الذكاء الاصطناعي يغير خريطة الطاقة العالمية

مراكز البيانات: عصب رقمي يستنزف شبكات الكهرباء

* ستحتاج مراكز البيانات إلى استثمارات هائلة تصل إلى 6.7  تريليون دولار بحلول عام 2030

* يستهلك “تشات جي بيتي” من شركة “أوبن إيه آي” ما يقرب من 1 غيغاواط/ساعة من الكهرباء يومياً

يشهد العالم طفرة غير مسبوقة في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، الذي يُعد محركاً قوياً للنمو الاقتصادي، ومُعيداً لتشكيل سوق العمل والاستثمار. فوفقاً لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على تسريع وتيرة النمو الاقتصادي العالمي.

هذه الطفرة التكنولوجية تحتاج إلى مراكز بيانات ضخمة تُعتبر اليوم عصب الاقتصاد الحديث. فهذه المراكز لم تعد مجرد مستودعات ضخمة للخوادم، بل هي بيئة معقدة تغذي كل شيء؛ من تطبيقات الهواتف الذكية إلى خدمات الحوسبة

مراكز البيانات لم تعد مجرد مستودعات ضخمة للخوادم

السحابية. وتُظهر الأبحاث أن هذه المراكز ستحتاج إلى استثمارات هائلة تصل إلى 6.7  تريليون دولار بحلول عام 2030 لمواكبة الطلب المتزايد على القوة الحاسوبية. ويُتوقع أن تذهب حصة الأسد من هذا المبلغ، أي 5.2 تريليون دولار، لمراكز البيانات المصممة خصيصاً للذكاء الاصطناعي، في حين ستذهب الـ1.5 تريليون دولار المتبقية لمراكز البيانات التقليدية.

لكن هذه الطفرة تأتي بتكلفة باهظة… فبينما يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مجالات مثل الطب، الصناعة، والتعليم، إلا أن تشغيله يتطلب طاقة هائلة، خصوصًا في مراكز البيانات التي تستضيف نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة. فعلى سبيل المثال، يستهلك “تشات جي بيتي” من شركة “أوبن إيه آي” ما يقرب من 1 غيغاواط/ساعة من الكهرباء يومياً، وهو ما يعادل الطاقة اللازمة لتشغيل 33 ألف منزل أميركي ليوم واحد. ولا يمثل هذا سوى جزء صغير من الصورة الكاملة؛ فمن المتوقع أن يرتفع الطلب على الطاقة في مراكز البيانات بشكل كبير مع تزايد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتاحة. وبحلول عام 2030، من المتوقع أن تستحوذ أعباء عمل الذكاء الاصطناعي على ما يقرب من 70 في المائة من سعة مراكز البيانات، وفقاً لشركة “ماكنزي”.

استهلاك يكاد يوازي بلدان بأكملها

تشير التقديرات الصادرة عن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى أن مراكز البيانات العالمية استهلكت 500 تيراواط/ساعة من الكهرباء في عام 2023. هذا الرقم يمثل أكثر من ضعف مستويات الاستهلاك السنوية خلال الفترة من 2015 إلى 2019. وتتوقع “أوبك” أن يرتفع هذا الاستهلاك إلى ثلاثة أضعافه، ليصل إلى 1500 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030.

فيما تشير الوكالة الدولية للطاقة إلى أن استهلاك المركز الواحد يعادل سنوياً ما يستهلكه حوالي 350 ألف إلى 400

تشغيل الذكاء الاصطناعي يتطلب طاقة هائلة

ألف سيارة كهربائية.

وفي الولايات المتحدة، بلغ استهلاك الطاقة في مراكز البيانات مستوى قياسياً بلغ 5 في المائة من إجمالي الطلب على الطاقة في الولايات المتحدة. ويعزى هذا الارتفاع إلى التبني السريع للرقمنة وتقنيات الذكاء الاصطناعي.

