باكستان-السعودية: مظلة نووية تغيّر الشرق الأوسط 

اتفاق استراتيجي للدفاع المشترك بعد أيام على قصف الدوحة 

رغم العلاقات القديمة بين السعودية وباكستان، ورغم التعاون العسكري المعروف بين البلدين، لم تذهب الرياض وإسلام أباد إلى رفع سقف العلاقات التاريخية بين النظامين السياسيين إلى المستوى التحالف العسكري الدفاعي الشامل خلال عقود من التحالف ومواجهتهما لاستحقاقات دولية وإقليمية مشتركة. بدا أن دوافع ملحّة وعاجلة دفعت الطرفين إلى الانتقال إلى تطوّر من شأنه اللعب بالتوازنات الاستراتيجية للشرق الأوسط،  كما بالتوازنات الدولية القائمة وفقها. أبرم البلدان “اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك”، فما حيثيات الحدث وخلفياته، وما تداعياته على المشهدين الإقليمي والدولي؟ 

معطيّات الحدث: 

في 17 أيلول / سبتمبر 2025، وقّع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، في الرياض، اتفاقية دفاع استراتيجي مشترك، تشدد مضامينها على أن أي هجوم خارجي مسلح على باكستان أو السعودية يعد هجوماً على كليهما. اعتُبر الحدث مفاجئا لم ترصده توقعات سابقة، فيما يعتبر مراقبون أن “اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك” هي تكامل تاريخي بين البلدين تعزز  قدراتهما الدفاعية للردع المشترك، بما يحقق أمنهما واستقرارهما. كما تعد الاتفاقية الدفاعية حقاً سيادياً للبلدين شأنها شأن الاتفاقيات الدفاعية الدولية القائمة في الوقت الحاضر. 

ووفق بيان مشترك، تأتي الاتفاقية “في إطار سعي البلدين إلى تعزيز أمنهما وتحقيق الأمن والسلام في المنطقة والعالم، وتهدف إلى تطوير جوانب التعاون الدفاعي، وتعزيز الردع المشترك ضد أي اعتداء، وتنص هذه الاتفاقية على أن أي اعتداء على أي من البلدين هو اعتداء على كليهما”. وتستند الاتفاقية على عقود من التعاون والعلاقات العسكرية القديمة والمستمرة. وكانت تقارير تحدثت أن بناء القنبلة النووية الباكستانية جرى بمساهمة سعودية تمويلية أساسية، ما عدّه الخبراء شراكة مستترة في البرنامج النووي الباكستاني. 

نعود بالتاريخ إلى عام 2019 حين شكلت زيارة ولي العهد السعودي إلى إسلام آباد محطة فارقة إثر الإعلان عن إنشاء مجلس التنسيق الأعلى السعودي – الباكستاني، وتوقيع اتفاقيات استثمارية تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار. عكست الخطوة رؤية مشتركة لتطوير العلاقات لتصل إلى التحالف الدفاعي عام 2025. لكن اللافت أنه في 17 أيلول / سبتمبر الماضي، نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول سعودي أن اتفاقية الدفاع الاسترايجي المشترك مع باكستان “اتفاقية دفاعية شاملة تشمل جميع الوسائل العسكرية”. أوضح المسؤول أن “الاتفاقية تعكس تعاونا طويل الأمد بين البلدين، وليست استجابة لأحداث محددة”. 

اعتبر معلقون إن تسريب الإشارة إلى شمول الاتفاقية جميع الوسائل العسكرية يهدف إلى تأكيد إدراج تدخل الأسلحة الاستراتيجية، بما فيها النووية الباكستانية، لرد أي خطر تتعرض له السعودية. ويقول خبراء إن السعودية حرصت على التأكيد على أن هذا الاتفاق غير موجه إلى طرف معيّن. ويعني ذلك خصوصا أن الرياض ستحرص على ألا يشكل الاتفاق مع باكستان أي استفزاز للهند (خصم باكستان التاريخي) أو تراجعا في علاقات الرياض ونيودلهي. 

لكن في 18 أيلول / سبتمبر 2025، أي بعد يوم من الإعلان عن الاتفاقية بين البلدين، قال المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الهندية راندهير جايسوال في منشور على موقع إكس إن الهند على علم بالتطور، مضيفا أنها ستدرس تداعياته على أمن نيودلهي والاستقرار الإقليمي. فيما نقلت “رويترز” عن “المسؤول السعودي ضرورة التوازن في العلاقات مع الهند. 

