الحكومة السودانية الوهمية، والمخطط الصهيوني القديم!

هل تنجح السلطة الموازية في انتزاع قطعة جديدة من السودان؟

“إن تشكيل جبهة من حكومة سودانية موازية، وتحالف صمود، ضروري لمواجهة الطموحات الاستراتيجية الإيرانية، وعلى الإدارة الأمريكية أن تلعب دورا محوريا في الشأن السوداني. ويسهم تعزيز الشراكة الإسرائيلية السودانية بدعم أمريكي في تسريع عملية إعمار السودان”..رأي ورد على لسان الضابط الإسرائيلي العميد يوسي كوبرفاسر، المدير الأسبق لوزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، ورئيس شعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية للجيش، سابقا. وهو رأي يشي بدور سري لإسرائيل داخل السودان.

وهو أمر ليس بجديد على الكيان الصهيوني، وله سوابق وجذور تاريخية عميقة، ترجع للقرن الماضي، وبداية ضلوعه في مخطط انفصال جنوب السودان، والأدوار الخفية للسفارات الإسرائيلية داخل القارة الإفريقية خاصة في أديس أبابا، وكمبالا، ونيروبي، للعبث بالأمن القومي العربي.

منذ ظهورها السرطاني، عملت إسرائيل على نشر الفتن والخلافات في منطقة إفريقيا وتغذيتها للنزعات الانفصالية، كما حدث في دعمها لجون جارانج لتمكينه من الانفصال عن السودان منذ سنوات طويلة، وهو ما اعترف به السكرتير الإداري سفيريانو فولي في مذكراته كأحد قادة حركة التمرد عندما حكى عن تقديمه للسفارة الاسرائيلية في كمبالا كحلقة وصل بين الحركة وبين إسرائيل.

مخطط صهيوني قديم

في دراسة للدكتور عماد الدين عبدالله الباحث في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، وعضو اللجنة العلمية للخبراء والمختصين والمهتمين بدراسات البحر الأحمر ، توصل إلى أن الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تجزئة السودان وضعت قبل أن ينال السودان استقلاله، وأشار إلى أن لدول الجوار دورا خطيرا في هذا الأمر، وهم إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو، وهي دول تتمتع بعلاقة وطيدة مع الكيان الصهيوني. وكانت كواليس انفصال الجنوب السوداني شاهدة على ضلوع الأيادي الإسرائيلية في التخطيط للانفصال. حيث قامت استخبارات الكيان الصهيوني في أوغندا باتصالات مع عناصر بالجيش السوداني من الجنوبيين ومنهم جوزيف لاقوا الذي تواصل بدوره مع السودانيين الجنوبيين المتمردين داخل القنصلية الإسرائيلية بالعاصمة الإثيوبية. كما كان العقيد باروخ بارسيفر على رأس فريق الاستخبارات الإسرائيلي في أوغندا للتمهيد لوقوع هذا الانفصال، وقام بدعم المتمردين.

في عام 1981 قدم آرييل شارون ما يعرف بوثيقة “كيفونيم” لاجتماع وزراء حلف الناتو، والتي تتضمن الاستراتيجيات الإسرائيلية في التعامل مع الدول العربية والإسلامية. وورد فيها جزء متعلق بالسودان، ذكر فيه أن: ” السودان أكثر دول العالم العربي والإسلامي تفككًا، فإنه يتكوّن من أربع مجموعات سكانية كلٌّ منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سُنيّة تسيطر على أغلبية غير عربية، إلى وثنيين، إلى مسيحيين”.

وشهد عام 1994 إقامة إسرائيل لجسر جوي لإرسال الخبراء لتدريب الجنوبيين المتمردين وتقديم المساعدات لهم، كما استخدمت شركاتها في إثيوبيا كواجهة لممارسة النشاط الداعم للمتمردين الجنوبيين في السودان والتواصل معهم.

