجهة الطرح الاسرائيلي والاميركي حول موضوعي السلاح والتفاوض، بعدم التنازل عن حقوق لبنان، لا سيما حقه في استعادة اراضيه المحتلة وفي مقاومة الاحتلال اذا استمر في تصعيد عدوانه على البشر والحجر وعلى السيادة اللبنانية.
وبدا ان هناك تفاهماً اوتناغماً بين الحزب وبين الرئيسين جوزاف عون ونبيه بري على الاقل، إن لم يكن ايضاً مع الرئيس نواف سلام، حول موضوع التفاوض بشكل خاص، لجهة ان الدولة اعتمدت رسمياً إطار لجنة (الميكانيزم) دون غيرها للتفاوض مع اتجاه لقبول تطعيمها بتقنيين وفنيين وخبراء، وليس سياسيين، عند اللزوم وحسب حاجة الجيش. اما ملف السلاح فهو يسيروفق الخطة التي اعدها الجيش وتتم متابعته بالحوار القائم بين الرئيس عون وحزب الله بما لا يمس قرار الدولة ولا يؤدي الى استهداف الحزب.
وبرأي جهات سياسية رصدت بدقة كتاب الحزب الى الرؤساء ، ان الحزب رفض في كتابه صيغة التفاوض التي يطرحها الاميركي والاسرائيلي، و ان موقف الحزب من التفاوض يساند عملياً ولا يعرقل موقف الحكم، لأنه موقف رافض للتفاوض المباشر وبخاصة السياسي منه، كما هو موقف لبنان الرسمي، ورافض لكل الاملاءات والشروط الاسرائيلية، ومايُسرّب عن املاءات وشروط اميركية، وهو امر يُعزّز ما تردّد عن موقف مصري أبلغه مديرالمخابرات اللواءحسن رشاد الى لبنان برفض الشروط الاسرائيلية والتمسك بمواقفه لتقوية وضعه خلال التفاوض اذا تم.
وحسب ماقال مرجع رسمي كبيرلـ “الحصاد”، فإن التفاوض لمعالجة الوضع جذرياً في الجنوب هو البديل الوحيد عن الحرب، وان الحكم يقوم بالاتصالات شبه اليومية مع الجانب الاميركي بشكل خاص لا سيمامع “المستشارة” مورغان اورتاغوس، وتبين انها دعت الحكم والحكومة الى التروي وإنتظار تسلّم السفير الاميركي الجديد في بيروت ميشال عيسى مهامه رسمياً، لأنه يملك مفتاح خزنة أسرار التوجهات الاميركية الجديدة حيال لبنان، وكل هذا سيتبين عند وصول السفير عيسى الى بيروت ليُبنى الموقف اللبناني الرسمي النهائي على الموقف الاميركي الرسمي والتفاصيل التي يحملها السفير. بينما لم يعد من دور مباشر او غير مباشر للموفد طوم برّاك في لبنان، على الاقل في هذه المرحلة وربما في مراحل لاحقة وقد لا يعود الى لبنان بعد وصول السفير عيسى.
سياسة توسيع العقوبات
لكن مع الاستعصاء الحاصل بعد الشروط والشرط المقابلة وتمسك لبنان بمواقفه، بدا من التوجهات الأميركية الجديدة قبيل زيارة وفد الخزانة الأميركية ومجلس الأمن القومي الى بيروت والمعني بالعقوبات وملاحقة الأموال من ضمن جولة له في المنطقة، ان التصعيد والضغط السياسي سيأخذان منحى آخر عبر توسيع العقوبات الأميركية الاقتصادية والمالية على لبنان كما ذكرت التسريبات الإعلامية من واشنطن ومواقف أعضاء الوفد الزائر، لتطال بعض القطاعات، وليس فقط الأفراد المشتبه بتعاملهم مع إيران وحزب الله في نقل الأموال، كمثل “شركات الصرافة والاقتصاد النقدي والأموال الناتجة عن صفقات تجارية سرّية لفريق تمويل الحزب، مثل بيع النفط الإيراني وسلع أخرى إلى لبنان عبر شركات صرافة المرخّصة وغير المرخّصة أو تلك التي لا تجري فحصاً كافياً لعملائها”، كما قال وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية جون هيرلي العضو في عداد الوفد الى لبنان، وذلك تحت حجة “ضبط تبييض الأموال والعمليات المالية غير الشرعية في لبنان”. وهو أمر إن حصل سيزيد من حدّة الأزمة الاقتصادية في لبنان، لأنه سيطال قطاعات يعمل بها عشرات إن لم يكن مئات الأشخاص والموظفين ممن لا علاقة لهم بالحزب ولا بالسلاح ولا بالحرب. وقد يُسهم في عرقلة أو وقف عمليات تحويل الأموال لآلاف العائلات اللبنانية من ذويهم في الخارج تحت هذه الحجة.