المظلة النووية الباكستانية: 

تقول جهات بحث أنه، رغم العلاقات التاريخية الحميمة بين السعودية وباكستان، لم تلجأ الرياض إلى ترقية علاقاتها مع إسلام أباد إلى مستوى تحالف الدفاع المشترك، ما يكشف عن ارتفاع مستوى التوجسات الأمنية التي تستوجب إجراء غير مسبوق. 

وتضيف هذه المصادر أنه، على الرغم من أن التوصل إلى هذه الاتفاقية يستوجب مفاوضات طويلة الأمد وأن سياق إنضاج هذا القرار احتاج إلى دراسة سابقة، لا يمكن فصل توقيت إبرام الاتفاق عن حدث القصف الذي نفذته إسرائيل على الدوحة في  9 أيلول / سبتمبر 2025. 

وتنقل المصادر معلومات تقول إن ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الباكستاني عقدا اجتماعا على هامش القمة العربية الإسلامية في الدوحة في15 أيلول / سبتمبر 2015، وأن تشاورهما قاد إلى قرار إبرام الاتفاق بعد يومين في الرياض. وترى مراجع مراقبة أن الحدث قد يعبّر عن واقع فقدان ثقة حقيقي لدى السعودية وكافة دول الخليج بإرادة الولايات المتحدة على توفير ضمانات أمنية للمملكة والمنطقة حين تكون إسرائيل مصدر الخطر. 

تؤكد هذه المراجع الطابع الحازم والسريع في ردّ فعل الرياض من خلال إبرام الاتفاق بعد 8 أيام من قصف الدوحة، كإجراء ردع عاجل وشامل ضد إسرائيل، وكرسالة استراتيجية لافته للولايات المتحدة. وترى مصادر دبلوماسية أن الاتفاقية تمثّل تقليلا من أهمية تعويل سابق للسعودية على إبرام اتفاق استراتيجي أمني مع الولايات المتحدة علّقت التفاوض بشأنه في أواخر عهد الرئيس جو بايدن، على الرغم من إسقاط واشنطن ربط الأمر باتفاقية تطبيع بين السعودية وإسرائيل. وتعتقد هذه المصادر أن السعودية ودول خليجية أخرى ستذهب إلى اتّخاذ إجراءات أخرى أو مشابهة لتوفير أدوات الردّع المناسبة والعاجلة ضد إسقاط حكومة نتنياهو خطوط حمر في قواعد الأمن والدفاع في المنطقة. 

ترى جهات بحث باكستانية أن الاتفاقية مع السعودية تمدد المظلة النووية الباكستانية فوق السعودية وتجعل من باكستان عاملا جديدا داخل صراعات الشرق الأوسط، كما تحوّل باكستان إلى لاعب إقليمي مهم في مستقبل المنطقة. ويعتقد مراقبون أن الأداء العسكري المتقدم الذي أفرج عنه الجيش الباكستاني أثناء المواجهات التي اندلعت مع الهند في أيار / مايو 2025، كشف عن امتلاك باكستان قدرات عسكرية وتكنولوجية متقدمة تنقل القدرات العسكرية الباكستانية إلى مصاف يمكن للسعودية ودول إقليمية أخرى التعويل عليها. 

وبالنظر إلى وصف سابق للسلاح النووي الباكستاني، بأنه “القنبلة السنّية النووية”، دعا محللون إلى وضع الاتفاق الدفاعي مع السعودية في سياق تحوّلات في المنطقة كان أهمها سقوط النظام السوري السابق وتراجع نفوذ إيران الإقليمي. ويلفت هؤلاء إلى أن هذا التحوّل سهّل عقد الاتفاق من دون أن يشكّل الحدث استفزازا لإيران بسبب علاقته بتوجس الأطراف من التغوّل الإسرائيلي. 

واجهات الاتفاق ومعانيه: 

رصد خبراءومن خلال الاتفاق السعودي الباكستاني في مسائل الدفاع والأمني الذي يشمل كافة الأسلحة، بما فيها ضمنا السلاح النووي،  العلامات والمفاعيل التالية: 

1-الاتفاق يتوّج علاقة باكستانية سعودية تاريخية مستمرة، لكن لتوقيته علاقة بانقلاب في قواعد الأمن الاستراتيجي بعد القصف الإسرائيلي للدوحة. 