وفي عام 2008 ألقى آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، محاضرة أمام كبار القادة الأمنيين، قال فيها: “إن السودان شكّل عمقًا إستراتيجيًا لمصر في حربها حيث تحوّل إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، وأرسل قواته لمنطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف. لذلك، كان لا بد أن نعمل على إضعافه، ومنعه من بناء دولة قوية موحدة، فهذا ضروري لدعم وتقوية الأمن القومي الإسرائيلي.”. وأشار ديختر أنه كان على إسرائيل أن تتجه إلى جنوب السودان وتعمل على مفاقمة الأزمات بها، بل وخلق أزمات جديدة، تكون نتائجها معضلة تصعب معالجتها فيما بعد!

وإذا كان ذلك حدث بالفعل في كواليس واقعة انفصال جنوب السودان، فإنه ليس من المستبعد أبدا أن تكون هناك أصابع إسرائيلية خفية وراء تكريس الصراع والفرقة بين السودانيين حاليا، والدفع باتجاه تقسيم جديد لما تبقى من السودان.

في ظل هذه الاحتمالات تتأكد خطورة ما يحاك للسودان من تخطيط لإضعافه وتقسيمه، الأمر الذي يثير الشكوك حول ما يجري داخله حاليا من صراعات سياسية وانقسامات، وصلت إلى مستوى وجود حكومتين داخل البلاد بعد الإعلان عن تشكيل حكومة موازية، وهو ما يهدد وحدة السودان، مع وجود احتمال أن ما يحدث ليس بمنأى عن الأيادي الصهيونية ومخططاتها في تقطيع أوصال المنطقة العربية، ومنها السودان.

حكومة وهمية!

من نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، تم الإعلان عن قرار الهيئة القيادية لتحالف السودان التأسيسي، بتشكيل مجلس رئاسي يتألف من 15 عضوا برئاسة قائد قوات الدعم السريع- أحد طرفي الصراع في السودان- محمد دقلو الشهير بحميدتي، ومعه عبد العزيز الحلو نائبا، ومحمد حسن التعايشي رئيسا للوزراء، جاء ذلك بعد توقيع فصائل التحالف على دستور انتقالي ينص على علمانية الدولة. سبق ذلك تمهيد تم على الأراضي الكينية، حينما وقعت قوات الدعم السريع وقوى سياسية وحركات مسلحة تجاوزت 20 كيانا، على ميثاق سياسي لتشكيل حكومة موازية تحت شعار “السلام والوحدة”.

تتركز مناطق نفوذ الحكومة السودانية الموازية في أجزاء من ولايتي شمال وغرب كردفان، وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إضافة إلى 4 ولايات من ولايات إقليم دارفور الخمس. يضاف إليها المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية “شمال” منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، وتشمل مناطق جنوب غرب ولاية جنوب كردفان، وهي مناطق يعيش سكانها أوضاعا إنسانية سيئة وتعتمد على المساعدات الأجنبية في التعليم والصحة.

شتان بين مشهد الالتفاف الشعبي ووحدة الفرحة بالثورة على نظام البشير والنجاح في إسقاطه على أمل تحقيق الأحلام الديمقراطية وما يصاحبها من طفرات اقتصادية تجعل الخير يعم على البلاد، وبين المشهد المأساوي الحالي، الذي كانت بدايته مع اشتعال حرب ضروس بين الفرقاء العسكريين، وانقسام السودانيين بين مؤيدين أو ضحايا لقوات الجيش بزعامة عبد الفتاح برهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وصولا لمرحلة وجود حكومتين في بلد واحد، بعد قيام حميدتي ورفاقه بالإعلان عن الحكومة الموازية.