وفقًا لتحليلات شركة “ماكنزي”، من المتوقع أن تكون الولايات المتحدة أسرع الأسواق نمواً لمراكز البيانات، حيث سيرتفع الطلب من 25 غيغاواط في عام 2024 إلى أكثر من 80  غيغاواط بحلول عام 2030.

ويُعزى هذا النمو إلى الرقمنة المتزايدة، والتحول إلى الحوسبة السحابية، وانتشار التقنيات الجديدة وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي يُقدر أنه يمكن أن يضيف ما بين 2.6 و4.4 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية للاقتصاد العالمي. ولكن تحقيق ربع هذه القيمة فقط يتطلب ما بين 50 و60 غيغاواط من البنية التحتية الإضافية لمراكز البيانات في الولايات المتحدة وحدها.

هذا الاستهلاك ليس فقط كبيراً، بل إنه أيضاً متقلب وغير متوقع في كثير من الأحيان. ففي حين أن الطلب على الكهرباء في المنازل والشركات التقليدية يتبع أنماطاً يمكن التنبؤ بها (مثل فترات الذروة في الصباح والمساء)، فإن مراكز البيانات تحتاج إلى إمدادات ثابتة ومستمرة على مدار الساعة، مع إمكانية حدوث زيادات مفاجئة في الطلب تتطلب استجابة سريعة من الشبكة.

ولتبسيط هذه الأرقام، فإن الكهرباء التي تستهلكها مراكز البيانات حالياً تعادل استهلاك دول كبرى مثل ألمانيا أو فرنسا. وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يصل هذا الاستهلاك إلى مستوى استهلاك دولة بحجم الهند، ثالث أكبر مستهلك للكهرباء في العالم. وهذا الرقم يتجاوز بشكل كبير استهلاك السيارات الكهربائية المتوقع في الفترة نفسها، إذ سيكون استهلاك مراكز البيانات أكثر بمرة ونصف، وفق ما يراه صندوق النقد الدولي.

تحديات أمام الشبكات الكهربائية

وتشكل الزيادة في استهلاك الطاقة من قبل مراكز البيانات ضغطاً هائلاً على البنية التحتية الكهربائية الحالية. فشبكات الطاقة المصممة لتلبية احتياجات المدن والمنازل والشركات التقليدية لم يتم بناؤها لتوفير إمدادات ثابتة ومركزة بهذا الحجم الضخم.

ويظهر هذا التحدي بشكل خاص في المناطق التي تتمركز فيها مراكز البيانات، مثل ولاية فرجينيا الأميركية التي تعد مركزاً عالمياً لمراكز البيانات. إذ تجاوزت حصة هذه المراكز من إجمالي استهلاك الطاقة 10 في المائة، مما أدى إلى تأخير في ربط مشاريع جديدة بالشبكة.

العوامل المؤثرة على الاستهلاك والكفاءة

تتأثر كمية الطاقة المستهلكة في مراكز البيانات بعدة عوامل رئيسية، منها حجم المركز ونوع المعدات. فكلما كبر حجم المركز، زاد استهلاكه للطاقة بسبب عدد الخوادم ومعدات الشبكات. كما تتأثر بأنظمة التبريدوالتي  تُعد من أكبر مستهلكي الطاقة في مراكز البيانات. ناهيك عن نوع الخدمات المقدمة،  حيث أن تلك التي تتطلب معالجة مستمرة للبيانات، مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي تستهلك طاقة أكثر بكثير من خدمات التخزين البسيطة.

ولكن، لماذا يستهلك الذكاء الاصطناعي الكثير من الطاقة؟

يفند محللون العوامل التي تقود الى استخدام طاقة مرتفعة في الذكاء الاصطناعي ومراكز بياناته، منها على سبيل المثال لا الحصر:

– التدريب: تدريب نموذج ذكاء اصطناعي كبير مثل GPT أو DALL·E يتطلب مئات الآلاف من وحدات المعالجة الرسومية (GPUs) التي تعمل لأيام أو أسابيع.

