هل يحتمل لبنان ضغط جمع السلاح و”المنطقة الاقتصادية”؟
ظهرت في منطقة الشرق الاوسط لا سيما في “بلاد الشام” التي تضم لبنان وسوريا وفلسطين و الاردن، تطورات خطيرة تهدد ليس بتغييرخرائطها بل تهدد مستقبلها ومصيرها وثقافتها وتركيبتها الديموغرافية والاجتماعية واقتصادها، بعد الدخول الاميركي المباشر على تفاصيل الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، على إثر الحروب التي اندلعت منذ “طوفان الاقصى” قبل اكثرمن سنتين، مروراً بحرب “إسناد غزة” في لبنان، والمتغيرات في سوريا، وصولاً الى الحرب الاسرائيلية- الايرانية قبل اشهر قليلة، والتي اعتبر ثنائي اميركا- اسرائيل انه خرج منتصراً فيها، وحقق الكثير

من اهدافه العسكرية على طريق فرض اهدافه وبرامجه السياسية.
اعلن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتياهو اكثرمن مرة، ان اسرائيل تخوض حروبا لتغيير وجه الشرق الاوسط وخرائطه، وصولا الى ما وصفه تحقيق حلم اقامة”اسرائيل الكبرى” من نهر النيل في مصر الى نهري دجلة والفرات في العراق مرورا ببلاد الشام كلها. ويبدو انه وسّع خريطة “اسرائيل الكبرى” لتشمل دول الخليج العربي ايضا. هذا الحلم السياسي – الاقتصادي- العسكري مستند على حجج واكاذيب الفكر التلمودي التوراتي، معطوفاً على احلام الرئيس الاميركي دونالد ترامب في جعل الشرق الاوسط منطقة اقتصادية واسعة تلبي مصالح اميركا واسرائيل بشكل خاص والدول الحليفة، وتهدد بمحاصرة وتطويق روسيا والصين وايران، ومنع تسويق منتجاتها من الغاز والنفط والسلع الاخرى عبر طرق التجارة القديمة المعروفة، بعد فتح طرق جديدة من الخليج الى البحر الابيض المتوسط عبر الاردن وسوريا ولبنان ومنها الى اوروبا ودول العالم الاخرى.!
بالطبع لم يغب لبنان عن خريطة “اسرائيل الكبرى”، بل هو في قلبها لأنه يقع بين خريطتي فلسطين وسوريا، وهو طريق وممر اساسي بري وبحري وجوي بين شرقي البحر المتوسط وبقية العالم شرقا وغرباً، لذلك كان الضغط الاسرائيلي- الاميركي السياسي والعسكري والاقتصادي عليه اكبر واثقل من ان يحتمل، من خلال ورقة العمل الاميركية التي اعتبرتها واشنطن خريطة طريق لمسار حل الازمات في لبنان وفي التعامل مع تطورات اوضاع المنطقة القائمة على الحروب، والتي عدّل فيها لبنان بما يرى انه يناسب مصلحته ايضا لا مصلحة الكيان الاسرائيلي فقط.
المفارقة ان اعلان نتنياهو “خريطة اسرائيل الكبرى” ومن ضمنها لبنان، لم يلقَ صدى كبيراً مؤثراً لدى اغلب الطبقة السياسية اللبنانية كأنه امر مفروغ منه اومُسلّم به، ومرّ مرور الكرام من دون تعليقات بإستثناء قلة قليلة من المسؤولين السياسيين، ربما لأن الكثيرين يعتقدون ان هذا “الحلم التلمودي التوراتي الاسرائيلي” غير قابل للتطبيق نظراً لطبيعة ظروف المنطقة وانحياز معظم دولها للسياسة الاميركية التي تحمي انظمة هذه الدول، ونظراً لأن المنطقة اصبحت فعلاً تحت المظلة الاميركية ومشاريع تطبيع “الاتفاقات الابراهيمية” ما يلغي عملياً حلم “دولة اسرائيل الكبرى” لأنه يكون قد اصبح مطبّقاً عملياً بدخول الكيان الاسرائيلي رسميا منظومة دول الاقليم سياسيا وامنيا واقتصاديا بعد ما كان منبوذاً منها.