2-الاتفاق يدخل باكستان طرفا مباشرا في دعم السعودية والدفاع عن موقعها وأمنها وخياراتها الجيوستراتيجي. 

3-الاتفاق يوجه، بشكل غير مباشر، أول صفعة للتفوق الاستراتيجي الإسرائيلي الذي تمّ التعبير عنها منذ اندلاع حرب غزّة. 

4-الاتفاق يمدد المظلة النووية الباكستانية صوب السعودية، ويترجم تقارير سابقة عن مساهمات مالية سعودية كانت أساسية لبناء البرنامج النووي الباكستاني. 

5-الاتفاق يحرّك موازين القوى في الشرق الأوسط، ويثير قلق الهند، وسط حرص سعودي على عدم الإضرار بعلاقات الرياض مع نيودلهي. 

6-الاتفاق ردّ فعل حازم على حالة عدم الثقة التي اجتاحت السعودية ودول الخليج في التعويل على الضمانات الأميركية الأميركية، خصوصا إذا كان مصدر الخطر إسرائيل. 

7-بالنظر إلى علاقات باكستان المتقدمة مع الصين، فإن الاتفاق قد بعني أيضآ تمددا صينيا بالواسطة إلى مسائل الأمن في الشرق الأوسط، والتي تتعامل معها بكين بحذر بسبب الحساسية الأميركية-الإسرائيلية. 

8-تراجع نفوذ إيران وسقوط النظام السوري وتعاظم الخطر الاستراتيجي وضع تمدد “القنبلة النووية السنيّة” التي يتيحها الاتفاق في سياق لا يستفز إيران. 

9-الاتفاق يوجه رسالة قاسية إلى واشنطن مفادها عدم تعويل الرياض على اتفاق أمني استراتيجي مع واشنطن لطالما واجه تقييدات في الكونغرس ورهنه باتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل. 

قرار وليّ العهد السعودي: 

وجد معلّقون وجه شبه بين حدث “اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك” بين السعودية وباكستان وطباع وليّ عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان. لا أعراض كانت تتيح استشراف الحدث. ولا حاجة لتسريبات مسبقة توحي بالشيء من دون وقوعه. والحكمة في مدارة الحوائج بالكتمان. كان الأمير الشاب أثار قبل سنوات مسألة “الوقت”، وتوقه إلى حرق المراحل من أجل خدمة بلده والمنطقة برمتها. غضبت العواصم من إثم ارتكبته إسرائيل ضد عاصمة خليجية. انطلقت راجمات المواقف والتصريحات، “كالمعتاد”، مندّدة مستنكرة. وحده الأمير محمد أخرج من عباءته الوجهة والقرار. 

والأرجح أن الرياض وأمير البلاد شعرا بأن الوقت بات داهما ويحتاج إلى إجراء داهم عالي المستوى ومن “خارج الصندوق”. بدا قصف الدوحة جرس إنذار لكل دول الخليج، وبخاصة السعودية، يتوعد بذهاب حكومة إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو إلى أبعد سقف لفرض واقع ما بعد “طوفان الأقصى” على “كل المنطقة”، بلدا بلدا. ولا شجاعة وبأس في ذلك الإفراط الإسرائيلي. فإسرائيل تستغل بإفراط لحظة دولية نادرة وفّرت لنتنياهو وصحبة الدعم والتأييد والتضامن. زحف زعماء المنظومة الغربية لمواساة إسرائيل في “مصابها”، فيما استكانت دول كبرى مثل روسيا والصين، ولم تشكل ودول الجنوب رافعة مضادة. فوق ذلك جاء دونالد ترامب ليزيد على “العربدة” جرعات لا سقف لها، يشهد أهل غزّة هذه الأيام ساعتها الكارثية القاتلة. 

في لحظة ما بعد “مصاب الدوحة” في 9 أيلول / سبتمبر 2025، أنهى وليّ العهد السعودي سنوات من التعويل التقليدي على اتفاق أمني استراتيجي مع الولايات المتحدة. أسقط “حدث الدوحة” الخيار الأميركي. بات من الضرورة للسعودية وكل دول الخليج استخلاص العبر واستنتاج أن “الضمانات الأميركية” تسقط حين تكون إسرائيل مصدر الخطر. لم يخفَ على الرياض أن واشنطن كانت شريكة وضالعة بما أصاب العاصمة القطرية، حتى لو أقسمت الإدارة بارتباك صبياني أنها “لم تكن تعلم”. لا بأس من قمّة عربية إسلامية. ولا بأس من نصّ شامل يُسجل موقفا عربيا إسلاميا يبعث برسائل جديدة إلى الحاكم في البيت. لكن بوصلة الرياض باتت مصوّبة نحو وجهة أخرى. هو الشرق، لا سيما في بعده الإسلامي الذي تمّ تجاهله طويلا في حسابات الأمن الاستراتيجي العربي. 