فهل تنجح حكومة ولدت في تلك الظروف على انتزاع ذلك الجزء من الوطن والانفراد به بعيدا عن السودان الأم؟

على الرغم من رسائل الطمأنة التي أرسلها القائمون عليها، إلا أن الإعلان عن حكومة سودانية موازية، أثار استنكار السلطة السودانية، والمخاوف العربية على مستقبل وحدة الأراضي السودانية، وأسماها الرافضون ب”الحكومة الوهمية”. وشككوا في قدرتها على النجاح في المهام التي زعمت قيامها من أجلها وهي إدارة شؤون السودانيين في المناطق التي تسيطر عليها. في المقابل يرى مؤيدو الحكومة الموازية أنها تهدف إلى إعادة بناء الدولة بالعدل والمساواة وتقديم الخدمات لجميع المواطنين. ويؤكد الدكتور الهادي إدريس، القيادي البارز في تحالف “تأسيس”، والعضو السابق في مجلس السيادة السوداني أن هذه الحكومة الموازية ستكون لديها عملة ووثائق وجوازات سفر، وكلها مظاهر ممهدة للانفصال عن الوطن.

لاشك أن الإعلان عن الحكومة الموازية بالسودان في توقيت يحقق فيه الجيش السوداني تقدما ملحوظا على أرض المعركة في مواجهة قوات الدعم السريع، يشكل محاولة التفاف على هذا التقدم وإفساد محاولات سيطرة الجيش والعمل على توحيد البلاد تحت راية جيش واحد. كما أن انطلاق الحدث من العاصمة الكينية يثير التساؤلات حول انخراط دول اقليمية في الشأن السوداني، والاهداف الكامنة وراءها. وهو ما ينقلنا للحديث عن الموقف الإقليمي من أزمة السودان.

الموقف الإقليمي:

مثلما رفضت الأمم المتحدة الاعتراف بالحكومة الموازية في السودان، فإن جامعة الدول العربية والهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد”، ومعها الاتحاد الإفريقي أعلنت الرفض أيضا. ولكن الأمر يختلف على مستوى الدول، سيما تلك التي لديها مصالح مع قوات الدعم السريع وأجندات تدفعها للتعاطي مع الواقع والتعامل مع الحكومة الموازية حتى ولو لم تعترف بها خشية تشجيع كيانات أخرى مماثلة بالمنطقة على الانفصال.

 ويعد وجود كينيا كطرف أساسي كدولة مستضيفة لاجتماع إعلان الحكومة الموازية بالسودان، مثيرا للقلق، وذلك لما لها من علاقات تعاون وطيدة مع الكيان الصهيوني، وهو ما يمكن ربطه بصفقة الدفاع الصاروخي التي طلبتها من إسرائيل في يوليو الماضي لتعزيز أمنها الجوي. ولا ينفصل الدور الكيني عن نظيره الإثيوبي، خاصة في ظل علاقات أديس أبابا الحميمة بتل أبيب، فكل من كينيا وإثيوبيا تجمعهما علاقة التعاون العميق مع إسرائيل، كما يجمعهما القلق من نجاح الجيش السوداني في السيطرة وحسم المعركة في السودان، لمالهما من مصالح تتعارض مع استقرار السودان وقوته، وهو ما يتلاقى مع المصالح الإسرائيلية.

وهناك محفزات قوية داخل السودان لإثارة الأطماع الإسرائيلية فيها والعمل على التدخل والعبث بأمنها من أجل ضمان السيطرة على الأمور وفقا لمصالحها. يأتي في مقدمة هذه المحفزات الثروات الطبيعية في باطن الأرض وخاصة الذهب والنفط، وثرواته الحيوانية، والزراعية بالنظر إلى كون السودان بلد خصب في ظل مرور نهر النيل داخله، وهو أحد المقدرات التي تطمع فيها إسرائيل بتحقيق وضع يدها عليه. كما توجد لدى الكيان الصهيوني رغبة قوية في استغلال موقعه الجغرافي الاستراتيجي في الاستثمار في مختلف المجالات، وقد بدا ذلك واضحا في زيارة وزير المخابرات الإسرائيلية، إيلي كوهين، للسودان في إطار محاولات تفعيل اتفاق التطبيع الذي تم ضمن الاتفاقيات الابراهيمية عام 2020، والذي أعرب فيها عن رغبة بلاده في إنشاء مصنع للأسمدة والكيماويات بالخرطوم، كأول مصنع إسرائيلي يقام بدولة عربية أو إسلامية.