– التشغيل: حتى بعد التدريب، كل مرة تستخدم فيها النموذج، يتم تشغيل خوارزميات معقدة تحتاج إلى طاقة كبيرة.

– التخزين والمعالجة: البيانات الضخمة التي تُستخدم لتغذية الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى تخزين ومعالجة مستمرة.

قواعد جديدة لإدارة الطاقة

لمواكبة هذا التحدي، تحتاج أنظمة الكهرباء بشكل عاجل إلى قواعد جديدة تتجاوز الأطر التقليدية، بحسب أوراق بحثية عدة في هذ الموضوع. ويجب أن تركز هذه القواعد على محاور رئيسية، في مقدمتها الكفاءة في استهلاك الطاقة. كما أنه على الجهات التنظيمية وضع معايير صارمة لكفاءة مراكز البيانات، مثل مقياس “فعالية استخدام الطاقة”، الذي يشجع على استخدام تقنيات تبريد وأجهزة أكثر كفاءة.

كما يجب التركيز على دمج مصادر الطاقة المتجددة. بما أن مراكز البيانات تتطلب كميات هائلة من الطاقة، فإن تشغيلها بالطاقة المتجددة يعد ضرورة حتمية لتحقيق الاستدامة. يجب أن تشجع القواعد الجديدة على بناء مراكز بيانات قريبة من محطات الطاقة الشمسية أو الرياح، مع ضرورة التعامل مع تحدي التوليد المتقطع لهذه المصادر من خلال دمج أنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات.

يُعدّ إدارة الطلب على الطاقة محوراً مهماً أيضاً. يمكن لشركات الكهرباء ومراكز البيانات العمل معاً لتطوير آليات مشتركة لإدارة الطلب، حيث يمكن لمراكز البيانات أن تقلل من استهلاكها في أوقات الذروة مقابل حوافز مالية، مما يساعد على تخفيف الضغط عن الشبكة ويمنع الانقطاعات. بالإضافة إلى ذلك، يجب على مشغلي المراكز توفير الشفافية في البيانات حول استهلاكهم، مما يساعد مخططي الشبكات الكهربائية على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الاستثمار في البنية التحتية المستقبلية.

حلول لمواجهة التحدي

تظهر العديد من الحلول المبتكرة لمواجهة هذه التحديات. من أبرز هذه الحلول مراكز البيانات الخضراء التي يتم تصميمها لتقليل بصمتها البيئية من خلال استخدام تقنيات التبريد السائل المتقدمة، وتحسين إدارة تدفق الهواء، واستغلال الحرارة الناتجة عن الخوادم.

كذلك، توفر الأنظمة الهجينة لتوليد الطاقة مرونة أكبر في الاعتماد على مزيج من مصادر الطاقة المختلفة، مثل الطاقة الشمسية أو الرياح، بالإضافة إلى شبكة الكهرباء الرئيسية وأنظمة تخزين البطاريات. ومن المفارقات، يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي نفسه في حل جزء من المشكلة، حيث يمكن للخوارزميات الذكية أن تحلل البيانات في الوقت الحقيقي لتحسين توزيع الطاقة داخل مركز البيانات، والتنبؤ بالزيادات في الطلب على المدى القصير، مما يعزز الكفاءة العامة.

في الختام، يمثل تزايد الطلب على الطاقة من قبل مراكز البيانات تحولًا جذريًا في كيفية إدارة أنظمة الكهرباء. لم يعد الأمر يقتصر على بناء محطات توليد جديدة، بل أصبح يتطلب إعادة التفكير في القواعد والنماذج التشغيلية والتعاون بين قطاعي التكنولوجيا والطاقة. وفي ظل المشهد الرقمي المتزايد، فإن التعامل مع استهلاك الطاقة في مراكز البيانات يظل تحدياً بالغ الأهمية، حتى لا تصبح الطاقة عائقاً حقيقياً أمام تطور الذكاء الاصطناعي.