السعودية شريكة في صناعة قنبلة باكستان: 

تمتلك السعودية مع باكستان علاقات عتيقة تاريخية. تَشَاركَ البلدان في مواجهة استحقاقات وتحديات مرت على العالم خلال القرن الأخير. تطوّرت علاقتهما العسكرية، لكن تقارير أفشت أن السعودية وقفت ماليا خلف البرنامج النووي الباكستاني. يغمز العارفون أن السعودية شريك خفي في صناعة تلك القنبلة النووية التي تصفها مراجع الاختصاص بأنها “القنبلة السنّية”. كانت واشنطن تعرف. لم تجد في الأمر ضيراً في ظروف وشروط الحرب الباردة. ولم يحصل أن أثار الأمر جلبة، طالما أن قنبلة باكستان بقيت في باكستان، ولم يصدف أن تسرّب من الرياض ما يوحي بخطط لاستدراجها. 

والأرجح أن فكرة دمج دفاعات البلدين تخالج قيادة البلدين منذ سنوات. كانت حسابات السعودية وباكستان وحساسية أجندتهما في دوائرهما الإقليمية والدولية تحول دون اندفاعة غير محسوبة. في أيار/ مايو2025 أبلت باكستان بلاء مدهشا مفاجئا في ردّ الهجوم الهندي الواسع. أفرجت باكستان عن كفايات عسكرية ممتازة وعن امتلاكها تكنولوجيات متقدمة وأسلحة حديثة داهمت الطرف الهندي. كان على دونالد ترامب في واشنطن أن يتدخل بقوة لوقف حرب لا سيطرة على نتائجها. صدف حينها أن ابتسمت الصين حليفة باكستان ومورّدة سلاحها، مبتهجةً من نصر لم تسعَ إليه. قبل ذلك في نيسان الماضي أبرم الزعيم التركي، رجب طيب أردوغان، في باكستان اتفاقا مشتركا لتصنيع أسلحة استراتيجية منها طائرة مقاتلة من الجيل الخامس. باتت باكستان رقما صعبا. 

صحيح أن اجتماع الدوحة بين ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الباكستيني في الدوحة أسس لتدبير الانعطافة وربما لدوافع سعودية أمنية داهمة، لكن باكستان كانت جاهزة، وربما تنتظر هذه الفرصة التاريخية، بحيث باتت من خلال الرياض دولة نووية إقليمية تدخل مشهد الشرق الأوسط من الباب العريض. نقلت “رويترز” عن مسؤول سعودي كبير أن الاتفاق يعني أن “كل بلد ملزم بالدفاع عن البلد الآخر إذا ما تعرّض لهجوم مسلح”. هذا من بديهيات الأحلاف الدفاعية. وهذا تماما ما تنصّ عليه المادة الخامسة الشهيرة لحلف شمال الأطلسي. لكن المسؤول السعودي يضيف تفصيلا هو بيت القصيد: اتفاق الدفاع الاستراتيجي بين السعودية وباكستان “يشمل جميع الوسائل العسكرية”. كان من الضرورة إبراز هذا المعطى من بين سطور نصّ الاتفاق. ولمن فاتته القراءة، فإن المظلة النووية الباكستانية باتت تمتد فوق المملكة. 

الهند أبدت قلقا. الرياض تعهدت أن لا ينال الاتفاق من علاقاتها الممتازة مع نيودلهي. إيران تتأمل ذلك التحوّل بعد نكستها في سوريا. في واشنطن يقرؤون الخبر ويجهدون في فهم دينامية انزلاق الأمور إلى خطوط كانت تحت السيطرة. وحدها إسرائيل تلقت الصفعة. الحدث يقلب موازين القوى. ينهي، أو يخط مسارا لإنهاء، حالة التفوّق الاستراتيجي التي تهيمن بها إسرائيل على كل المنطقة. تعيد الرياض وتكرر: “هو اتفاق دفاعي”. لن تجده إسرائيل دفاعيا. بات عليها أن تتعامل مع هذا المعطى الذي يخلّط الأوراق ويغيّر قواعد الاشتباك. بالمقابل، ولأول مرة، بات على السعودية وباكستان، معا، أن يرسما قواعد اللعبة الجديدة. 

