بكين ترى في اللحظة الراهنة فرصة نادرة لتسريع حملتها الرامية إلى إعادة تشكيل التجارة الدولية
* تراجع الثقة الدولية بالدولار الأميركي حيث انخفض مؤشره بأكثر من 9 في المائة هذا العام
* خطط لإنشاء مركز لتدويل اليوان الرقمي في شنغهاي
*بنك الشعب الصيني يبدأ بإجراءات وتدابير لتعزيز استخدام اليوان خارجياً
في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، تتجه أنظار العالم نحو محاولات الصين الحثيثة لتدويل عملتها، اليوان (الرنمينبي)، بهدف تقليص هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي. وتسعى بكين إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي من خلال إيجاد بديل أو منافس للدولار الذي طالما كان العملة الاحتياطية والوسيط الرئيسي للتجارة والاستثمارات الدولية.
ومع تراجع الثقة الدولية بالدولار الأميركي حيث انخفض مؤشره بأكثر من 9 في المائة هذا العام، تعمل الصين على تطوير اجراءات وتدابير للمؤسسات الأجنبية لاستخدام اليوان. ومنها مثلاً ان بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) بدأ يبحث في كيفية الحد من الاعتماد المفرط على عملة سيادية واحدة، فيما أعلن عن خطط لإنشاء مركز لتدويل اليوان الرقمي في شنغهاي، وتعزيز تداول العقود الآجلة للعملات الأجنبية. كما تم إطلاق نظام دفع سريع في هونغ كونغ يسمح بتحويل المدفوعات باليوان أو دولار هونغ كونغ إلى البر الرئيسي للتجارة والخدمات، مما يُعزّز تكامل السوقين.
وفي هذا الوقت، في ظل تصاعد الانقسامات في منظومة التجارة العالمية والتوترات الجيوسياسية التي دفعت إلى إعادة تقييم تدفقات الأموال عالمياً، بات القائمون على إدارة احتياطيات البنوك المركزية حول العالم، والتي تقدر

بتريليونات الدولارات، يتجهون إلى تقليص اعتمادهم على الدولار الأميركي لصالح الذهب واليورو واليوان الصيني.
لكن السؤال يظل: هل ستمتلك الصين القدرة على تحقيق هذا الهدف الطموح، وما هي أبرز التحديات التي تواجهها في هذه المسيرة الطويلة والشاقة؟
طموحات بكين
تتصاعد الجهود الصينية لتدويل اليوان مدفوعة برغبة في تقليل الاعتماد على الدولار، خاصة في ظل التوترات التجارية والجيوسياسية المتزايدة. وترى بكين في اللحظة الراهنة فرصة استراتيجية نادرة لتسريع حملتها الرامية إلى إعادة تشكيل التجارة والتمويل العالميين.
وتشمل استراتيجية الصين لتعزيز مكانة اليوان عدة محاور رئيسية:
- تسهيل تدفقات رأس المال وفتح الأسواق المالية: تعمل الصين على تخفيف القيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال وفتح أسواقها المالية بشكل أوسع لجذب المستثمرين الأجانب. هذا يتضمن زيادة حصص الاستثمار للأفراد المحليين في الأوراق المالية الخارجية، مما يزيد من تداول اليوان دولياً. كما تسعى لإطلاق منتجات مالية جديدة لجعل الاستثمار في الأصول المقومة باليوان أكثر جاذبية.
- تطوير أنظمة الدفع عبر الحدود: تعد أنظمة الدفع إحدى الركائز الأساسية لتدويل العملة. وكانت الصين أطلقت في عام 2015 نظام المدفوعات البينية عبر الحدود باليوان والذي يوفر خدمات المقاصة والتسوية للمعاملات باليوان عبر الحدود، ولديه أيضًا قدرات مراسلة تنافس نظام سويفت. وقد شهد هذا النظام توسعاً ملحوظاً ليشمل المزيد من البنوك الأجنبية، ووصلت مشاركته حالياً إلى مراكز اليوان الخارجية في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وسنغافورة، مما يعزز تسويات اليوان في المعاملات التجارية الصينية العابرة للحدود.
- تعزيز استخدام اليوان الرقمي : تولي الصين اهتماماً كبيراً لليوان الرقمي كأداة لتعزيز التدويل، وتخطط لإنشاء مركز عمليات دولي لليوان الرقمي في شنغهاي، بهدف تعزيز فائدة العملة عالمياً وتقليل الاعتماد على العملات الدولية المهيمنة. وقد بدأ برنامج اليوان الرقمي التجريبي في عام 2020 وتوسع ليشمل 12 مدينة ومنطقة.
- تشجيع تسوية التجارة الثنائية باليوان: تحث الصين الدول الأخرى على استخدام اليوان في تجارتها الثنائية معها. على سبيل المثال، في مارس (آذار) 2023، أعلنت عن اتفاق مع البرازيل لاستخدام اليوان الصيني والريال البرازيلي بدلاً من الدولار الأميركي لتسوية التجارة بين البلدين. كما زادت نسبة قروضها الخارجية المقوّمة باليوان من حوالي 15 في المائة في عام 2021 إلى ما يقرب من 40 في المائة في عام 2024، مع التركيز بشكل خاص على آسيا.
- تطوير أسواق السندات باليوان خارج البر الرئيسي: شهدت سوق “سندات ديم سوم” (Dim Sum bonds) المقوّمة باليوان والصادرة في هونغ كونغ نمواً ملحوظاً، إلى جانب إطلاق “سندات فورموزا” في تايوان. تهدف هذه الخطوات إلى توفير المزيد من الأدوات المالية للمستثمرين الأجانب للاحتفاظ باليوان.