بين حوض النيل وموانئ النفط في البحر الأحمر، والثروات الزراعية خاصة القمح، وكذلك الثروات الحيوانية، والمعدنية، تتحرك الأطماع الصهيونية مندفعة بالرغبة الدفينة في السيطرة عليها، وهو ما يتعارض مع تحقيق استقرار ووحدة في السودان، لذلك تعمل على تغذية الاضطرابات والصراعات من خلال دعمها المسلح لحميدتي ورفاقه من الفصائل المتمردة على وحدة الدولة. وللأسف الشديد ليست إسرائيل وحدها هي من يطمع في السودان، وإنما هناك أطراف مرتبطة باستثمارات عالمية، وهو ما تؤكده الدكتورة أماني الطويل مديرة البرنامج الإفريقي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، والتي ترى أن مسار الحكومة الموازية في السودان سوف يستمر مدفوعا برغبات شركات عالمية في استغلال موارد السودان، والعمل على إضعافه ليتحقق لها ما أرادت. وتشير في نفس الوقت أن الحالة الوحيدة لوقف نشاط الحكومة الموازية وتحركاتها، ترتبط بقدرة الجيش السوداني على فرض سيطرته على جميع الأراضي واستعادتها وخاصة منطقة دارفور.

الدور العربي!

لاشك أن للسودانيين أنفسهم دورا مهما في الحفاظ على وطنهم ووحدة بلادهم، تجنبا للسير باتجاه السيناريو الليبي وما يشهده من انقسامات وتناحر بين مختلف القوى السياسية التي يسيطر كل منها على قطعة من ليبيا، على حساب وحدة أراضي الوطن واستقراره. فهل يمكن إنقاذ السودان من ذات المصير الليبي؟ وهل يستطيع الشعب بمفرده النجاح في هذه المهمة؟ لابد أن نعترف أن الشعب السودان منهك من الحرب التي التهمت الأخضر واليابس ودمرت كل شئ وقتلت الألاف وشردت الملايين، ولذلك فهو بحاجة ليد داعمة تمتد له للمساعدة على القيام من جديد بإعادة بناء الدولة وتقويتها في مواجهة المتربصين لها. وهنا يأتي الحديث عن الدور العربي والإسلام في هذا الصدد، ولاشك أنه دور حيوي وضروري للغاية خاصة في ظل ما تمت الإشارة إليه من وجود مخطط صهيوني للسيطرة على مقدرات البلد العربي المسلم.

لقد أثبتت الوقائع التاريخية أن الكيان الصهيوني لم ينجح في اختراق القارة الإفريقية وخاصة منطقة القرن الإفريقي بما فيها السودان، إلا استغلال للغياب العربي. ومن ثم فإنه لابد للدور العربي أن يتجاوز التصريحات المعلبة والشعارات الرنانة إلى العمل الجاد والدؤوب للتواجد بفاعلية وقطع الطريق على الكيان الصهيوني من العبث في أمن ووحدة واستقرار دول أخرى بالمنطقة تلافيا لتكرار ما يحدث في السودان.

أما بالنسبة لمستقبل الوضع في السودان فهو لا يبشر مع استمرار الحكومة الموازية في المضي قدما، بدعم خارجي، نحو استكمال إجراءات شرعنة وضعها الجديد سواء بإصدار عملة وجوازات سفر وغير من الأوراق الثبوتية بعيدا عن الوطن الأم، ويبقى الأمر مرهونا باحتمالات تغير الموقف الدولي والإقليمي من هذه الحكومة ومحاولاتها في فرض أمر واقع غير قابل للتراجع.