من جهة أخرى سمح هذا الاتفاق أن تدخل باكستان من الباب السعودي إلى الشرق الأوسط وقضاياه. بات على اللاعبين في المنطقة أن يأخذوا هذا المعطى بعين الاعتبار. وبات على إسرائيل خاصة أن تدرك أن المظلة النووية الباكستانية تمددت فوق الشرق الأوسط، ليس فقط للدفاع عن السعودية كما ينص الاتفاق بين البلدين، بل أن هذا المعطى جعل من قنبلة باكستان ندّا للسلاح النووي الإسرائيلي المسكوت عنه منذ عقود. 

طهران-واشنطن: المعطى الجديد: 

واللافت أيضا أن هذا المعطى الجديد يغير من موازين القوى لصالح قواعد مختلفة عما كانت تعمل إيران في استراتيجياتها الإقليمية عليه منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. فباكستان التي تحدّ إيران شرقا باتت فاعلة في قلب الشرق الأوسط الذي سعت طهران خلال العقود الأخيرة لفرض معادلاتها عليه. وهنا يجب التذكير أن بين باكستان وإيران فصول من التوتّر الايديولوجي والحدودي. وبرزت واجهاته الخطير في الردّ الواسع والمركّز والعنيف الذي نفذته باكستان ضد إيران إثر قيام الأخيرة بقصف في 16 كانون الثاني / يناير 2024 ضد جماعة بلوشيستانية تعتبرها إيران إرهابية. ردت باكستان في 18 من نفس الشهر بغارات جوية وصاروخية مستهدفة مخابئ لجماعات بلوشية معارية لباكستان. 

رحبت إيران باتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين باكستان والسعودية. اعتبرتها خطوة بناءة نحو نظام إقليمي أمني شامل يشمل الدول الإسلامية في غرب آسيا. ودعت إلى انضمامها إليها مع دول أخرى مثل العراق لتعزيز التعاون الدفاعي ضد التدخلات الخارجية.  

لكن إيران رغم ذلك ترتاب من تطوّر العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية المعروفة بين الرياض وإسلام أباد إلى تحالف متجذّر تاريخيا قد يفرض شروطه على المنطقة ويقوّض خطط إيران لفرض هيمنة حاولتها من خلال سياسات عملت عليها بدأب داخل دول مجلس التعاون الخليجي، لكن أيضا في لبنان وسوريا والعراق اليمن. 

اللافت أن المعطى الجديد لم يستدرج موقفا أميركيا سلبيا أو متحفّظا. في بعض التفسيرات أن هذا التحالف الدفاعي بين البلدين يخفّف من إنخراط الولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط ، لا سيما بالشق المتعلّق بتوفير الضمانات الدفاعية لبعض الدول الحليفة. واللافت أيضا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد دعا قادة باكستان إلى جانب أندونيسا لحضور الاجتماع الذي عقد في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 27 أيلول / سبتمبر 2025، والذي ضمّ الدول المهمة المنخرطة بالصراع الفلسطيني لا سيما الحرب في غزة، أي السعودية ومصر وقطر والأردن والإمارات وتركيا.  

وقد بحث الاجتماع خطّة ترامب لوقف الحرب في غزّة، والتي أعنها في 30 أيلول / سبتمبر 2025، أي بعد 3 أيام من اجتماعه مع القادة العرب والمسلمين. ولئن أفادت مراجع أميركية أن دعوة ترامب لأندونيسيا وباكستان جاءت لأهميتهما السياسية والديمغرافية في العالم الإسلامي وللحصول على مظلة إسلامية وازنة لخطّته، غير أن مراقبين اعتبروا أن دعوة باكستان، بعد أسابيع على إبرامها والسعودية الاتفاق الدفاعي الاستراتيجي المشترك، اعتراف من ترامب والولايات المتحدة بالمعطى الجديد، كما الاعتراف بأن إسلام أياد أضحت لاعبا نهائيا في قضايا الشرق الأوسط، وبلدا مقرّرا في مستقبل غزّة كما مستقبل القضية الفلسطينية على قدم وساق مع باقي الدولة المعنيّة . 