ورقة حل ام ازمة؟
تحوّل الضغط الاميركي – الاسرائيلي على لبنان لتطبيق ورقة العمل الاميركية، الى ورقة خلاف كبير داخل الحكومة اللبنانية وبين القوى السياسية الممثلة فيها وحتى التي خارجها، وتطور الخلاف الى ازمة سياسية هددت تماسك الحكم والحكومة، لأن الضغوط فرضت على الحكومة وبخاصة على رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام الاستعجال في اصدار قرارين قضى الاول بتكليف الجيش اللبناني وضع خطة “لجمع السلاح غير الشرعي وبخاصة سلاح حزب الله وسلاح المخيمات الفلسطينية”، وقضى الثاني بالموافقة على “اهداف ومبادىء الورقة الاميركية”، ولكن القرارين جاءا خلافاً للتوافق الذي جرى بين الرئيسين عون وسلام وبين ثنائي امل وحزب الله، ببحث امر السلاح عبر الحوار الوطني حول وضع استراتيجية امن وطني تحمي لبنان. لكن مع تبني الطرفين معظم البنود الاخرى للورقة لجهة الاصلاحات البنيوية المطلوبة في الادارة والاقتصاد والمالية العامة وهوامر غير مختلف عليه.
ومع اصرار الرئيس سلام على تنفيذ القرارين ورفض الثنائي امل وحزب الله تسليم السلاح من دون ضمانات اميركية ومن دون تنفيذ الكيان الاسرائيلي الخطوات المطلوبة منه في اطار اتفاق وقف الاعمال العدائية، وقعت الازمة، وبدأ العمل على محاولات تدوير الزوايا على الطريقة اللبنانية. ذلك ان ازمة القرارين تحولت حسب مفهوم “الثنائي” ازمة وطنية ميثاقية لأن القرارين تجاوزا مكوناً اساسياً سياسياً وطائفياً في البلاد، وتجاوزا ايضا مفاهيم وثيقة الوفاق الوطني التي وردت في اتفاق الطائف ودستوره.
وامكن التوصل الى مخرج يرضي الطرفين بإعلان مجلس الوزراء اللبناني “الترحيب بخطة الجيش وتبني مطلب البحث في استراتيجية الامن الوطني وربط تنفيذ التزامات لبنان بتنفيذ الاحتلال الاسرائيلي التزاماته”. وبرأي المتابعين لمسار تنفيذ الورقة الاميركية، فإنه مع تأكيد الرئيس نواف سلام ان لبنان ملتزم بأهداف ومبادئ الورقة الأميركية لجهة انتشار الجيش اللبناني في كامل الجنوب وسحب السلاح وما تتطلبه اجراءات ترتيب العلاقة مع سوريا، مقابل انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من المناطق المحتلة ووقف الاعتداءات وإطلاق سراح الأسرى، فإنّ الاجراءات التنفيذية للأهداف والمبادئ في ورقة الموفد الاميركي طوم برّاك سقطت عملياً، نتيجة عدم التزام كيان الاحتلال بالمطلوب منه. مع الإشارة الى كلام الرئيس نبيه بري عمّا حمله الوفد الأميركي الذي زار لبنان وضم عدداً من اعضاء الكونغرس، وخلص فيه الى القول امام زواره: “إما سيادة مكتملة الأوصاف أو سقوط لكل الاتفاقات. ويا محلى اتفاق 17 أيار”. وهي عبارة تحمل الكثير من المعاني والرسائل السياسية، وجوهرها انه كما تم إسقاط اتفاق 17 أيار لعام 1983 بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان، سيتم إسقاط ما طرحه برّاك والوفد الأميركي المتطرف، الذي حمل أيضا تهديدات مباشرة وواضحة بمنع أي دعم مالي أو اقتصادي عن لبنان، وهو الأمر المعني الأول به عضو الوفد السيناتور ليندسي غراهام رئيس لجنة المال في الكونغرس.
لذلك لا يكفي بنظر المتابعين إعلان الرئيس سلام التمسّك بتنفيذ القرارات الحكومية الأخيرة والالتزام بأهداف الورقة الأميركية، بل يجب أن يبحث مع أطراف الحكومة ومع قيادة الجيش في كيفية تطبيق هذه الالتزامات من دون إحراج الجيش، ومع الجانب الأميركي في كيفية تطبيق الاحتلال الاسرائيلي التزاماته، ومن دون الوصول الى انفجار الحكومة من داخلها، ومن دون أي انعكاس سلبي على الأرض.