تحديات ضخمة
على الرغم من الطموحات الصينية والجهود المبذولة، فإن طريق اليوان ليحل محل الدولار كعملة احتياطية عالمية طويل ومليء بالتحديات الهيكلية والمؤسسية. ومن هذه التحديات، عمق وسيولة الأسواق المالية الأميركية القائمة على الدولار، والتي تتمتع بسيولة وعمق لا مثيل لهما، مما يسمح بتحويل مبالغ ضخمة من الأموال بأقل تأثير على أسعار العملات أو الأصول. في المقابل، تفتقر أسواق اليوان إلى هذا المستوى من السيولة والعمق، وهو أمر ضروري لأي عملة تطمح لتكون عملة احتياطية عالمية تستطيع تلبية احتياجات المستوردين والمصدرين والمستثمرين على مدار الساعة.
كما تُعد ضوابط رأس المال الصارمة التي تفرضها الصين عقبة كبرى أمام تدويل اليوان. فالسماح بحرية حركة الأموال من البلاد وإليها أمر حيوي لجذب المستثمرين الأجانب. وتلتزم الصين بمبدأ “الثالوث المستحيل”، حيث تحافظ على ربط شبه ثابت لسعر صرف اليوان بسياسة نقدية مستقلة، ولكنها تضحي بحرية حركة رأس المال. هذا التقييد يجعل اليوان غير مناسب كبديل احتياطي عالمي، حيث يحتاج المستثمرون إلى القدرة على تحويل العملة بسهولة.
كذلك، يُشكل غياب الشفافية في المؤسسات المالية الصينية، إلى جانب طبيعة النظام السياسي الذي يمنع وجود ضوابط وتوازنات رسمية على المؤسسات المالية المملوكة للدولة، مصدر قلق للمستثمرين الأجانب. تفتقر الصين إلى سجل طويل من الاستقرار والثقة الذي تتمتع به الولايات المتحدة، مما يجعل المستثمرين يفضلون الأصول المقومة بالدولار كملاذ آمن.
وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من النمو الاقتصادي الهائل للصين، يرى بعض المحللين أن اقتصادها لم يصل بعد إلى مرحلة النضج الكامل ليتمكن من دعم عملة احتياطية عالمية. إذ أن هذه المكانة تتطلب اقتصاداً متطوراً ومتنوعاً وقادراً على استيعاب الصدمات العالمية.
وفي الداخل، يمكن أن تواجه جهود تدويل اليوان معارضة من قطاعات في الصين، مثل قطاع التصنيع الضخم، الذي قد يتأثر سلباً بارتفاع قيمة اليوان. كما أن التدويل الكامل قد يقيد قدرة بنك الشعب على إدارة السياسة النقدية بما يخدم المصالح المحلية.
هيمنة الدولار: أرقام تتحدث
يُظهر الدولار الأميركي حالياً هيمنة واسعة النطاق على النظام المالي العالمي. وبالنظر إلى بيانات التجارة والمعاملات الخاصة بالدولار الأميركي خلال السنوات العشر الماضية، حافظت العملة حتى الآن على دورها المحوري في الأسواق الدولية. وتبلغ حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حوالي الربع، بينما تبلغ حصة البلاد في التجارة العالمية في السلع والخدمات التجارية أقل، حيث تشكل حوالي 11 في المائة.
في نهاية العام 2024، كانت ما نسبته 58 في المائة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية بالدولار الأميركي. وفي يونيو (حزيران) 2025، بلغت مدفوعات سويفت الدولية بالدولار الأميركي حوالي 48 في المائة من إجمالي المدفوعات، بزيادة تزيد عن 3 نقاط مئوية منذ يونيو (حزيران) 2014. أما اليوان الصيني، المنافس للدولار، فقد بلغ 4.5 في المائة فقط من إجمالي المدفوعات الدولية.
و تشير بعض التقارير إلى أن نسبة المدفوعات باليوان في التجارة السلعية الصينية وصلت إلى 30 في المائة في يناير (كانون الثاني) 2025، وأن اليوان قد تجاوز الدولار في تسويات المعاملات الصينية العابرة للحدود في السنوات الأخيرة، لكن هذا لا يعكس حصته في التجارة العالمية ككل.
طريق طويل وشاق
إن طموحات الصين لتدويل اليوان وتحدي هيمنة الدولار أمر مفهوم في سياق سعيها لتعزيز نفوذها العالمي. وقد أظهرت بكين جدية في هذا المسعى من خلال إصلاحات مالية، وتطوير أنظمة دفع، وتشجيع الاستخدام العالمي لعملتها. ومع ذلك، فإن المعوقات الهيكلية الكبيرة، أبرزها ضوابط رأس المال المحدودة، ونقص عمق وسيولة الأسواق المالية، وبعض المخاوف المتعلقة بالشفافية والحوكمة، تشكل تحديات هائلة أمام اليوان ليحل محل الدولار كعملة احتياطية عالمية.
وعلى الرغم من أن التوترات الجيوسياسية قد تدفع بعض الدول للبحث عن بدائل للدولار، إلا أن شبكة الأسواق المالية الأميركية الراسخة، وموثوقية النظام القانوني، وحجم الاقتصاد الأميركي، تمنح الدولار ميزة تنافسية يصعب تجاوزها في المدى القريب أو المتوسط. ومن المرجح أن يستمر اليوان في النمو التدريجي كعملة للتجارة الإقليمية والاستثمار، لكن تحقيق مكانة الدولار المهيمنة سيتطلب إصلاحات جوهرية في النظام المالي الصيني، وتحولات جيوسياسية أعمق وأكثر استدامة. حتى ذلك الحين، سيظل الدولار هو الملك المتوج للنظام المالي العالمي.