وفق بيان مشترك، تأتي الاتفاقية “في إطار سعي البلدين إلى تعزيز أمنهما وتحقيق الأمن والسلام في المنطقة والعالم، وتهدف إلى تطوير جوانب التعاون الدفاعي، وتعزيز الردع المشترك ضد أي اعتداء، وتنص هذه الاتفاقية على أن أي اعتداء على أي من البلدين هو اعتداء على كليهما”. 

 تستند الاتفاقية على عقود من التعاون والعلاقات العسكرية القديمة والمستمرة. وكانت تقارير تحدثت أن بناء القنبلة النووية الباكستانية جرى بمساهمة سعودية تمويلية أساسية، ما عدّه الخبراء شراكة مستترة في البرنامج النووي الباكستاني. 

اعتبر معلقون إن تسريب الإشارة إلى شمول الاتفاقية جميع الوسائل العسكرية يهدف إلى تأكيد إدراج تدخل الأسلحة الاستراتيجية، بما فيها النووية الباكستانية، لرد أي خطر تتعرض له السعودية. 

حرصت السعودية على التأكيد على أن هذا الاتفاق غير موجه إلى طرف معيّن. ويعني ذلك خصوصا أن الرياض ستحرص على ألا يشكل الاتفاق مع باكستان أي استفزاز للهند (خصم باكستان التاريخي) أو تراجعا في علاقات الرياض ونيودلهي. 

رغم العلاقات التاريخية الحميمة بين السعودية وباكستان، لم تلجأ الرياض إلى ترقية علاقاتها مع إسلام أباد إلى مستوى تحالف الدفاع المشترك، ما يكشف عن ارتفاع مستوى التوجسات الأمنية التي تستوجب إجراء غير مسبوق. 

على الرغم من أن التوصل إلى هذه الاتفاقية يستوجب مفاوضات طويلة الأمد وأن سياق إنضاج هذا القرار احتاج إلى دراسة سابقة، لا يمكن فصل توقيت إبرام الاتفاق عن حدث القصف الذي نفذته إسرائيل على الدوحة في  9 أيلول / سبتمبر 2025. 

أنهى وليّ العهد السعودي سنوات من التعويل التقليدي على اتفاق أمني استراتيجي مع الولايات المتحدة. أسقط “حدث الدوحة” الخيار الأميركي. بات من الضرورة للسعودية وكل دول الخليج استخلاص العبر واستنتاج أن “الضمانات الأميركية” تسقط حين تكون إسرائيل مصدر الخطر. لم يخفَ على الرياض أن واشنطن كانت شريكة وضالعة بما أصاب العاصمة القطرية، حتى لو أقسمت الإدارة بارتباك صبياني أنها “لم تكن تعلم”. 

تمتلك السعودية مع باكستان علاقات عتيقة تاريخية. تَشَاركَ البلدان في مواجهة استحقاقات وتحديات مرت على العالم خلال القرن الأخير. تطوّرت علاقتهما العسكرية، لكن تقارير أفشت أن السعودية وقفت ماليا خلف البرنامج النووي الباكستاني.  

يغمز العارفون أن السعودية شريك خفي في صناعة تلك القنبلة النووية التي تصفها مراجع الاختصاص بأنها “القنبلة السنّية”. كانت واشنطن تعرف. لم تجد في الأمر ضيراً في ظروف وشروط الحرب الباردة. ولم يحصل أن أثار الأمر جلبة، طالما أن قنبلة باكستان بقيت في باكستان، ولم يصدف أن تسرّب من الرياض ما يوحي بخطط لاستدراجها. 

ترتاب إيران من تطوّر العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية المعروفة بين الرياض وإسلام أباد إلى تحالف متجذر تاريخيا قد يفرض شروطه على المنطقة، ويقوّض خطط إيران لفرض هيمنة حاولتها من خلال سياسات عملت عليها بدأب داخل دول مجلس التعاون الخليجي، لكن أيضا في لبنان وسوريا والعراق اليمن. 

دعوة ترامب لباكستان بعد أسابيع على إبرامها والسعودية الاتفاق الدفاعي الاستراتيجي المشترك لحضور اجتماع عربي إسلامي بشأن غزّة هي اعتراف بأن إسلام أياد أضحت لاعبا نهائيا في قضايا الشرق الأوسط وبلدا مقرّرا في مستقبل غزّة كما مستقبل القضية الفلسطينية على قدم وساق مع باقي الدولة المعنيّة .