… ومشكلة المنطقة الاقتصادية
وجاء اقتراح الرئيس الاميركي دونالد ترامب بإقامة منطقة اقتصادية صناعية في قرى جنوب لبنان الحدودية خالية من السكان، بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير” وفاقمت مشكلة معالجة وضع الجنوب، بحيث ان الاقتراح يعني عملياً تنفيذ طلب الكيان الاسرائيلي بإقامة منطقة عازلة في قرى الحدود الجنوبية لاحياة فيها ولا سكان ولا اعادة اعمار ولا استثمار الاراضي الزراعية لأهاليها، بل منطقة اقتصاد لشركات اغلبها اجنبية، لأن احدا من المستثمرين اللبنانيين لن يفكر في المشاركة بإقامة مشاريع فيها نظراً للمخاطر المتأتية عن رفض ثنائي امل وحزب الله مثل هذا الاقتراح، الذي اعتبرته اوساطهما بمثابة التخلي الكلي عن السيادة اللبنانية على مساحة واسعة من ارض الوطن.
وبدا أيضاً ان الموفدين الاميركيين المفترض انهم “حياديين ووسطاء نزيهين”، ورئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، استبقوا خطة الجيش اللبناني لجمع السلاح، بتحديد مهمة الجيش سلفاً بأنها تقتصر على بند وحيد “ملغوم وفتنوي” يقضي بجمع سلاح حزب الله فقط وبأي طريقة ولو أدّى ذلك الى صدام بين الجيش والمقاومة ومناصريها… وبعدها لكل حادث حديث حول تنفيذ إلتزامات إسرائيل لوقف إطلاق النار والانسحاب من النقاط المحتلة في الجنوب وإطلاق سراح الأسرى وعودة أهالي القرى الأمامية الى منازلهم، بحيث انها ستقرر من أين تنسحب وكيف والى أي مسافة وما الذي يفترض بالجيش أن يقوم به في المنطقة الحدودية.
وبذلك نسفت إسرائيل والموفدون الأميركيون أيضاً أي إمكانية لموافقة حزب الله وحركة أمل على الشروط والمطالب الجديدة التي تفتقر الى الضمانات التنفيذية من جانب الاحتلال، وجاءت أيضا فكرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإقامة “منطقة اقتصادية في قرى الشريط الحدودي خالية من السكان” تلبية لطلب كيان الاحتلال، لتزيد من قناعة اللبنانيين بأن لا الأميركي جادّ في مسعاه لإنهاء التوتر ووقف الأعمال العدائية من قبل جيش الاحتلال، ولا الإسرائيلي بصدد تنفيذ أي خطوة تعيد أهالي الجنوب الى قراهم، حتى لو عاد مستوطنو شمال فلسطين بعد فترة الى مستوطناتهم. وأن كل الجهد الأميركي والإسرائيلي ينصب على أمر واحد هو أن يكون لبنان بلا حولٍ ولا طولٍ ولا قدرة على مواجهة مطامع الكيان الإسرائيلي واعتداءاته مستقبلاً، تماما كما تفعله إسرائيل في سوريا من قصف وتدمير البنى والقدرات العسكرية الباقية من الجيش السوري بحجة إزالة أي تهديد.
لا شك ان مجريات عمل ومواقف قيادة كيان الاحتلال تجاه لبنان وسوريا، وبدعم أميركيي مكشوف – تشير الى ان سياسة التفاوض تحت النار ما زالت قائمة بدليل استمرار الغارات الجوية الاسرائيلية على مناطق الجنوبوالبقاع وسقوط الكثيرمن الشهداء والجرحى من المدنيين وعناصرحزب الله، وان المطلوب جعل الحدود من لبنان وسوريا مع فلسطين المحتلة مناطق ميتة لا حياة فيها، أو وضعها تحت الوصاية العسكرية والسياسية الإسرائيلية إن لم يكن الأميركية أيضاً، وجرّ لبنان لاحقاً الى المشروع الأميركي – الإسرائيلي بتطبيع العلاقات وإنهاء حالة العداء تحت عنوان السلام والازدهار الاقتصادي، وهو ما يخدم أحلام إسرائيل الأمنية والسياسية.
وهكذا… بين فرض قرار جمع السلاح، وبين فكرة جعل منطقة الجنوب من ضمن المنطقة الاقتصادية الاميركية الاقليمية، وقع لبنان تحت عبء ثقيل قد ينتهي بأحد امرين: اما التفهم الاميركي لظروفه وتعقيداته وتوازناته الداخلية وتخفيف الضغط وتلبية بعض مطالب الحكومة اللبنانية، وإما ترك البلد للفوضى وربما الاقتتال الداخلي، كما سبق وحصل في سنوات السبعينيات والثمانيات. لكن توافرت معلومات من جهات سياسية مطلعة على التوجهات الاميركية، انه قدتحصل اعادة نظر بسياسة الادارة الاميركية في لبنان بعد النتائج المخيبة للموفدين الاميركيين والتي قد تؤدي الى ضرب استقرار لبنان بشكل كبيروخطير، وهو ما قد يهدد مشاريع اميركا.